كــافافـي وهامْلِت

 

 

 

سعدي يوسف

مَرَّ نحوٌ من ثلاثين عامـاً على نقلي إلى اللغة العربيةِ مُعْظَـمَ أشعارِ اليونانيّ العظيم كونستانتين كافــافي
( 1863- 1933 ) .
لقد صدرتْ طبعاتٌ عدّةٌ للترجمة المذكورةِ ، ووجدت أشعارُ كافافي سبيلاً لها في المتنِ الشعريّ العربيّ الأحدث ممّا ظلَّ يُشعِرُني بأن اختياري كافافي ، في بغداد المكفهرّة ، آنذاك ، كان لجوءاً إلى حِـمى الشِعرِ وحمايتِــه ، ومحاولةً لقهرِ النوائبِ عن طريق الفنّ ، ومفتتَـحــاً لمنبعٍ شعريّ يغتذيهِ الناسُ ، من محبّي الشِعرِ وممارسيـهِ .
في هذه الأعوامِ الثلاثين لم تنقطعْ علاقتي بالرجل ، وهو الـمَـعْــلَـمُ والـمُـعَـلِـمُ . كنتُ ألتجيءُ إلـيه ، وأتعلَّـمُ منه ، وأرتاحُ لعِـشـرتِـهِ ، بل فكّرتُ أكثرَ من مرّةٍ في إعادةِ نقلِهِ إلى لغةِ قومــي ، مستزيداً ، ومدقِّــقــاً .
كم تبدو الحياةُ باهتةً ، وكم يبدو التاريخُ غبيّــاً ، بدون كافافي

قبل أيامٍ ، وفي دكّانةٍ ٍ بإحدى القرى الإنجليزية ، في منطقتي غربيَّ لندن ، دكّانةٍ للثيابِ و الكتب المستعمَـلةِ ، عثرتُ على ترجمةٍ مدقّقةٍ موثّقةٍ ، مع هوامشَ ، لأشعارِ كافافي . عدد القصائد التي يضمُّها الكتابُ كان مائةً و أربعاً وسبعين قصيدةً ، أي أن الكتاب هو الأشملُ في ما اقتنَيتُ من كتبٍ لأشعارِ كافافي .
وقد فوجِئتُ بقصائدَ رائعةٍ لم أكن اطّلعتُ عليها من قبلُ .
من بين هذه القصائدِ ، واحدةٌ عن هاملِت ، هاملِت أمير الدانيمارك ، شخصية شكسبير الإشكالية دائماً .
والأغربُ في الأمرِ أن هذه القصيدة هي الطولَـى ، في كل ما كتبَ كافافي ، وتضمُّ اثنَينِ وتسعين بيتاً .
والمعروفُ عن كافافي أنه يفضِّلُ القصيدةَ القصيرةَ .
عنوانُ القصيدةِ ” الملك كلوديوس ” وتتكوّنُ من مقاطعَ يبلغُ عدد أبياتِ المقطعِ الواحدِ منها أحد عشــرَ ، وهي غيرُ مقفّاةٍ ، على غير عادةِ كافافي الغالبة في التقفية .
أمّا الملك كلوديوس ، فـهو عمُّ هاملِتْ ، الذي تزوَّجَ أمَّ الأميرِ الشابّ ، بعد موتِ الأبِ.
في ما يأتي ، ترجمتي للقصيدةِ ، وهي ترجمةٌ حرّةٌ ، أي أنها لا تتمتّعُ بجهدٍ عروضيّ ، عربيّ ، يقرِّبُـــها من العروضِ الإغريقيّ الذي كتبَ به ، كافافي ، قصيدتَه هذه .
وقد لا أكون الوحيدَ في هذه الـمَـثْـلَــبــةِ الفنّـيّـةِ .
فأرجو المعذرة !

الملكُ كْـلودْيـوس
شِعر : كونستانتين كافافي

فِكري يطوفُ الآنَ في أماكنَ نائيةٍ .
أنا أمشـي في شــوارعِ ألسينور،
خلالَ ساحاتِها ، وأستذكرُ
الحكايةَ الحزينةَ ذاتَها –
ذلكَ الملِكَ ذا الحظِّ العاثرِ
الذي قتلَـهُ ابنُ أخيــهِ
بسببٍ من وسواسٍ و شكوكٍ .

في كل بيوتِ الفقراءِ
كانوا يبكونَ ، في الســِـرَّ ، حزناً عليهِ
( كانوا يخافونَ فورتنبراس ).
إنه امرؤٌ هادئ ، مهذّبٌ
أحَبَّ الســلامَ
( عانتْ بلادُهُ ، الكثيرَ ، من حروبِ سَـلَــفِـهِ )
وكان كريماً في تعامُلِـهِ مع الجميع ،
الرفيع بينهم والوضيع .
ما كان مستبدَّ الرأي ، أبداً
كان يَنشدُ المشورةَ
في شؤونِ المملكةِ
من أناسٍ ذوي حِنكةٍ وتجاريبَ.

أمّا لماذا قتلَـهُ ابنُ أخيــهِ …
فأمرٌ لم تتَسَـنَّ معرفتُهُ ، البتّــةَ .
شـكَّ الأميرُ في أنه ارتكبَ القتلَ
أمّا أساسُ الشكِّ فهو هذا :
بينما كان يمشــي ، ليلاً ، على شرفةِ حِصْنٍ
ظنَّ أنه رأى شبحاً
وأنه تكلَّمَ مع هذا الشبحِ ؛
ويُفترَضُ أنه سمِعَ من الشبحِ
اتّهاماتٍ معيّــنــةً ضد الملِك.

يجب أن تكونَ نوبةَ تهاويلَ ،
أو توَهُّماً بَصَــرِيّــاً
( كان الأميرُ بالغَ العصبيةِ ؛
حين كان يدرسُ في وِتـِنْــبَـرغ ،
كثيرٌ من زملائهِ ، الطلبةِ ، ظـنّــوه مجنوناً ).

بعد بضعةِ أيّامٍ ، ذهبَ
إلى غرفةِ أُمِّــهِ ، ليتحدّثَ معها
عن شــؤونٍ عائليةٍ ما . وبغتةً ،
بينما كان يتكلّمُ ، فقدَ السيطرةَ على نفسِــهِ ،
وشــرعَ يصيحُ ويصرخُ
بأنّ الشبحَ كان أمامَه ، هناك.
لكنّ أُمَّــه لم ترَ شيئاً البتّةَ .

وفي ذلك اليومِ نفسِـهِ ،
وبلا أدنى سببٍ
قتلَ سيِّداً شيخاً من البلاطِ.
ولأنّ الأميرَ كان ينبغي أن يبحرَ إلى إنجلترة
في يومٍ أو اثنَينِ ،
أرادَ الملِكُ أن يُسَــرِّعَ في مغادرتِهِ
بُغْــيـةَ إنقاذِهِ.
لكنّ الشعبَ كان مستشيطَ الغضبِ
على فِعْـلةِ القتلِ البشعةِ،
حَدَّ أن المتمردينَ نهضوا
وحاولوا اقتحامَ بوّاباتِ القصرِ
يقودُهم ابنُ القتيلِ ،
السيدُ النبيلُ ليرتِس
( وهو شابٌّ شجاعٌ ، طموحٌ أيضاً ؛
وقد هتفَ ، في الفوضى الضاربةِ ، أصدقاءُ لهُ :

يعيشُ الملِكُ ليرتِس ! ).

في ما بَعْدُ ، حينَ هدأت المملكةُ
وسُجِيَ الملكُ في قبرِهِ-
قتلَهُ ابنُ أخيهِ ، الأميرُ ،
الذي لم يذهبْ إلى إنجلترة ، البتّةَ
بل هربَ من السفينةِ التي كانت تأخذه إلى هناك-
شخصٌ يُدْعَى هوراشيو ، تقدَّمَ
وحاولَ أن يبريءَ ساحةَ الأميرِ
بحكاياتٍ من اختلاقِهِ ، هو.
قال إن الرِّحلةَ إلى إنجلترةَ
كانت مؤامَرةً ســرِّيّــةً ، وإن أوامرَ
قد صدرتْ لقتلِ الأميرِ هناك
( لكن ذلك لم يتّضِحْ أبداً )
كما تحدَّثَ أيضاً عن خمرٍ مسمومةٍ-
خمرٍ سـمَّـمَـها الملِكُ .
صحيحٌ أن ليرتِسْ تحدَّثَ عن هذا أيضاً.
لكنْ ، أليسَ ممكناً أنه كان يكْذِبُ ؟
أليسَ ممكناً أنه كان مخطئاً ؟
ومتى قال ذلك؟
قالها ، وهو يُحتضَرُ من جراحِهِ ، وقد اضطربَ عقلُهُ
وصارَ كلامُهُ هذياناً .
أمّا عن الأسلحةِ المسمومةِ
فقد تبَيَّنَ في ما بَعدُ أن التسميمَ
لم يكنْ فِعلةَ الملكِ ، بتاتاً :
لِيرتس هو مَن فعلَ ذلك.
لكن هوراشيو ، كلّما ضُيِّقَ عليه الخِناقُ
قَدَّمَ حتى الشبحَ ، شاهداً :
الشبحُ قالَ هذا وذاكَ،
الشبحُ فعَلَ هذا وذاكَ !

وبسببٍ من هذا كلِّــهِ ، ومع السماحِ لهوراشيو بأن يقولَ ما يقول
فإن الناسَ ، في غالبِهم ، وفي أعماقِ قلوبِهم
كانوا يترحَّمونَ على الملكِ المسكينِ ،
الذي
مع كل تلك الأشباحِ والحكاياتِ الخرافيةِ
قُتِلَ ظُــلْــماً
وتَـمَّ التخلُّـصُ منه.

لكنّ فورتنبراس
الذي اعتلى العرشَ بكلِّ يُسْــرٍ
انتبَهَ
مُقَدِّراً
كلَّ كلمةٍ قالَها هوراشــيو .

ــــــــ
– ألسينور ، هي قلعةٌ على البحر في كوبنهاجن ، العاصمة الدانيماركية ، جرتْ فيها الأحداثُ المؤلمةُ لقصة هاملِت.
وقد زرتُ القلعةَ ، صحبةَ دُنى غالي وزوجها ، وكان من نتيج هذه الزيارة كتابتي ثلاث قصائد عن ” شُرفة هاملِت”.
ملحوظة : كتبَ كافافي القصيدةَ في شهر تموز من العام 1899.

علاقةُ كافافي باللغة الإنجليزية وأدبِها ليستْ طارئةً . وعلاقتُه بشكسبير ليستْ طارئة أيضاً . كتابتُه باللغة الإنجليزية محدودةٌ جداً ، بل نادرةٌ ، ويؤثَرُ عنه أنه كتب مقالةً يطالب فيها باسترداد الآثار اليونانية الموجودة في المتحف البريطانيّ. أمّا شكسبير فقد قرأه كافافي جيداً ، كما يبدو ، وحاولَ أن يترجمَ مسرحية ” جعجعة بلا طَحْنٍ ”
Much Ado About Nothing
إلى اللغة اليونانية ، لكنه لم يتقدّم كثيراً في المشــروع .
إلاّ أننا الآنَ أمامَ عملٍ كاملٍ ، أمامَ أطولِ قصيدةٍ كتبَها كافافي ، وهي لصيقةٌ بشكســبير ، بل بواحدةٍ من أهمّ مســرحيّاته بإطلاقٍ .

كيف أطلَّ اليونانيّ ( الهِـلِّـينيُّ ) على النصّ الشكسبيريّ ؟

من قراءتي الثانية لقصيدة ” الملك كلوديوس ” ، حظِيتُ بتلخيصٍ عجيبٍ ، ماهرٍ ، للمســرحية ، المعقّدة من زوايا عدّةٍ ، تلخيصٍ لن يقدرَ عليه إلاّ قاريءٌ ماهرٌ ، قاريءٌ براغماتيٌّ إن شِئتَ .
لقد قدّمَ كافافي المسرحيةَ الشكسبيريةَ جاهزةً على طبقٍ ، كأننا في مطعمٍ يونانيّ جيدِ الخدمةِ !

بدءاً من العنوان ” الملك كلوديوس ” ، نهجِسُ أن كافافي يريد توجيه دفّةِ السفينةِ نحو بحارٍ أليفةٍ ، نحو مياهٍ يونانيةٍ جنوبيةٍ ، لا أوروبيةٍ شماليةٍ . كلوديوس ، اسمٌ كأنه آتٍ من سلوقيا أو البطالسة . حتى في النصّ الشكسبيريّ لا يُستدعى الرجل إلاّ بصفة ” الملك ” ، أي أن لفظ كلوديوس لم يأتِ لدى شكسبير إلاّ في قائمة الشخصيات.
بإمكاننا الإشارةُ ، ونحن نتحدّث عن تاريخية القصيدة الكافافية ، إلى أن هذه القصيدة معْنيّــةٌ عنايةً واضحــةً
بالصراع على الـمُلْكِ أو الـحُـكمِ في الفترة الهلّينيةِ بخاصّةٍ ، ولدينا من الشواهدِ مايكفي . كما بإمكاننا الإشارةُ إلى أن تلك القصائد المعنيّة بالتاريخ الهلّـينيّ ، تلتقطُ الشخصياتِ الأكثر تأثيراً في الحدث ( الســياسيّ عادةً ) ، وتُغْفِلُ الأشخاصَ الأقلَّ تأثيراً ، حتى لو أدّى الأمرُ إلى إخلالٍ ما بالواقعة التاريخيةِ . قصيدة ” الإله يخذل أنطونيو ” مثلاً ، لم يأتِ كافافي على ذِكْــرِ كليوباترا ، فيها ، مكتفياً بهيأةِ أنطونيو وهو يودِّعُ الإسكندرية من شـرفةِ القصرِ .
في ” الملك كلوديوس ” لم يأتِ كافافي على ذِكْــرِ أوفيليا ، البتّـةَ !
هكذا بقرارٍ عجيبٍ ، غابت أوفيليا ، مع أغانيها المؤلمة ، ونهايتِها الأكثر إيلاماً !
حتى الملكةُ الأمّ ( أُمّ هاملِتْ ) لم يأتِ ذِكْرُها إلاّ عابراً ، ملقّـبةً ، لا مسمّاةً .
لكنه في قصائده الهلّينيةِ يذكرُ ، بتمجيدٍ في أحيانٍ كثيرةٍ ، أسماءَ ملكاتٍ إغريقيّاتٍ ؛ غير أن علينا ملاحظة أن هؤلاء الملكاتِ كان لهنّ دورٌ في لُـعبةِ الـمُلْكِ ، وفي إعلاء شأنِ الهلّـينيــةِ في ما كان يُسَـمّى اليونان الكبرى.
وربما كانت قصيدته ” في إسبارطة ” صالحةً للتمثُّلِ في هذا السياق :
لم يعرف الملكُ كليومَنيس ، ولم يجرؤْ
لم يعرفْ كيف يُخبرُ أمَّــه
بأمرٍ كهذا : طلب بطليموس ، لضمان المعاهدةِ بينهما
أن تذهبَ أمُّــهُ أيضاً إلى مصرَ
وتُحتجَزَ هناكَ رهينةً –
إنه لأمرٌ مُهينٌ ، وغيرُ لائقٍ .
وكان يوشك أن يقوله لكنه يتردد
وكان يبدأ لكنه يتوقّف.

لكنّ السيدةَ الجليلةَ فهمتْـهُ
( كانت سمعتْ شائعاتٍ حول ذلك )
وشجّعتْـه أن يفصحَ عمّا في نفسِهِ
وضحكتْ ، قائلةً إنها ذاهبةٌ طبعاً ،
سعيدةٌ بأنها حتى وهي في تلك السنّ
ما زالت نافعةً لإسبارطة.
أمّا المَهانةُ فلن تَلحَقَ بها ، إطلاقاً.
صحيحٌ أن طارئاً مثل” لاجِــد”
قد لا يفهم الروحَ الإسبارطيةَ ؛
ولذلك ، فإن طلبه لن يُلحِقَ الإهانةَ
بسيّدةٍ من الأســرةِ الـمالكةِ مثلِها ،
أُمٍّ لِـمَـلِـكٍ إسبارطيّ

بعدَ الاستبعاد الواضحِ ( من جانب كافافي ) للعنصرَينِ النسائيّينِ ، في النصّ الشكسبيريّ ، يمكنُنا الحديثُ عن الطريقةِ التي تناولَ كافافي ، بها ، شخصيةَ الأميرِ الشابّ ، هاملِت .
معروفٌ تواتُراً ، أن كافافي يرى في عشرينيّاتِ الفِتيانِ ، الـعُمْرَ الجميلَ . وليس عسيراً علينا الرجوعُ إلى نصوصِه التي ( تنصُّ ) على ذلك العمرِ الجميل.
من قصيدة ” في المرفأ ” : إيميس ، فتيٌّ ، في الثامنة والعشرين .
من قصيدة ” الطاولة المقابلة ” : يجب أن يكون بالكادِ في الثانية والعشرين .
من قصيدة ” جاء هناك ليقرأ ” : لكنه في الثالثة والعشرين ، وجميلٌ جداً .
وهناك قصائدُ أخرى تحتفي بالعمْرِ الجميلِ هذا .
هاملِتْ ، أيضاً ، محظوظٌ بأنه في ذلك العمْرِ .
لكنْ ، لِمَ لم يكن محظوظاً ، مع كافافي ؟
الفِتيانُ ، أو الشبّانُ ، الذين يتمتّعون بالمرْتبةِ الأثيرةِ لدى كافافي ، هم مندرِجون في سياقٍ معيّنٍ ، كان ، كما بــدا لنا ، جانباً من الحياةِ في المستوطناتِ الإغريقية ، وفي الحضارة الهلّـينيّــةِ .
هم بِضعةٌ من واقعٍ قائمٍ فعلاً .
لكنّ هاملِتْ ، كما قدّمه شكسبير ، وكما عالجَه كافافي ، لم يكنْ يعيش في الواقعِ المتاحِ .
هاملِتْ كان يعيش مع الوهمِ .
شاهدتُ مؤخراً ، الممثل البريطانيّ الشابّ ، ديفيد تينَتْ ، في دور هاملِت ، لكنْ ضمنَ إطارٍ معاصرٍ ، في ما يتعلّق بالديكور والملابس .. إلخ .
لقد بذل ديفيد تينت جهداً خارقاً ، في النصّ ، والأداءِ ، لكنّ هاملِت ، بالرغم من تلك الجهودِ كلِّـها ، ظلَّ بعيداً.
والسببُ في هذا ، واضحٌ ، كما أعتقدُ ؛ بل بسيطٌ : هاملِتْ يحيا في الوهمِ ، لا في الواقعِ .
أين نجدُ هاملِت ، في جوِّهِ المفضَّـلِ ؟
أعني ، أين نجده ، مستريحاً في استجابتِه ؟
لا بدَّ لنا هنا ، من مراجعةِ العملِ الشكسبيريّ أوّلاً .
ولنستبعِدْ شاعرَنا الإسكندريّ قليلاً !
يبدو لنا هاملِتْ ، في المسرحية الشكسبيرية ، مستريحاً ، كالسمكة في الماء ، كما يقال ، حين يكون بمنأىً ما عن الواقع .
زملاؤه الطلبة ، كما يُروى ، يعتبرونه مختلّ العقل .
في القصرِ ، يخضع لمراقبةٍ خفيّةٍ ، ذهبَ أبولونيوس ضحيةً بائسةً لها .
لكنه مستريحٌ تماماً في موضعَينِ :
حين يكون مع هوراشــيو ، الذي ظلَّ يعزف على وترِ الشبحِ ( الوهمِ ).
وحين يكون مع الكوميديّـينَ ، الذين يحكون عن الواقع ويحاكونه من موقعهم غير الواقعيّ ( الوهم ) .
حتى مقتل أبولونيوس ، حدثَ في عالَمٍ من الوهمِ . لقد قُتِلَ الرجلُ من خلف ستارةٍ (إشارة إلى الوهم ) .
*
إذاً ، لم يكن الأمير الدانيماركيّ ، مؤثِّراً في الأحداثِ . كان متأثراً بها ، وضحيةً لها .
هوراشيو اختلقَ ما اختلَقَ ، وخلطَ الحابلَ بالنابلِ ، ضمنَ خطّةٍ معقّدةٍ وقاسيةٍ ودمويّةٍ ، لكي ” يعتلي فورتنبراس العرشَ بكل يُسْــرٍ ” حسب تعبير كونستانتين كافافي.
*
لقد لخّصَ كافافي ، حكايةَ أميرِ الدانيمارك ، بطريقتِه ، معتبِراً الأمرَ كلَّــه ، مؤامرةً في قصرٍ ملَكيّ ، شبيهةً بتلك المؤامراتِ التي اشتهرَ بها البطالسةُ ( في مصر ) ، والسلوقيّــون ( في ســوريا وما جاورَها ) ، وهي ذاتُ موقعٍ أثيرٍ في اهتمامات كافافي ، التاريخية ، والشِعرية .
لكأنّ قصيدة كافافي عن أمير الدانيمارك تقول:
ماتَ الملِك.
عاشَ الملِك!

وفي لُـعْــبــةِ الـمُلْـكِ القــاسيــة ، بل بالغةِ القســوةِ ، سقطَ ضحايا عديدون ، لم يكن هاملِت أفضلَـهم بأيّ حالٍ .
فنِّـيّــاً ، أعتقدُ أن كافافي قدَّمَ نصّــاً أكثرَ تماسُكاً ، وأقلَّ ترَهُّلاً من مســرحية شكسبير :
هاملِت ، أمير الدانيمارك .
لقد كان شكسبير واحداً من الضحايا !

لندن 08.02.2010

مُــلــحَـقٌ

قلعةُ ألْـسِــينور ( قلعةُ هاملِت )
سـعدي يوســف

الخندقُ ذو الماءِ الأخضرِ تعْبرُهُ أغصانٌ وعصافيرُ
وتعْبرُهُ أحذيةُ الســوّاحِ
وأشباحُ البحّارةِ في سُفُنٍ غرِقـتْ …
أنا أعْبرُهُ أيضاً .
لكني أتحسّـسُ ألواحَ الجِســرِ
أُحِسُّ بها ، لَـيِّــنـةً
ومُباغِتــةً
ماءٌ في لونِ الخشبِ …
القلعةُ تسْكنُ في القلعةِ
كالدمِ في الدمِ ،
أنتَ ، اللحظةَ ، لن تتقرّى ألواحاً أو حَجــراً
لن تدخلَ من بابِ التاريخِ
ولن تأْنسَ باللوحاتِ المعروضةِ في البهوِ
ولن تسمعَ وشوشــةَ البحرِ
الآنَ ستدخلُ في نفسِكَ
كالحلَزونِ اللائذِ بالقوقعةِ …
………………….
………………….
………………….
الآنَ ستهجِسُ وقْعَ خُطىً في ليلٍ ناءٍ
وستُنصِتُ للأصواتِ المكتومةِ
تُنصِتُ للدرَجِ الصاعدِ نحوِ الأسئلةِ …

انـتـبِـهِ الآن !

لندن

09.07.2002

 

عن موقع الشاعر سعدي يوسف
Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail