القارئ الأمهر / عزت القمحاوي

وجه عابس بفم مطبق وعينين متسائلتين تماما خائفتين غالبا. لو قابلته في مترو أو على مقهى عند ناصية شارع مجهول ستحسب أنك بصدد رجل لا يدري من أمر القراءة شيئا، غير أنه من الدرجة الممتازة من الجاهلين: ‘رجل لا يعرف ويدري أنه لا يعرف’.
ولكن عليك أن تنتبه؛ فعيون الجاهلين لا تخاف ولا تتساءل. وأما عبوس الوجه فهو المظهر المضلل الثاني لساخر يدخر سخريته لنفسه، عندما يجلس وحيدا ليدون قراءاته للنصوص والوجوه.
عبوس عبدالفتاح كيليطو وخجله الطبيعي صانا وقته من التبدد على منصات المؤتمرات، وعيناه الخائفتان المتسائلتان هما سر المكانة التي حازها بوصفه القارئ العربي الأمهر.
يضيع الكاتب عندما يفقد خوفه من الكتابة، ويضيع القارئ عندما يفقد دهشة السؤال. ولحسن حظ القراء الآخرين لم يفقد كيليطو دهشته أبدا.
وإذا كان في العالم كاتبان بنيا مجدهما بصفتهما قارئين يكسبان عيشهما ومجدهما الأدبي من هذه الصفة، فكليطو ثاني اثنين مع الأرجنتيني ألبرتو مانغويل على ما بينهما من فروق. مانغويل كان يقرأ لغيره، حيث حاز شهرته كقارئ للعبقري بورخيس المفتون بألف ليلة وليلة، وكيليطو يقرأ لصالح فتنته الذاتية بالكتاب نفسه!
مانغويل امتثل طويلا لرغبات ‘الرجل الأعمى’ كما كان يسميه حانقا، لأن بورخيس كان يقوده ويحدد له الفقرات التي يعيدها، وتلك التي يتوقف بعدها طويلا ليتيح لنفسه تأملها. وعبّر مانغويل عن ضيقه بتوجيهات مستمعه من خلال توسيع نطاق الكتب التي عاش لقراءتها والكتابة عنها، بينما ظل كيليطو أسير ولعه الخاص بألف ليلة وليلة.
وإذا جاز لنا أن نبحث بين الكتاب عن مثيلين للقارئين؛ فإن مانغويل يشبه هيمنغواي الذي جاب القارات ليجمع قصصه ورواياته، بينما يشبه كيليطو نجيب محفوظ أو مارسيل بروست، اللذين التقط كل منهما حكاياته من بين قدميه.
حتى عندما يتناول كتبا أخرى، لا يكتب كيليطو إلا عن ألف ليلة وليلة. هو نوع من شهرزاد ذكوري، يروي للقارئ الملك الحكاية ذاتها، ولعله يشبه في هذا الرحالة الإيطالي ماركو بولو الذي أخذ يحكي للإمبراطور قبلاي خان عن مدن عجيبة تتوزع على خريطة الأرض من بلاد الجليد إلى بلاد النار، وتعجب الخان الأعظم:
ـ حكيت لي عن كل المدن ولم تحك عن مدينتك البندقية!
ويجيبه ماركو بولو:
ـ يا صاحب الجلالة.. إنني في كل ما رويت لم أحك سوى عن البندقية.
يذهب كيليطو إلى ‘حيي بن يقظان’ أو ‘كليلة ودمنة’ أو ‘طوق الحمامة’ ويصاحب ابن بطوطة في رحلاته فيجد نفسه في ‘ألف ليلة وليلة’ يذهب شرقا وغربا لكي يتأكد ألا امرأة إلا شهرزاد ولا سردا إلا ما ابتدعه سحرة الليالي المجهولون.
عند ناصية كل جملة وموقف في الليالي يتسكع صامتا، متأملا، مستسلما لفتنة الكتاب الذي يستمد أهميته من كونه مسحورا وخطرا، ولا يعود من جولته إلا وقد ازداد اندهاشا: كيف لم ينم الملك طوال ثلاث سنوات؟!
مَن غير كيليطو انتبه إلى أن شهريار كان يقضي ليله في الاستماع إلى حكايات شهرزاد ثم ينصرف مباشرة إلى ديوان الحكم يولي ويعزل؟
من المفترض أن عبدالفتاح كيليطو باحث أدبي، يقرأ النصوص ويحللها، لكنه لم يمنح قارئه متعة هذه الراحة في تصنيف كتبه؛ حيث يختلط التفكير بالتخييل، وتأتي النتيجة دائما كتابا ممتعا عصيا على الحبس داخل نوع من التأليف، ولا بأس في ذلك لأن الوردة تستمد رائحتها من طبيعتها وليس من اسمها.
تنام الحكاية عند كيليطو على كتف التفكير، لكن صورة الرجل الخائف المتسائل لا تفارق المبدع المفكر. هو دائما غير واثق من النتيجة، يرى التأليف عملا جبارا لا يستحقه إلا راو متخف مثل إله أو مثل رواة ألف ليلة المجهولين، وما عدا ذلك ليس سوى منتحل يجب أن يتحسس خطاه ويطرق أبواب عيون قرائه بخجل ووجل.
في ‘حصان نيتشة’ نرى بؤس أب يقدم لابنته كتابه باعتزاز، منبها إياها الى اسمه على الغلاف، لكنها بسؤال فضولي تثير شكوكه في عمله، ولا ينتقل من هذا الفصل إلا إلى فصل ‘القرد الخطاط’ حيث نرى تلميذا مفتونا بشغف نسخ الكتب بخط جميل، فإذا بهذه المهنة تقوده إلى تحمل عقوبات النسخ التي يفرضها المعلم على كل التلاميذ، فينال النسّاخ البليد مكانة الكاتب الرسمي.
هل رويت الحكايات الجميلة كلها ولم يبق أمامنا إلا نسخها؟
في عمله الأحدث ‘أنبئوني بالرؤيا’ ينقل الراوي عن باحث آخر ‘اسماعيل كملو’ عن حكواتي دمشقي أنه يتصور الملك مؤرقا وقد انصرفت عنه شهرزاد إلى أمراض أولادها، فيجمع الأدباء ويطلب منهم أن يدونوا له ما حدث بينه وبينها ليصبح حكايات جديدة تسليه في ليالي أرقه، فإذا بهم ينصرفون ويعودون بعشرين ورقة يحكون له فيها ما ابتُلي به منذ البداية وحيلة شهرزاد والأثر الطيب لحكاياتها وأخيرا الشفاء والنهاية السعيدة، ولكنه يسألهم: أين البقية؟
ـ أية بقية، أيها الملك السعيد؟
ـ لكن، ما روته شهرزاد في ألف ليلة وليلة، أين حكاياتها؟
وبعد أخذ ورد يأمرهم شهريار: ‘يا كلاب الكتاب، لو أنتم كتاب لكنتم قادرين على كتابة حكايات شهرزاد. إذا لم تفعلوا وتسلموني كتابا فيه جميع الحكايات، منذ المبتدأ حتى المنتهى، من دون إغفال تفصيل واحد، سأعرف آنذاك أنكم دجالون وسينزل بكم عقاب شديد: سأضرب كل يوم عنق واحد منكم حتى أفنيكم جميعا’.
هكذا كانت بداية الجنون الثاني لشهريار فيما تقول الرواية، لكنها حكاية جنون عبدالفتاح كيليطو وهوسه بالكمال، وربما هي حكايته مع الكُتاب غير المجيدين، وكأنه يقول: لتكتب جيدا أو لتنسخ، لأن في داخل كل قارئ شهريار غافيا ولا بد أن ترضيه بالطريقة التي تقدر عليها.
السخرية من الزيف الذي يصل حد الجريمة أحيانا في المجتمع الأدبي تشكل أحد أركان ‘أنبئوني بالرؤيا’، حيث يتخلص الراوي المفتون بالبحث عن شهرزاد والشاعر الأصيل من رعب الكتابة والنشر في حيلة لا يدري هو نفسه إن كانت حيلة أم فخا انزلق إليه رغما عنه.
ينجز الراوي الشاعر ديوانا يخاف من التبجح بنشره، وينزلق في حوار حوله مع شويعر شهير وخال من الموهبة وينتهي الحوار باتفاق بينهما على أن يعيره الشويعر اسمه المشهور، أو بمعنى أصح فإنه طلب استعارة ديوان الشاعر الموهوب ونشره باسمه. وتستقبل الصحافة الأدبية الديوان بالكثير من الترحيب، وعندما ينجز الموهوب ديوانه الثاني ويحاول نشره يفاجأ بالحكم الذي لا تُحتمل قسوته: الديوان ممتاز، لكنك تقلد الشاعر الكبير إلى حد السطو!
يخلع كيليطو قناع العبوس ويمارس سخرياته كما لم يفعل في كتاب آخر، ويتخلى عن حياده وابتعاده عن التعليق على الحياة الأدبية.
اعتاد في كل كتبه الاحتيال على القارئ وانتزاع ابتسامته أمام المفارقات الساخرة في ثنايا نصوص التراث وحكايات الليالي، لكنه في ‘أنبئوني بالرؤيا’ يسخر من المختلين والمدعين في الأوساط الأكاديمية كما يسخر من مظاهر الرياء في حفلات الأدب وافتتاحات المعارض الفنية؛ حيث يتلقى غير الموهوب مديحا من عديم الموهبة وعليه أن يرد المديح بمديح، بينما فتنة القراءة في مكان آخر.
رب قارئ عابس بعينين خائفتين تماما قلقتين غالبا أفضل من ألف كاتب ممن تعدون.

 

عن القدس العربي

 

 

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail