النبي / جمال القواسمي

سمع وديع طرقاتٍ خافتةً على باب بيته. اهو مالك البيت يطلب اجرة الشهر؟ ام “قبضاي” الحارة الذي يريد أن يقتله ليستردَّ شرفه بعد أن بات أمس في قسم الشرطة لأنَّ وديعاً قدم شكوى ضده امس الأول؟ ام انهم اطفالُ الحيِّ الذين احالوا حياته جحيماً؟ فتح الباب ورأى زميله في المدرسة، الذي اعلمه بأنَّ مؤسسة “الغيب” للسياحة والسفر اتَّصلت به وقالت انَّها وظَّفتْ وديعاً دليلاً سياحياً لزبائنها، وعليه أن يبدأ العمل غداً. بلا أي داعٍ بكى زميله وكأنَّ بينهما علاقة صداقة حميمة ولن يراه أبداً. اصرَّت والدة وديع على أن تعدَّ الشراب، لكن زميله طلب فنجاناً من القهوة السادة، غبَّها ورحل.

     شعرت الأم انها ستفقد ابنها. لكنها فقدته منذ زمن طويل. إنه لا يحبُّ مدينته، ولا أهله، ولا بيته او جيرانه، حتى انه منذُ أن توظَّف يحتفظ بنصف راتبه لنفسه، رغم أن البيت وإخوته في امسِّ الحاجة الى المال. طبعاً لم تفاتحه بالأمر. اعتادت هي وأخته ميساء أن “تغرشا،” مع العلم انهما لم توافقا على تقديمه طلباً للعمل كدليل سياحي في “مؤسسة الغيب للسياحة والسفر” لأنه سيبتعد عنهم، وسيفقدونه في نهاية المطاف.

     فجأةً سمعوا طرقاتٍ على الباب مرة أخرى. فتح الباب، فإذْ هي فتاة لطيفة ترتدي “افرهولاً” ابيض ذا صدر محفور وبلا اكمام، سألته، “أنتَ وديع؟” ولم تنتظر “نعمَه”، اعطته ظرفاً وقالت، “برقية!” ذهبت واختفت.

قرأ البرقية: “مؤسسة الغيب تريدك الآن.. تعال!”

     لم تستطع أخته ميساء أن تراه بهذه الأنانية المفرطة، فتركت البيت وهي تبكي ووجهها مدفون في راحتيها. حتى إخوته الصغار أخذوا يحملقون فيه كأنَّه جثةٌ لم يتعرَّفوا عليها بفعل تشوُّهٍ طارئ اصابها. اما أمه فاغرورقت عيناها بدموع ثم سحَّت رغماً عنها. لم يكن بوسعه إلا أن يقول لأمِّه، “يجب أن ارحل يا أمي. لم اعد اطيق هذه المدينة او ناسها او الفقر. ساعود، لا تقلقي!” عانقها وودَّعهم. شعر بِوخزةِ ظرفٍ مُقوَّى في جيب قميصه فاخرجه واعطاه لأمه. لم يستطع أن يقول لها انَّ في الظرف شهادة تأمين على حياته، كان يدفع اقساطها الشهرية بنصف راتبه. أحسَّ وهو يخرج من البيت انَّها المرَّة الأخيرة التي يرى فيها الظرف والبيت معاً.

     خرج من البيت، مشى في حارته. إذن، هذه هي المرة الأخيرة التي يمشي في حارته. لم يدرِ لماذا يمعن النظر في وجوه الناس، ويمعنون انظارهم فيه بدورهم، كأنَّهم يشيِّعونه قبل سفره. بل لحق به مالك البيت الذي يسكنه وقال له، “سامحك الله بكل قرش تدين لي به!” وعانقه “قبضاي” الحيِّ الذي اطعمه “قتلة” قبل ايام لأنَّه لم يُمسِّ عليه، وقال له، “اتوسَّل اليك، ارحمني، اغفر لي خطاياي بحقك!” وتبعه اطفال الحارة، الذين كانوا يلقون الحجارة والخضروات “المخمِّجة” على شبابيك بيته وعتبته، وقالوا له وهم يعرضون عليه الازهار والورود، “يا معلِّم، سنحبُّك منذ الآن فصاعداً. ابقَ معنا. لا تتركنا وحدنا. ارحمنا. سنكون لك تلاميذ مطيعين، وسندرس جيداً! نرجوك!”

     لكنَّه صرخ فيهم جميعاً، “تنحُّوا عني يا اولاد الحرام! تنحوا عني!” ظنَّ انهم يتزلَّفون اليه لأنَّهم ادركوا انه سيصبح غنياً. الغريب انهم قالوا له، “سامحك الله! سامحك الله!” وتركوه يغادر الحارة وهم يبكون جميعاً. إذن، هذه هي المرة الأخيرة التي يمشي فيها في شوارع مدينته المملة، التي عيَّرهُ أهلُها بفقره، وصدَّت فتياتُها حبه، وضاقت بيوتُها ومبانيها بروحه السخية.

     اتجه الى محطة سيارات السرفيس التي تذهب الى الجانب الغربي من المدينة، حيثُ يوجد مقرُّ المؤسسة. ظنَّ وهو يهرول خارجاً من حارته انه لمح الفتاة الحسناء ذات الافرهول الابيض، فضحك من خياله الجامح. بل رآها ثانية تركب احدى سيارات السرفيس؛ اتجه نحو السيارة ولم يجدها. فأخذ ينتظر امتلاء السيارة بالركاب. يا إلهي، أحقاً يتجه الى عمله الجديد؟ أهو يحلم؟ سيتخلص من الفقر بسرعة؟ والماضي؟ والملل؟ كلا، الفقراء لا يعرفون الملل، بل التعب والضنك. لقد احسَّ دوماً بأنَّ الملل ترف وفن لا يجيده إلا الاغنياء.

     إذن، هذه هي المرة الأخيرة التي يستقلُّ فيها سيارة السرفيس ويستنشق رائحة الركاب النتنة، غداً بل اليوم يضعون تحت تصرفه سيارةً خاصةً تحلق به في ازقة السموات الرحبة، ومنذُ الآن سيتعرف كلَّ يوم على حور عين ينتقيهنَّ كما يشاء من بين سبعين حورية يركبن معه في الحافلة التي يرافقها. سيغمس نفسه في الملذات حتى الملل. سيأتي الزمن الذي سيستمتع فيه بنعمة الملل. أما الآن فلينفض عن باله كلَّ احلامه وليصعدْ الى الطابق السابع حيثُ توجد “مؤسسة الغيب للسياحة والسفر.”

     كان ثمة اناس كثيرون ينتظرون المصعد. سبعة طوابق  تفصل بينه وبين حياة أخرى. هذا المصعد اللعين لا يتَّسع إلا لسبعة اشخاص. أيصعد الدرج؟ لمَ لا؟ سمع احداً يخاطبه، “اين تذهب؟ المصعد الآخر مُعطَّل!” وقالت له امرأة بدينة خفيفة الظل، “لم يصلحوه بعد!” لكنَّه لم يفكِّر باستعمال المصعد الآخر. أراد أن يصعد الدرج. فعلاً مرَّ بالمصعد المعطِّل، ورأى امامه كرتونة مقواة مكتوباً عليها “الحذر! المصعد لا يعمل!”

     فجأةً وقفت الى جانبه الفتاة ذات الافرهول الابيض، قالت وهي تلهث: “لقد سبقتني! ما اسرعك!” لم يقل شيئاً. لم يستطع. دوَّت عيناه بدهشة ناخرة. لم يستوعب ما يحدث. رآها تضغط زرَّ المصعد. لم يستطع حتى أن يشير باصبعه الى اشارة “الحذر! المصعد لا يعمل!” انفتح مصراعا المصعد. التفتت اليه الصبية وسألته ، “ألا تريد أن تصعد؟” فحملق فيها.

-” تفضَّلوا! ثمة متَّسع كبير ها هنا!” رحَّب بهما صوت لشخص لم يره. قال لها وقد تسمَّرت قدماه عند العتبة، “لكن المصعد لا يعمل!”

 قالت، “بلى، إنه يعمل! لا تخف!” امسكت براحته، دخلا، وانطبقت شفتا المصعد. في الزاوية البعيدة من المصعد كان ثمة بار يمتليء بزجاجات ملوَّنة. كان اناس كثيرون يغنون ويتمازحون ويشربون. دنت منه الفتاة وفضَّلت عليه كأساً من الشراب.

 قال لها، “لا اشرب!”

-” إنه شراب كحولي لا يُسكِر!” قالت له.

     انفجر ضاحكاً، والتفت فجأةً الى الفتاة وقال، “حسب علمي، ففي الجنة وحدها يوجد شراب كحولي لا يُسكر، اليس كذلك؟” رآها تتأمَّل عينيه وتباريح الوجد في نظراتها المتلهِّفة، هزَّت رأسها موافِقَةً، واسقته رشفة من الشراب، فسرت في جسده قشعريرة نحاسية غريبة. اعتراه حالاً قلق على أهله، وحقد على مؤسسة الغيب وأراد أن يخرج من المصعد.

 قالت له، “لماذا أنت عابس هكذا؟ إنِّي احبُّك، ولو أردتني، سابقى معك الى الأبد!”

-” يجب أن اخرج من هذه البناية! اريد العودة الى أمي واخواتي!”

-” ألا تعلم أنَّهم ها هنا؟”

-” هنا؟”

-” نعم! انتظر لحظة..” قالت له. ثم توقف المصعد بعد بُرهة، وانفتح مصراعاه، ورأى مدناً بهية تتناثر على مرمى البصر. شدَّت الفتاة يده، “هيَّا! أهلك في انتظارك!” نادته أمَّه واخته واخوته الصغار، ومالك بيتهم، وقبضاي الحارة، وجميع اطفال حارتهم، وكلُّ اقربائه، واعضاء التنظيم السري الذي ينتمي اليه، وكلُّ زملاء عمله، وكتَّاب المقالات الصحفية، وساسة البلاد وشعبه بأسره. لكنَّه لم يجرؤ على أن يتخطَّى عتبة المصعد. شجَّعته الفتاة الحسناء ذات الافرهول الابيض وقالت له، “هيَّا، تعال!”

 قال، “ليس هذا ما اُريد!”

-” وأهلك؟”

-” هؤلاء ليسوا أهلي. أهلي هناك، في الأسفل، في مدينتي التي لا تعرفها الملائكة ولا الشياطين. اهلي فقراء، بسطاء، ويحتاجون إليَّ. يجب أن اعود..”

-” ستعيش غريباً هناك مثل نبيٍّ بين قوم من الكفرة!”

-” على الأقل، ساعيش!” قال لها وضغط على زرِّ الطابق الأرضي. احسَّ المصعد يرتطم بالارض، فقد توازنه وسقط أرضاً. لحظات قليلة وأحس بأياد تتسلَّل من بين الأنقاض لتخرجه من المصعد. سمع لغطاً مزعجاً ثم سمع بوضوح أحدا يقول، “ثمة ناجٍ آخر! سبحان الله!” انتشلوه من بين الأنقاض، وقف بينهم وقال، “هيَّا لندفن الموتى، إكرام الموتى دفنهم!” خرجوا من البناية. كانت المدينة تعمر بالخراب وتفوح برائحة الدماء المسفوكة ونتن الجثث والجيف. لم يسترح إلا حين دفن أمه وأخته وإخوته وأهل حارته وزملاء عمله وأبناء شعبه. وحين انتهوا من دفن الجثث، ضربوا في الأرض ليبشِّروا الجميع بمدينة جديدة، وحُبٍّ جديد، ومصاعد جديدة.

 

16 حزيران 1996 

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail