الشعر العربي: صورة الأنا وعيوب الخطاب / عبد الله الغذامي

وهل في ثقافتنا علة أو علل نسقية تجعلها خطاباً منافقاً ومزيفاً، غير واقعي وغير حقيقي وغير عقلاني ؟ وهل الشعراء مسؤولون عن ذلك؟
وهل صورة (الأنا) الطاغية صيغة متجذرة وأصيلة أم أنها اختراع شعري تسرب إلى سائر الخطابات والسلوكيات؟
الواقع أننا لا نوجه سؤالاً خاصاً، بل إن السؤال يتجه إلى النسق الثقافي العربي كله، وهو نسق كان الشعر ومازال هو الفاعل الأخطر في تكوينه أولاً وفي ديمومته ثانياً.

وفي الشعر العربي جمال وأي جمال، ولكنه أيضاً ينطوي على عيوب نسقية خطيرة جداً، نزعم هنا أنها كانت السبب وراء عيوب الشخصية العربية ذاتها، فشخصية الشحاذ والكذاب والمنافق والطماع، من جهة، وشخصية الفرد المتوحد فحل الفحول ذي الأنا المتضخمة النافية للآخر، من جهة ثانية، هي من السمات المترسخة في الخطاب الشعري، ومنه تسربت إلى الخطابات الأخرى، ومن ثم صارت نموذجاً سلوكياً ثقافياً يعاد إنتاجه بما إنه نسق منغرس في الوجدان الثقافي، مما ربى صورة الطاغية الأوحد (فحل الفحول). ولا ريب أن الاختراع الشعري الأخطر في لعبة المادح والممدوح قد جلبت معها منظومة من القيم النسقية انغرست مع مرور الزمن لتشكل صورة للعلاقة الاجتماعية فيما بين فئات المجتمع، من ثقافة المديح التي تقوم أول ما تقوم على الكذب، مع قبول الأطراف كلها من ممدوح ومادح ومن الوسط الثقافي المزامن واللاحق لها، كلهم قبلوا ويقبلون لعبة التكاذب والمنافقة ودخلوا مشاركين في هذه اللعبة واستمتعوا بها حتى صارت ديدناً ثقافياً واجتماعياً مطلوباً ومنتظراً. هي اللعبة الجمالية الأكثر فاعلية في الشعر العربي أيام عزه مما غرس هذا الخطاب المدائحي في الذهن الاجتماعي، مع ما فيه من قيم أخطرها صورة الثقافة الشحاذة المنافقة، وصورة الممدوح المصطفى من خلاصة الصفات المخترعة شعرياً وأنانياً مترفعاً بذلك عن شروط الواقع والحقيقة.

وإن كنا قد صرفنا قروناً من الإعجاب والاستمتاع بالشعر العربي، وحق لنا إذ نفعل، وهو فعلاً شعر عظيم ولا شك، غير أن جمالياته العظيمة تخبئ قبحيات عظيمة أيضاً. وليس من شك في أن الشعر هو أهم المقومات التأسيسية للشخصية العربية، ورثنا حسناته ووريثنا سيئاته. وفي بحثنا هذا سوف نسعى إلى تشريح الأنساق الثقافية التي نرى أنها هي المكونات الأصلية للشخصية العربية التي صاغها الشعر صياغة سلبية/ طبقية وأنانية، وتخلّق من ورائها أنماط سلوكية وثقافية ظلت هي العلامة الراسخة في قديمنا وحديثنا. كما سنحاول أن نوضح هنا.

1-2 ومنذ البدء كان هناك تصور مزدوج للشعر، حيث ظل يظهر على صورتين متناقضتين، إحداهما تعليه وتمجده والأخرى تزهد فيه وتقلل من شأنه، وظل الشعر بين هاتين الصورتين وكأنما هو العزيز / الحقير، أو الأمير/ العبد.

ولقد ورد في الأثر الشريف في حديث عن الرسول (ص) بأنه قال: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريهُ خير من أن يمتلئ شعراً . وهذا أول موقف مضاد للشعر، إذ أن ثقافة العصر الجاهلي ما كانت لتقف ضد الشعر، مما يجعل السؤال المضاد للشعر سؤالاً إسلامياً من حيث المبدأ.
ولهذا الموقف أثر في الخطاب الثقافي والتدويني، إذ نلمح لدى الجاحظ ما يشير إلى أنه يقيم علاقة بين مقولة عبيد الشعر، لا على أنها تدل على الصنعة فحسب، بل لتدل أيضاً على رابطة الشعر والشحاذة(2). والشعر مزلة العقول في رأي آخرين (3)، مثلما أنه أدنى مروءة السري، وأسرى مروءة الدني(4)، وأصحابه أثافي الشر(5)، وبابه الشر وإذا دخل في الخير ضعف(6)، وكان الأشراف يتجنبون ممازحة الشعراء(7)، حتى إن إحدى الجواري تعففت عن الاقتران بشاعر يتكسب بالشعر(8) ازدراء منها لمن هذه صفته.

ولأبي حيان التوحيدي كلمة تكشف عن موقف مضاد لأخلاقيات الارتزاق المرتبط عضوياً بالشعر، حيث نقرأ قوله: لا ترى شاعراً إلا قائماً بين يدي خليفة أو وزير أو أمير باسط اليد، ممدود الكف، يستعطف طالباً، ويسترحم سائلاً، هذا مع الذلة والهوان، والخوف من الخيبة والحرمان(9).

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail