نقد الفكر الديني – مأساة ابليس 1

 

 

 

القسم الأول

 

صادق جلال العظم

 

تمهيد

 

لو حاولنا أن نحدد المشاعر الرئيسية التي عبّرت بها الأديان الساميّة الثلاثة عن علاقة الانسان بالإله لوجدنا أنها تنحصر في المحبة والخوف والكراهية: محبة الله، والخوف من جبروته وعقابه، وكره عدوه إبليس. عالج المفكرون الدينيون هذه المشاعر وأفردوا لها الصفحات والكتب، وكانت أقوالهم عن إبليس تتراوح بين المحاولات “الجدية” لمعرفة المكانة التي يحتلها في نظام الكون وتحديد علاقته بالإله، واستقصاء الغاية التي وجد من أجلها، وبين مجرد الاستفاضة في شرح تلبيسه على البشر وتلقينهم التعاليم والتعاويذ المعروفة بغية إبعاده، واتقاء شره. لا شك أن كل واحد منا يحمل في مخيلته صورة معينة عن شخصية إبليس ورثها كجزء لا يتجزأ من ثقافته التقليدية وتربيته الدينية. ولا أجدني مضطراً لأن أسترسل طويلاً في إعادة هذه الصورة إلى الأذهان، لأنها معروفة جيداً لدى الجميع. كان إبليس من المقربين بين الملائكة وكان له شأن عظيم في نظام الملأ الأعلى، إلى أن عصى أمر ربه فطرده من الجنة، ولعنه لعنة أبدية، فأصبح بذلك تجسيداً لكل ما هو شر، وجمع في ذاته كافة الخصائص التي تنتفي عن الله. ونلاحظ هنا أن اسمه يدل على جوهره وهو “الإبلاس”، أي اليأس التام من رحمة ربه، ومن العودة إلى الجنة (وفقاً للتفسيرات الإسلامية التقليدية لمعنى الإبلاس). ومن منا لا يعرف المثل الذي يُضرب بأمل إبليس في الجنة، دلالة على الأمل الضائع كل الضياع. تدل كلمة “إبليس” عند الجميع على الدس والفتنة والوسوسة والافساد والعصيان، وما إليه من الصفات الشنيعة والقبيحة التي جسدها خيال البشر في شخصية واحدة هي الشيطان. وعلى مر العصور أضفت مخيلة الانسان قوى كبيرة، وقدرات عظيمة على إبليس: منها الطاقات الفكرية الخلاقة، والقوى الفنية المبدعة، ومنها القدرة على القيام بخوارق الأعمال، وعجائب الأفعال، حتى أصبح إبليس يلي الإله مباشرة من حيث قوته ومنجزاته. وقد ألف الإمام جمال الدين بن الجوزي كتاباً سماه “تلبيس إبليس”(2) . أحاط فيه بالطرق التي يلبّس بها إبليس على البشر فيبعدهم عن طريق الصلاح، والطريف في هذا الكتاب أنه لا يرسم لنا الصورة التقليدية الشائعة لشخصية إبليس فحسب، وإنما يسبغ عليه، من حيث لا يعلم ولا يدري، قوى خلاقة مبدعة تثير الاعجاب والتقدير. وعلى سبيل المثال يعزو ابن الجوزي معظم الحركات الدينية والفكرية الكبرى التي قامت في تاريخ الحضارة الإسلامية إلى عمل إبليس، ويجعله مسؤولاً عنها، فيحوله بذلك إلى فيلسوف كبير، ومتكلم قدير. يقول إمامنا المحترم أن السفسطائية، والدهرية، والطبائعية، وأديان الشرق الأقصى، والمسيحية، وعلم الكلام، وفرقة المعتزلة هي من أعمال إبليس، ونتيجة لتلبيسه على المفكرين والعلماء(3) . كما أنه يرد حركة الخوارج والرافضة والزهد والتصوف إلى تلبيسه على ائمة هؤلاء القوم، بما فيهم، أبي طالب المكي، والإمام الغزالي(4). ويقول عن بعض الآراء الفلسفية ما يلي:”إن أرسطو طاليس وأصحابه، زعموا أن الأرض كوكب في جوف هذا الفلك، وأن في كل كوكب عوالم كما في هذه الأرض، وأنهاراً، وأشجاراً… فانظر إلى ما زينه إبليس لهؤلاء الحمقى مع ادعائهم كمال العقل”(5). كما أنه يقول عن تلبيس إبليس على أهل اللغة والأدب ما يلي:”قد لبّس على جمهورهم، فشغلهم بعلوم النحو واللغة من المهمات اللازمة التي هي فرض عين عن معرفة ما يلزمهم عرفانه من العبادات، وما هو أولى بهم من آداب النفوس وصلاح القلوب”(6).

نستنتج إذن، أن الفكرة الشائعة عن مقدرة إبليس لا تنحصر في مجرد اعتباره مصدر إغواء الناس عن سلوك الطريق القويم، بل تتعدى ذلك لتشمل قوى واسعة، وقدرات عظيمة لو أخذناها بعين الجد، لظهر لنا أن إبليس يسيّر قسماً كبيراً من مجرى الأحداث، ويعتبر مسؤولاً عن معظم الحركات الفكرية والفنية والسياسية في تاريخ الحضارة.

بعد هذه المراجعة السريعة للصورة التقليدية الشائعة عن إبليس، وسلطانه، أريد أن أبين أن هدف هذه الدراسة هو إعادة النظر في قصة إبليس، ودراسة شخصيته وموقفه، ومسؤوليته ومصيره على ضوء جديد يختلف عما ألفناه من عقائد وأفكار سيطرت على تصورنا لهذا المخلوق. أما المراجع الأولية التي سأعتمد عليها فهي الآيات القرآنية التي تروي لنا قصة إبليس وسيرته وبعض المؤلفات التي تركها لنا المفكرون المسلمون الذين اهتموا بإبليس وشخصيته، وعصيانه، ووظيفته، ونهايته.

ولكن قبل أن أدخل في صلب الموضوع، أريد أن يتضح للجميع أن بحثي يدور في إطار معين، لا يجوز الابتعاد عنه على الاطلاق، ألا وهو إطار التفكير الميثيولوجي – الديني الناتج عن خيال الانسان الاسطوري وملكاته الخرافية. إنني لا أريد معالجة قصة إبليس باعتبارها موضوعاً يدخل ضمن نطاق الايمان الديني الصرف، ولا أريد أن أتكلم عنه باعتباره كائناً موجوداً وحقيقياً، وإنما أريد دراسة شخصيته باعتبارها شخصية ميثيولوجية، أبدعتها ملكة الانسان الخرافية، وطوّرها وضخمها خياله الخصب. عند التفكير بموضوع إبليس، أجد نفسي واقفاً وجهاً لوجه أمام تراث ميثيولوجي – ديني عريق في قدمه وتاريخه. وجل ما أريد تحقيقه هو دراسة إحدى الشخصيات الرئيسية التي انحدرت إلينا مع هذا التراث، شرط أن نبقى ضمن حدود المعطيات البديهية للتفكير الميثيولوجي وبدون أن نخرج عن مسلماته الأولية.

ومن هنا، يجدر بي أن ألفت الانتباه إلى أن الفكرة المسبقة والشائعة عن الاسطورة، وعن أهميتها بعيدة قليلاً عن حقيقة الدور الذي تلعبه الأساطير في حياة الانسان، وفي تركيب حضارته. لقد اعتدنا أن نقول عن أمر ما أنه من باب “الأساطير والخرافات”، لنحط من شأنه ونبعد أذهان الناس عنه، ولننفي عنه صفات الواقعية، والموضوعية، ولنبين أنه مجرد وهم وخيال. لذلك أرى أنه لا بد من الاستطراد ولو قليلاً في شرح بعض الحقائق الهامة عن طبيعة الاسطورة، وعن أهمية التفكير الميثيولوجي بالنسبة للانسان والمجتمع.

عرّف الفلاسفة الانسان بأنه “حيوان ناطق”، وإذا كان الانسان حيواناً ناطقاً، فلا شك كذلك بأنه “حيوان خرافي”. فكما أنه الحيوان الوحيد الذي يتصف بالنطق، فإنه الحيوان الوحيد الذي ينسج الخرافات والأساطير ويحولها إلى ميثيولوجيات معقدة، يؤمن بها إيماناً جازماً، كما لو كانت حقائق واقعة لا ريب فيها. التفكير الاسطوري إذن صفة جوهرية من صفات الانسان، ووجه هام من أوجه نشاطه العقلي بالمعنى الواسع للعبارة. لذلك وجه الكثيرون من الباحثين اهتمامهم إلى دراسة نشاط الانسان الخرافي، لما يكشفه من الحقائق الأساسية عن الانسان وعن مجتمعاته وقدراته وثقافاته وحضاراته. وعلى سبيل المثال عندما أتكلم في هذا البحث عن “مأساة إبليس”، لا بد أنكم ترجعون في أذهانكم إلى الارتباط العضوي القديم بين المأساة والدراما من جهة، وبين الميثيولوجيا والتفكير الأسطوري من جهة أخرى. كما أن إعادة النظر في هذه الشخصية الاسطورية التي درجنا على تسميتها بإبليس ستتفتق عن أبعاد ونتائج هامة بالنسبة للدين، والفن والفلسفة. وقد بذل الباحثون جهوداً كبيرة لشرح العلاقات والارتباطات العضوية بين التفكير الأسطوري وبين الابعاد الدينية والفنية والفلسفية لأية معضلة من المعضلات الكبرى التي يواجهها الانسان. الميثيولوجيا بحد ذاتها كانت ولا تزال ديناً بالقوة وفلسفة بالقوة، لأنها تحتوي في قالبها المرن غير المحدد الأطراف والأبعاد على عناصر المواساة والتعزية الضرورية لكل دين، وعلى خصائص التعبير الفني الخلاقة والاستجابة الجمالية للمؤثرات التي تحيط بالانسان، وعلى نزعة نحو تعليل الأحداث وتفسير الوجود والتساؤل عن أصله وغايته. بالاضافة إلى ذلك، كانت الأسطورة ولا تزال الوسط الذي واجه الانسان فيه مشكلاته الكبرى والدائمة كالموت، والمصير، والشر، وأصل الأسياء وغايتها ومعناها. لذلك كان التفكير الميثيولوجي يشكل دوماً قوة حضارية خلاّقة يغرف منها الفكر الديني والتأمل الفلسفي والتعبير الفني باستمرار. وزيادة في الإيضاح سأستشهد بنص كتبه الفيلسوف الإلماني إرنست كاسيرر الذي يعتبر من الرواد الذين درسوا طبيعة الأسطورة، وبينوا علاقتها الجوهرية بباقي أوجه النشاط العقلية، والروحية، والفنية عند الانسان. يقول كاسيرر في تحديده لعالم الأسطورة، وهو العالم الذي حصرت نفسي فيه في هذا البحث، ما يلي:
“فعالم الأسطورة، عالم درامي – عالم أعمال وقدرات وقوى متصارعة، والأسطورة ترى هذا الاصطدام بين تلك القوى في كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة. والادراك الأسطوري مفعم دائماً بهذه الخصائص العاطفية، فكل ما يرى أو يحس محاط بجو خاص – جو من الفرح أو الحزن أو العذاب أو الهياج والاستبشار والغم. في حال الأسطورة لا نستطيع أن نتحدث عن “الأشياء” باعتبارها مادة ميتةأو هامدة، فكل شئ ثمة خيّر أو شرير، صديق أو عدو، مألوف أو غريب، جذاب معجب أو منفر متوعد”(7).

سأختتم هذا الجزء التمهيدي من بحثي بالتأكيد على أن كلامي عن الله وإبليس والجن والملائكة، والملأ الأعلى لا يلزمني على الاطلاق بالقول بأن هذه الأسماء تشير إلى مسميات حقيقية موجودة ولكنها غير مرئية. إن تركيب اللغة يتطلب مني بطبيعة الحال أن أكتب وأتكلم بطريقة معينة توحي في الظاهر وكأن الشخصيات التي أذكرها موجودة بالفعل، ولكن يجب ألا يخدعنا هذا الوهم اللغوي، فلو كنت أكتب عن الأمير هملت مثلاً فلن يعتقد أحد منكم بأن لهذا الاسم مسمى خارج نطاق التراث الأدبي الذي تركه لنا شكسبير. كما أنه عندما نقول “قتل هملت عمه”، فإننا لا نعتقد بأن مثل هذه الحادثة وقعت فعلا في تاريخ الدانمرك. كذلك عندما نقول “طرد الله إبليس من الجنة”، يجب ألا نظن بأن مثل هذه الحادثة وقعت في تاريخ هذا الكون، لأن مغزى هذا الكلام ومعناه يكمن في كونه رمزاً لا في كونه وصفاً لإحداث وقعت بالفعل.

 

 

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail