اعادة قراءة “الاستشراق” / فواز طرابلسي

 

حقيقة الامر انه جرى تحريف نقد ادوارد سعيد للاستشراق عندنا ليوحي مجابهة بين “شرق” تحوّل الى جوهر وحداني ثابت الخصائص غير متعدد ولا متحول، و”غرب” على مثله من الخصائص. او ليجري تقديم فكره على انه دفاع غير نقدي عن الهوية الدينية او القومية للعرب

 

القيمة التي نادراً ما يجري الحديث عنها لكتاب “الاستشراق” لادوارد سعيد منهجية مزدوجة. فأولاً، كتاب “الاستشراق” عمل رائد من حيث كشفه ان المنتجات الادبية والفنية مشبعة بالمضمرات او المحتويات او حتى الآليات السياسية وتوجيهه الانظار الى اهمية ان تقرأ تلك المنتجات وان تعامَل على هذا الاساس. بل ذهب ادوارد الى ابعد من ذلك اذ برهن، على نحو لامع، ان الاعمال الادبية والفنية (والموسيقية) تقول، احياناً كثيرة، عن المجتمع والعلاقات السياسية والاجتماعية والانسانية عموماً اكثر وابلغ مما تقوله عنها المنتجات المباشرة للعلوم الاجتماعية. وثانياً، ان ادوارد سعيد في “الاستشراق” وتالياً في “تغطية الاسلام” و”مسألة فلسطين” وفي دراسات ومقالات ومساهمات عديدة، اسس لمنهج جديد هو نقد الاعلام. منهج سرعان ما تحوّل الى فرع قائم بذاته من فروع العلوم الاجتماعية او الانسانيات، حسب الحالة.

لست احسبني مبالغاً ولا متجنّياً اذا قلت ان ادوارد سعيد ليس معروفاً بما فيه الكفاية ولا هو مقدّر حق قدره في عالمنا العربي، وإن اكن يغمرني شعور عارم بالحبور كلما شاهدت جموع الشباب تدهم المدرّجات والمسارح حيث يلقي ادوارد محاضراته مدفوعة بحدس ان هذا الرجل يحاكي حساسيتها ورفضها واحلامها.

حقيقة الامر انه جرى تحريف نقد ادوارد سعيد للاستشراق عندنا ليوحي مجابهة بين “شرق” تحوّل الى جوهر وحداني ثابت الخصائص غير متعدد ولا متحول، و”غرب” على مثله من الخصائص. او ليجري تقديم فكره على انه دفاع غير نقدي عن الهوية الدينية او القومية للعرب. وقد انتعشت مثل هذه القراءة بعيد الثورة الاسلامية في ايران وغالباً ما تتجدد لدى كل مجابهة مع قوى غربية. نفى ادوارد هذا التأويل في اكثر من نص وغير مناسبة. والحال ان كل الجدّة في كتاب “الاستشراق” تكمن في توكيده ان العلاقة بين الشرق والغرب انما هي شبكة من علاقات القوة – اي من علاقات السيطرة والخضوع والمقاومات – حيث تلعب الثقافة دوراً بارزاً. من هنا ان موضوع ا لمعرفة الذي اهتم به ادوارد سعيد لم يكن معرفة الشرق او الغرب منفردين وانما العلاقة المتعددة الوجه ذاتها بينهما. وعلى النقيض من تأكيد الهوية في وجه الغرب، فإن مطالبته بضرورة فهم “الشرق” في “الغرب” كانت اصراراً على التفاهم والتعايش والاثراء المتبادل بين الحضارات عبر حدود تماس اريد منها ان تكون حدود انغلاق ومناطق ونزاعات وحروب. الفهم من اجل التعايش والتكامل الحضاري في وجه بناء التمثلات النمطية لاغراض السيطرة. تلك كانت ولا تزال ابرز دعوات ادوارد سعيد في نقده الاستشراق.

ازاء ذلك، كم تبدو سخيفة محاولات اختطاف نقد ادوارد للاستشراق لصالح من أسميهم “حديثي النعمة الاجتماعية والثقافية” من العرب الذين حوّلوا ويحوّلون نقد طريقة تصوير العرب في الغرب الى نعيق مكابر لسان حاله اننا “احسن” من صورتنا في الغرب، فتكاد تُختزل احياناً علاقتنا بذاك الغرب بعلاقة صور وتصورات تملي مهمة تكاد تكون وحيدة، هي مهمة تحسين صورتنا لدى الغرب. ولتحسين الصورة مستوجبات متعددة، تبدأ بإنفاق المزيد من الاموال على الدعاية العربية في الخارج وتنتهي مع اعادة تشكيل صورتنا بما يرضي “الغرب” وهي الاسم المهذّب لما يجري الآن في ظل الامبراطورية الاميركية باسم “اعادة صياغة” المنطقة.

في مناسبة سابقة قلت ان كتاب “الاستشراق” اسس لمنهجين. الاول صريح، سافر، نامٍ ومتطور باستمرار; اما الآخر فمضمر وكامن وضعيف النمو. المنهج الآخر الذي اتحدث عنه هو نقد الاستغراب الذي يعالج الطريقة التي بها يرى الشرق ذاته الى الغرب. لم يحذّر ادوارد سعيد فقط من ان تتسلل التصورات الاستشراقية الى رؤية الشرقيين لانفسهم، ولا هو اكتفى بأن هاجم المرض المستشري في الشرق الذي يلقي باللوم على الغرب في كل شيء، والنظريات المؤامراتية (علماً ان تاريخ الاستعمار يؤكد ان المؤامرات الحقيقية تفوق اكبر شطحات الخيال المؤامراتي). لقد تصوّر ادوارد سعيد نقده للاستشراق بما هو مساهمة ثقافية – سياسية في النضال لتحرر شعوب العالم الثالث من الاستعمار والاستبداد الداخلي وصنع تاريخها بنفسها. وتحديداً في ما يتعلق بهذا النضال وتلك الصناعة، يصير نقد الاستغراب بالغ الاهمية بما هو منهج مكمّل لنقد الاستشراق. ذلك انه معدّ اساساً لتجاوز الثنائية العقيمة التي يفرضها علينا الشرقيون المستشرقون: اما ان نلوم الغرب على مصائبنا واما ان نلوم انفسنا. ان فترة ما بعد هزيمة 1967 شهدت نمو مدرسة نقدية اذ كانت لا تتردد في تحميل علاقات السيطرة الاستعمارية والاستيطان الصهيوني دورها في ما يجري في المنطقة، الا انها كانت حاسمة في إعمالها مبضع الجرّاح لنقد اوجه المجتمع والسلطة والثقافة في المجتمعات العربية. ينتمي ادوارد سعيد، في وجه من وجوه حياته وتطوره الفكري، انتماء وثيقاً الى تلك المدرسة. وهي مدرسة خليقة بأن يجري احياؤها وشحذ نصلها النقدي الآن اكثر من اي وقت مضى ………..

فيما يكثر البحث في جنس الملائكة عندنا، بين شرق وغرب، كان ادوارد سعيد قد تجاوز ابتداء من كتابه “الامبريالية والثقافة” المكمّل لـ”الاستشراق”، ثنائية شرق/ غرب ليجري احتواؤها من ضمن رؤية اشمل هي النزعة الانسانية العلمانية. نزعة تنطلق من الافتراض ان البشر يصنعون تاريخهم، وان من حقهم بالتالي ان يقرروا مصيرهم بأنفسهم، وان العالم الحقيقي هو موضوع المعرفة الاساسي. نزعة مشبعة اخلاقياً ترى الى عالم لا تكون فيه الفروقات والتباينات بين البشر مادة للسيطرة وانما مصدر غنى للجميع. وهي النزعة الانسانية العلمانية التي ارادها ادوارد سعيد وصيته الفكرية والنضالية.

 

مقتطف من مقالة نشرت في النهار (2003) بعنوان “آخر النهضويين” 

 

 

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail