العمل الأدبي والجنون – لعبة الحياة أو الموت / ميشيل فوكو

 

 

 

 

 

ان جنون الكاتب كان عند الآخرين فرصة لرؤية حقيقة العمل تولد وتعود من جديد لتولد دون توقف في احباط التكرار والمرض

إن جنون تاس Tasse واكتئاب سويفت Swift وهذيان روسو Rousseau كل هذه الحالات معبر عنها في أعمالهم، تماما كما أن هذه الأعمال مرتبطة بأصحابها. فالعنف الذي يتكلم في نصوصهم وفي حياتهم هو من نفس الطبيعة، أو نفس الهم، رؤى تحاور فيما بينها، اللغة والهذيان يتداخلان. بل هناك ما هو أكثر من هذا: لقد كان العمل والجنون، في التجربة الكلاسيكية، مرتبطين ارتباطا عميقا على مستوى آخر: هذا يضع حدا لذاك، انها مفارقة. ذلك أن هناك منطقة يتمرد فيها الجنون على العمل، ويختزله بشكل ساخر، جاعلا من مشهده المخيالي عالما باثولوجيا من الاستيهامات. أن هذه اللغة لم تكن قط عملا بل هذيان. والعكس صحيح، لقد كان الهذيان ينفصل عن حقيقته الهزيلة كجنون، ليثبت نفسه باعتباره عملا.

 

ولكن في هذا التمرد ذاته، لم يكن هناك اختزال يمارسه هذا على ذاك، ولكن بالأحرى (فلنذكر بحالة مونتيني) اكتشاف للشك المركزي الذي ينبعث منه العمل في اللحظة التي يتوقف فيها عن الانبعاث، لكي يكون فعلا عملا. ففي هذه المواجهة، التي كان لوتس أو سويفت شاهدين عليها بعد لوكريس – والتي حاولوا عبثا توزيعها على فترات الصحو وفترات الأزمة – تم اكتشاف مسافة تطرح فيها حقيقة العمل ذاته مشكلة : هل هي عمل أم جنون؟ الهام أم استيهام؟ ثرثرة عفوية أم أصل خالص للغة؟ هل يمكن التقاط حقيقته قبل ولادته حول حقيقة الإنسان الباسط، أم اكتشافها، فيما هو أبعد من أصلها، في الكائن الذي تفترضه؟. ان جنون الكاتب كان عند الآخرين فرصة لرؤية حقيقة العمل تولد وتعود من جديد لتولد دون توقف في احباط التكرار والمرض.

 

ان جنون نيتشه وجنون فان غوغ أو جنون أرتو معبر عنه من خلال عمل صاحبه، وهنا تنتهي الحكاية، قد يكون ذلك التعبير عميقا الى هذا الحد أو ذاك، ولكنه تم من خلال عالم آخر. ان تواتر هذه الأعمال في العالم الحديث، وهي أعمال تنفجر في الجنون، لا يدل على أي شيء دون شك حول عقل هذا العالم وحول معنى هذه الأعمال، ولا حتى على مستوى الروابط التي قامت ثم تلاشت بين العالم الواقعي والفنانين الذين أنتجوا هذه الأعمال. ولكن، ومع ذلك، يجب ان نأخذ هذا التواتر مأخذ الجد، كما لو أنه سؤال ملح. فمنذ هولدرلين ونيرفال، تضاعف عدد الكتاب والرسامين والموسيقيين الذين “غرقوا” في الجنون، ولكن علينا ألا ننخدع، فما بين الجنون والعمل لم يكن هناك توافق وتبادل دائم ولا تواصل بين اللغات. فالمواجهة بينهما كانت أكثر خطرا عما كانت عليه من قبل، واحتجاجهما لا يرحم الآن، فلعبتهما هي لعبة موت أو حياة. ان جنون ارتو لا ينساب بين ثنايا العمل، أنه أصلا غياب للعمل، الحضور المشبع لهذا الغياب، ان فراغه المركزي معبر عنه ومحدد في أبعاده التي لا تنتهي أبدا.

 

عن كتاب “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي” ميشيل فوكو – ترجمة سعيد بنكراد

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail