حجر الورد

أتى كنبيٍّ ومضى كنبيٍّ من عالمٍ آخر ومن حُلُمٍ مختلفٍ، علامةً بُعِثت من قِوىً أعلىً “حتى هو لم يكن واعياً بها”.

بيننا مرَّ، بعيداً، بعيداً جدّاً، كنجمٍ حزينْ، ولمحْ: كنّا نفعيينَ، وما كانَ قِدِّيساً، ولكنهُ كانَ يرمي وجههُ في يديهِ كبرتقالةٍ في الثلوجِ، ويبدو، في لحظاتٍ كتلكَ بلا حلمٍ، مثلَنا كُلَّنا.

لم يكُ ما يكفي من الأرضِ لخُطْوَةٍ حين جاءْ، ولا ما يكفي من السماءِ لوجهٍ ماطرٍ أو لدعوة، ولم يكُ أيضاً حزيناً، وكأنّهُ شعر بإزاحةٍ من المكانِ، شَعَرَ كمن جاءَ يودِّعُ سكّانَ الأرضِ. وأعرف: تعاليمُهُ كانت بلا فائدةْ، وكنا نحنُ أيضاً متعبين، مياهٌ كثيرةٌ وقمرٌ واحدٌ، أقمارٌ أكثرُ مما يجب، في هذه الصحراءِ الحمراءِ ولم يكُ ماءٌ ولا أمل. وحتى هو كان ينفلتُ أحياناً كسعدانٍ آليٍّ بفيضٍ من كلماتٍ مُتلبِّسةٍ يُشْعَرُ بها كتشابيهَ نحاسٍ في ذاكرةِ دميةٍ من الخشب.

أنتظرُ شجراً عارياً في الضَّباب لكي يبدأ بالرنينِ كالجرس،

أنتظرُ عصافير المطر عند النهرِ لكي تشربَ سوادَ عينيهِ،

ويا إلهي كم كان متكبِّراً ! كان يهتمّْ، يهتمُّ بكلِّ شيءٍ في هذه البراري التي هجَرَتْها الآلهة والتي ندعوها بوطننا، وفي لحظةِ إيحاءٍ مفاجئةٍ، كومضةِ برقٍ في شتاءِ الأوديةِ، شعَرَ بالحاجةِ لأن يمضي، شعَرَ وفعلْ. ونظرَ إلى الخلفِ، بدا كشفقٍ، ولم يهتمّْ أحدْ، حَزِنَ، قالَ بأنَّ ما حدثَ كانَ حظّاً، أو جنونـاً إلهياً، أو قدراً، أو ميلاً، إن شيئاً، قالَ، حلَّ بهذه البلاد. وكان من الكبرياءِ بحيثُ لا يبقى، ومن القوّةِ بحيثُ لا يُصلبُ. ومضى عيونُهُ واسعةٌ كقارّاتٍ، وفي قلبهِ كلُّ أنواعِ النهورِ ودعوات الأدغالات.

لم أرَهْ. كان غامضاً كحدسْ، ولم يكُ يرى قربَ النهرِ في صباحٍ ماطرٍ لكنهُ كان يتخلَّلُ الفضاءَ الأزرقَ الغامضَ كموسيقىً حالمةٍ وتأتي من أعلى، بعضنا قالَ جاء من المستقبلْ، آخرونْ، بأنهُ من يعيشُ للمستقبلْ. ولكن فعلنا كلَّ ما بوُسْعِنا كي نُشعِرُهُ بوحدتِهِ أكثرَ من ذي قبلْ،وجهُهُ كان مصنوعاً من كلماتٍ ومخطوطاتٍ قديمةٍ، ويتحرَّكُ كقطةْ. ويستمعُ، فقط، يستمعُ لنا، كطفلٍ، ثم يدفنُ وجههُ في يديهِ كما في عشِّ موسيقىً عن مدينةٍ تجذبُهُ للأسفـلِ

حتى تمتصَّ منهُ الحُلُمَْ، ولم يكُ ضحيّةً، أو مبتــذلاً، أو انتحاريّاً، ولكن فعَلنا كلَّ شيءٍ كي يكونَ كذلكَ، لا لشيءٍ إلا لأننا نحبُّ المرايا في هذه

“البلد القديمةْ

لمصابيحِ الزيتِ والحزنْ

بلدِ الصهاريجِ العميقةْ

بلدِ موتٍ بلا عيونْ،

وسهامْ”

كتبَ أغنياتٍ عن العزلةِ والنشوةِ، لقطعانِ ضباعٍ سودٍ، مِثلنا، ولنا، نحنُ الذينَ علينا لا تصحُّ قواعدُ اللغةْ. وفكّرَ بأنّهم ـ أي نحنُ قديماً، فلم نعدْ بعدهُ مثلما كنّا عليهِ قبلهُ ـ فهِموا، وقالوا نتهيّأُ للمسِ الزنبقةِ الأخرى للروحِ، سننضُجُ، قالوا، أما الآن فلا نستطيعُ الغناء على العتبةْ. ربما بدأوا بالتهامِ الأرانبِ والزهورِ، وكان عليهِ بأن ينتظرَ “أنصافَ النباتاتِ وأنصافَ الأشباحِ هؤلاء“ لكي ينتقلوا إلى أكلِ العشبِ فقط، وعندها قد يبدأونَ بفهمِ الرسمِ، ولكن ذا كان سيستغرقُ قروناً سحيقة. وكذا ابتسمَ، فقط إبتسمَ، ونظرَ إلى جهةِ البحرِ، وسمعتُهُ يغنّي:

في الأبيضِ والأزرقِ كنتُ          بقربِ نارٍ شتائيّـــــــَةْ

وكنتُ أخضَــــــرَ بُنِّيَّـــاً              بجمالٍ ودفءٍ في الرغبة

خذي قلبيَ كالعصفــورِ

واتركي لي هذه الوردة الزهريَّةْ

“كلما اتّسعت الرؤيا ضاقت العبارةُ “، قال النِفَّريّْ. ورأيتُهُ يدخلُ الصحراء” غريباً كوحشِ اللهِ في الجبل “، بين عروةِ بنُ الوردِ يحسو قُراحَ الماءِ، والماءُ بارِدٌ، وبين وقفات النِفَّريّْ.

جاءِ إلينا منحدراً من الكهفِ، بعد أن نامَ سبعَ قرونٍ، وكلبهُ باسطٌ ذراعيهِ بالوصيدْ. كان غريبَ الزيِّ واللغةْ، وعِملتُهُ من مملكةٍ قديمةٍ، قلبُها تجارُ السوقِ والحراسُ والجباةُ، ما لهذا النبيِّ يمشي ويأكلُ في الأسواقْ؟ قالوا. فقالَ بأنَّ الشِّعرَ منضبطٌ، والروحُ تشطحُ، والقلبُ والقالبُ مفصولانِ بحرفِ الألفِ الذي يرعى العشبَ كالثيرانِ، ويشربُ الماءَ من بحيرةٍ منعزلةٍ خلفَ غاباتٍ مقمرةِ الإتِّساعْ.

كان المسافةَ بين الوردةِ والفيضـــانِ، بين الفوضى والتحنيط، حوارَ الهندسةِ مع الماءِ، وجهاً نصفُهُ الأولُ من رخامٍ والآخرُ من نارٍ ورقصٍ جنونيّْ، وكان العتمَ الكامنَ في روحِهِ يحاولُ ذبحَ النارِ بلونِهِ، فتهدأَ ريحْ.كنا نرتادُ مقهى النردِ في سوقِ تدمرَ القديمةِ، أيّامَها، كي نستريحَ منَ التجارةِ في بخارى. وكانت جمالُنا تَعْلِكُ الوردَ عندَ البوابةِ الشرقيةِ، ونسخرُ من مشاغلِهِ بحرفٍ أو بجملةٍ. لِمَ؟ قلنا. وعرضنا عليه الخزَّ والخبزَ، قال بأن إبداعَهُ جفَّ، وواد عبقرَ خالٍ، وعرافةُ القمرِ التي دلتهُ أرتهُ محيطاً، أو محيطينِ منحوتينِ من حجرٍ، والموجُ المنحوتُ من حجرٍ يوحي بوهمِ الحركةِ الزرقاءَ. وكذا كانت جمالُنا تَعْلِكُ الوردَ، فبكى، مختلفاً عنا. لم يكُ يبحثُ عما يتشابه في ملامِحِنا من تضاريسْ. قالَ: نصفُ القمرِ أسودٌ، والنصفُ أصفرٌ، وسـأل عن هذا الصوفيِّ الذي وقعَ في حبِّ بحيرةٍ. وتحدَّثَ عن مخطوطاتٍ في معبدٍ صينيٍّ، ربما تشاو-لين. وكما قلتُ لكْ، كان غريبَ الزيِّ واللُّغةْ. كنا نلتفُّ عليهِ كزنزانةٍ، فينبسطُ كبحرٍ وينسرحُ، ومحيطاتٌ أخرى فيه ظلتْ خارجَ العِبارةْ.

حسين البرغوثي



Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail