الشعر العربي: صورة الأنا وعيوب الخطاب / عبد الله الغذامي

بل إن هناك ما يشير إلى أن الشعراء أنفسهم كان لديهم بعض الإحساس بعيوب الممارسة الشعرية، وهناك أقوال للفرزدق تدل على ذلك منها قوله أطعتك يا إبليس سبعين حجة(10)، ووصف نفسه بأنه عذاب على الناس ونقمة عليهم وأنه في خدمة اللئام يرفع لهم أسماءهم(11). مما أدى إلى محاولات لشراء الأعراض من الشعراء كما فعل عمر بن الخطاب مع الحطيئة وتكرر ذلك مع الفرزدق (12). وكتب الأدب تمتلئ بالتحذيرات من الشعراء والحث على تجنبهم وعدم التعرض لهم، فهم ذوو ألسنة حداد(13)، وعداوتهم بئس المقتنى – كما يحذرنا المتنبي(14)-.

هذه ليست سوى أمثلة على آراء منتشرة ومبثوثة في التراث لا تضع الشعر في موضع رفيع، ويبدو عليها الإحساس بالمشكل الشعري، غير أن هذا لم يتطور إلى نظرية ناقدة للخطاب الشعري.

1-3 إنها لم تتطور إلى نظرية نقدية أو حتى إلى وعي نقدي لأن المؤسسة الثقافية الشعرية كانت أقوى وأنفذ، فالشعر علم العرب الذي ليس لهم علم سواه – كما قال عمر بن الخطاب(15) – وهو توصيف موضوعي صادق يصف الحال الثقافية للعرب، مما جعل الشعر ديوان العرب(16) وسجل وجودها الإنساني والتاريخي، ربما إنه كذلك فلا مفر من حث الناس على تعلمه، كما فعل عمر في رسائل إلى بعض ولاته، وكما فعل ابن عباس الذي جعل الشعر أحد مصادر تفسير الآيات القرآنية(17)، وهذا لم يجعل الشعر مصدراً علمياً وتاريخياً فحسب بل جعل له قيمة أخلاقية بما إنه ديوان المآثر وسجل الأخلاق. وهذا حول الشعراء إلى نماذج بشرية تحتذى أقوالهم، ومع الأقوال ستأتي الأفعال أيضاً لتكون نموذجاً سلوكياً يستعاد إنتاجه، وسيتخذ كل قول شعري وكل مسلك شاعري صفة عربية مذ كان الشعر ديوان العرب، أي أنه صورة العربي النسقية والثقافية. ومن ثم فإن الشعراء سيصبحون أمراء الثقافة (أمراء الكلام- كما قال الخليل بن أحمد)(18) وستكون الذات العربية ذاتاً شعرية، وستكون القيم الشعرية هي القيم الثقافية وقيم السلوك الرسمي الاجتماعي، وهذا ما حدث فعلاً حيث صار الشعر هو المؤسسة الثقافية العربية وتمت شعرنة الذات العربية وشعرنة الخطاب العربي.

والسؤال الآن عما جرى للذات العربية بعد أن رضيت بأ، تحول نفسها إلى ديوان شعر، وتترجم وجودها إلى قصيدة.

وإذا ما كان الشعر هو ديواننا، أي سجلنا الثقافي والحضاري، فإن هذا سيعني بالضرورة أننا سنستلهم منه نماذجنا في الفعل وفي التصور، وسنتمثل سيئاته مثلما نتمثل حسناته، ولن نسلم من سيئاته إلا لو جرت عمليات نقد منهجي يشرّح الخطاب ويكشف عيوبه، وهذا ما لم يحدث طبعاً. ولم ينشأ علم علل في نقد الخطاب الشعري، كذلك الذي نشأ في علم مصطلح الحديث. مما جعل الشعر مصدر ذاته ومرجعيتها المطلقة ونتج عنه عيوب نسقية في تكوين الذات العربية.

وعلى الرغم من وجود صفات أخلاقية وجمالية راقية في الشعر يحسن بنا أن نتعلمها وأن نتمثلها، وهي ما يبرر دعوات تعلم الشعر وتربية الناشئة عليه، إلا أن فيه صفات أخرى لها من الضرر ما يجعل الشعر أحد مصادر الخلل النسقي في تكوين الذات وفي عيوب الشخصية الثقافية. ولنتصور الصور الثقافية التالية:

1. شخصية الشحاذ البليغ (الشاعر المداح)
2. شخصية المنافق المثقف(الشاعر المداح أيضا)
3. شخصية الطاغية (الأنا الفحولية)
4. شخصية الشرير المرعب الذي عداوته بئس المقتنى (الشاعر الهجاء)

هذه صور حية في التجربة الشعرية، حتى إن الشاعر الذي لا يمدح ولا يهجو ولا يفاخر لا يعد إلا ربع شاعر، كما قيل عن ذي الرمة(19).

ومع أن الشعراء يقولون مالا يفعلون، فإن اللافاعلية هنا هي إحدى عيوب الخطاب، لأنها تسلب من اللغة قيمتها العملية إذ تفصل بين القول والفعل، كما أنها ترفع عن الذات مسؤوليتها عما تقول، ولذا جاء ذم الشعر الذي هذه صفته في القرآن الكريم. ولو اقتصر الأمر على الشعر كتجربة جمالية لما صار في الأمر ما يزعج، غير أن ارتباط الشعر كتجربة جمالية لما صار في الأمر ما يزعج، غير أن ارتباط الشعر بكونه علم العرب الذي لا علم لهم سواه، وبكونه ديوان المآثر ومدرسة الأخلاق، فإن السمات النسقية تظل تتسرب من هذا الديوان وتتغلغل في نسيجنا الذهني والثقافي ونقوم بإعادة إنتاج هذه النماذج وهذه السلوكيات التي تطبع شخصيتنا بطابعها وتصوغنا حسب قياساتها. وهي صياغات تبدو جمالية فنية ومحايدة، إلا أنها في الواقع تنفذ فينا، ولاشك أن(القول ينفذ مالا تنفذ الإبر) كما يقول الأخطل. وبما أ، الشعراء يكسبون المال والجاه ومعهما السلطة والصيت لمجرد أن يقولوا قولاً بليغاً غير مرتبط بجهد عملي ولا بصدق منطقي، ويجري وصفهم بأمراء الكلام لأنهم- كما ينص القول المنسوب إلى الخليل- يصورون الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل، وتتولى الثقافة الترويج لهذا الفعل وتجميله وتحبيبه لنا، فإن ذلك ولا شك سيدخل في صناعة الشخصية وفي نمذجة الأمثلة، وفي تحسين هذه الصفات لنا، وستتحول هذه إلى قيم تحتذى. ولهذه السمات فاعلية استنساخية خطيرة تتناسل فينا دون وعي منا، وهذا ما يتطلب الاتجاه نحوها بالنقد وبالسعي إلى التعرف على عيوبنا النسقية وعن مصادرها المضمرة.

 

من كتاب: النقد الثقافي, عبدالله الغذامي

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail