أمي لا تحب البرتقال وقصص أخرى / رماح جبر

أمي لا تحب البرتقال

أمي وقد باعت ذاكرتها لرفوف المطبخ، ها هي تجمع البرتقال في كيس أسود كي لا ينظر فيه الجيران، تحاسب البائع ولا تفاصله بالسعر.
تطير أمتاراً سريعة أمام ظلِّها لكنها لا تسبقه ولا هو ينتظرها، هكذا تُبدِّد التعب مشياَ إلى بيتها.
في الطريق تبحث عن دمية لأحمد، وحذاء رياضي لسهى، تعيد ما تبقّى إلى حقيبتها وتحسب الأيام المتبقية لآخر الشهر.
أمي لا تحب البرتقال، لكنها باعت خاتمها الغالي على قلبها لأن أخصائية تغذية في برنامج صباحي قالت بأن البرتقال ضروري جداً لصحة الأطفال.
هكذا كررت أمي فوائد البرتقال على قبر جدتي التي غضبتْ حين علمت بأن هدية موتها لابنتها بيعت لشخص يقدر العمر بغرامات عيار أربعة وعشرين.
تبتسم أمي وهي تُعِدُّ الأرض فوق جسد جدتي، ترشُّ الماء برفق ثم تعود تاركة خلفها ظلَّ شجرة البرتقال الصغيرة وحزن جدتي عليها.

أحمر شفاه

كانت تلفُّ نفسَها جيداً خشيةَ البرد، حرِصَت أن لا يلمسَ الشال المطرَّزُ فمها كي لا يخفف من احمرار شفتيها الاصطناعي.
هذّبتْ غرَّتها على موديل التسعينيات حيث كانت الموضة أيامها في أبشع مراحلها، أول الواصلين والواصلات تجلس دائما في المقعد الأمامي خلف البروجيكتور تماماً، كانت تدخل مسرعةً من الباب لتحجز الكرسي الأول علماً أنها على يقين بأن أحداً لن يسبقها إليه.
يغريك منظرها وهي تبدو في هيئة ناقد حقيقيّ، حين تجادل الشاب المسؤول عن عروض الأفلام، أدير ظهري أنا لكلِّ الضجر الذي يملأ المكان بعد حصة دراسية دامت ساعتين، يدهشني حماسها الذي لا يخفت، كيف ستحتمل هذه المرأة البقاء لثلاث ساعات، داخل هذا الفرن الطبيعي، فلتخرج وتنعش ساقيها اللذين سمح لثلثهما بالانكشاف، بالهواء البارد.
نفس المشهد يتكرر مع كل يوم ثلاثاء برفقة الشال وأحمر الشفاه ذاتيهما، ككل ثلاثاء ها هي تعود بعد ساعتين أو اقل أو أكثر، تنقر الأرض بنعلها النسائي، تَعدُّ خطواتها في الطريق وتنسى ما شاهدته في الفيلم لتستطيع مشاهدته مرة أخرى إن كرَّروا عرضه في وقت لاحق.
تلقي نظرة إلى الضوء الأبيض الهارب من بيت أم حسن قبل أن تطرق الباب بيدٍ متأكدة، سرعان ما ينطفئ الضوء وينمنم الهمس الجماعي أذنيها، تعيد الخبط ثانيةً على الباب بإصرارِ مريضٍ عند باب الطبيب الوحيد في قرية نائية.
يخفُّ الهمس وتخف طرقتها قليلاً، ثم تهجم عليها فكرة مبهمة تعطيها قوة عنيفة تبلع فيها الدرج إلى بيتها بلعاً.
ما أن تصل أعلى الدرج حتى يعود الضوء الأبيض يتسلل من غرفة جلوس أم حسن إلى الحديقة، تَعدُّ حبات الليمون على الشجرة وتقول في نفسها الليمون على الأرض أكثر، لماذا بخلت علي أم حسن حين حملت الكيس اسألها بعضاً منه، حماتها كانت أطيب منها، أم حسن الغبية، ألا تعرف بأني اكشف الضوء قبل أن اطرق الباب، يا لها من غبية.
تغير ملابسها، تُخرج ما اشترته من الدكان لأولاد أخيها، تنمِّق الأشياء على الطاولة بانتظار خبطاتهم العنيفة، لكنهم لا يأتون، كما في كل ليلة تنتظر حتى العاشرة ثم تنزل إليهم في سكنهم، تطرق الباب خفيفاً ثم تدخل، الهدوء والعتمة كما في كل ليلة أيضاً، زوجة أخيها نائمة، الأولاد نائمون، أخوها يجلس وحده قبالة التلفاز يتابع فيلماً أمريكياً، هو من هواة الأفلام أيضاً، تجلس بقربه تسأله عن الفيلم فينهرها، إما أن تتابعي بصمت أو ..
تلفُّ شالها حول فمها، تضع الأشياء للأطفال على الطاولة، ترتبها يسهل على الأطفال معها أن يعرف كل منهم حصته، ولا تغادر، بل تجلس صامتة تتابع الفيلم

بعد الظهر، قبل الظهر، وما بينهما

 

بعد الظهر
يرفع سبَّابته، يحك الجزء الأمامي من أنفه، يُعدِّل نظَّارته من منتصفها، ويلتفت إلى منتصفي، يفتح فمه كأنه سينطق ثورة من الكلمات، لكن لا حروف تخرج، ولا ابتسامة حتى.
ملأ دخانه الغرفة، تشكَّل الدخان على هيئة نساء، واحدة ممتلئة بأرداف كبيرة، وأخرى قصيرة بكرش كبير، ثالثة قصيرة بثديين ضئيلين، رابعة طويلة جداً فقط .
اختبأن في زوايا الغرفة الكثيرة الأثاث ونظرن إليّ على التوالي، ثم نظرن إليَّ جميعهن،
هو لم يراهن، ولم يراني، كان ينفث الدخان، ويفكر .
حبس نَفْسه بين الكرسي وحافة الطاولة عند الباب مباشرة، كي يفرّ قبل أن تقبض عليه رغبته. بدا منظر السجين مضحكاً في البداية، ثم صار حزيناً لأسباب لا أعرفها، وسرعان ما تحول هذا الحزن إلى حقد وغضب عندما خرجت من فمه أول كلمة منذ ما يقارب الساعة.
خرج من البيت يحمل هاتفه النقال يتحدث إلى متَّصل مجهول بعد أن أشار إليَّ بإصبعه أن افتح الباب، فتحته وخرج مع كلماته المتلككة.
راقبته من النافذة على غير عادتي حتى اختفى.
لم أكسر الفنجانين على الطاولة بل غسلتهما برفق، لم أرمِ بأعقاب السجائر بغضب، ولم أكسر المنفضة الجديدة التي اشتريتها خصيصا له، لم أرمِ بهاتفي على الأرض كما كان يُلحُّ علي عقلي الغاضب، ولم اخضع لرغبته أيضا –عقلي- في كسر المرآة التي لا أرى فيها كل يوم إلا صورتي.
لم أخبره أنه الوحيد الذي يدخل هذا البيت لأحرمه الفرح بتفرده، ولم أخبره انه الوحيد الذي اشتم رائحتي خلال سنين كي لا يشعر بالفخر، ولم أخبره أنني لستُ عاهرة كي لا يستمتع بتميُّزه
لكنني لم استطع أن امنع نفسي من البكاء.

قبل الظهر
أبتسمُ للمارين على جانبي الطريق بقلقِ من ينتظر نتيجة امتحان، هل أحاول الاتصال، لأنتظر قليلا .
أصلُ البيت على عجل كمن نسي إناءً يغلي على النار ويأمل بان لا يكون قد احترق، أداعب طفلاً وقف بالباب يقول انه جاري، أتحبب إليه، كي يقول أني حسنة الطباع فلا يخبر الآخرين عن الرجل الذي يحبني أكثر من مرتين في الشهر.
انفض الغبار عن السجادة الخفيفة، أمسح الهواء بعطرٍ خصص ليحفظ الجلد طرياً، أرتِّب الأواني كي يبدو البيت مريحاً للنظر، أفتحُ النوافذ وأطفئ النور الأبيض المزعج الذي يجذب أنظار المارة بنفس الكم الذي يجذب فيه الناموس.
أنظرُ حولي كآليٍّ يمسح المكان بحثاً عن مواد متفجرة، لا شيء ، إذن كل شيء مرتب ونظيف، أذهب لمرآتي انظر فيها جيداً، هل أضيف بعض الرتوش، لا سيكون ذلك مبالغ فيه، فأخرج ثم أعدل عن رأيي فأعود، أضيف بعض الألوان فأبدو كمهرج أو كما كانت تقول أمي ” متل عروسة المولد ” ، ثم أبدأ رحلة البحث عن ورق التنظيف فأجده أخيراً خلف السرير.
أمسح الألوان وأغسل وجهي أفرك جسدي جيداً، أفركه بصابون مُعطَّر على عجل، تنسكب العبوة كُلُّها في حوض الاستحمام، فلا أكترث.
أجلس إلى الطاولة انظر في هاتفي، هل أَتصل؟ لأنتظر قليلاً قال انه سيأتي، أفتح جهاز اللابتوب فأجد الضوء أخضر قرب الاسم، لماذا ما زال هناك؟ لماذا لم يتحرك بعد؟
انظر جيداً في الشاشة، الضوء ما زال اخضر انه هناك على الطرف الآخر، أنتظر قليلاً، انتظر كثيراً، لم اكتب له شيئاً كي لا يشعر بالكبرياء، افصل القابس عن الكهرباء لأفصل نفسي عن شاشة الانتظار.
لم أسمح لنفسي بالتفكير كي لا تهزمني الظنون، لم أنظر من النافذة كي لا يسجنني إطارها الضيق، لم أطلق قدمي في البيت لتفريغ التوتر، بل جلست هادئة مستكينة.
أنظر في هاتفي ولم امنع نفسي أخيرا من الاتصال به.

وما بينهما
انتظار

 


MEMORIES OF AUTUMN Edward Bernard

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail