الرواية الأليفة / عزت القمحاوى

الذي‮ ‬يقرأ البساطي‮ ‬يحبه بالتأكيد،‮ ‬ومن‮ ‬يعرفه‮ ‬يحبه أكثر،‮ ‬ويصعب عليه تحويل هذا الحب إلي كتابة،‮ ‬في‮ ‬مناسبة كهذه‮. ‬ومن حسن الحظ أن القارئ لا‮ ‬ينظر إلي صداقاتنا وإنما‮ ‬ينظر إلي كتاباتنا وينتظر منا كلامًا عن الكتابة‮. ‬
وكتابة البساطي‮ ‬تنبع من عدم اليقين والخوف الدائمين‮. ‬وهذا هو سر استمرار البساطي،‮ ‬لا بمعني مراكمة عمل وراء الآخر،‮ ‬بل بمعني استمرار الحساسية،‮ ‬واستمرار قدرة الكاتب علي الاندهاش وقدرة كتابته علي الإدهاش‮. ‬
لا‮ ‬يفتقر إلي المعرفة النظرية بالكتابة،‮ ‬لكنه ـ حفاظًا علي خوفه ـ‮ ‬يعتبر الكلام التنظيري‮ ‬نوعًا من العيب،‮ ‬يخفي‮ ‬قناعاته،‮ ‬ويخفي‮ ‬قراءاته،‮ ‬ومثل مزارع‮ ‬يراقب زراعات جيرانه‮ ‬يعتمد علي قراءاته الحلوة في‮ ‬الرواية ومشاهداته للأفلام المتقنة‮. ‬ومثل مزارع صبور أخذ‮ ‬يراكم مجموعة قصصية وراء مجموعة،‮ ‬ثم رواية بعد مجموعة طول عقد التسعينيات ثم رواية وراء رواية طوال العقد الأول من الألفية الثالثة،‮ ‬عائدًا إلي القصة في‮ ‬النهاية علي فراش المرض‮.‬
قصّاص
يحكي‮ ‬ماركو بولو لقبلاي‮ ‬خان حكايات عن كل المدن،‮ ‬وفي‮ ‬النهاية‮ ‬يتعجب الخان الأعظم‮: ‬حدثتني‮ ‬عن كل المدن ولم تحدثني‮ ‬عن مدينتك فينيسيا،‮ ‬فيقول له‮: ‬إنني‮ ‬لم أتحدث سوي عن فينيسيا‮. ‬البساطي‮ ‬بالمثل أصدر العديد من الروايات لكنها كانت قصصًا تمطعت فاستطالت قليلاً‮. ‬ولهذا فهو قصاص بالأصالة،‮ ‬روائي‮ ‬بالانتساب،‮ ‬معظم رواياته تقع في‮ ‬جنس النوفيلا الذي‮ ‬يصالح شعرية القصة علي سردية الرواية‮. ‬
وجاءت رواياته بسيطة المعمار،‮ ‬لكن مستريحة تمامًا في‮ ‬بنيتها أليفة مع عالمها‮. ‬خطوط السرد القليلة تناسب فقر العالم الذي‮ ‬يعالجه؛ في‮ “‬صخب البحيرة‮” ‬أو في‮ “‬جوع‮” ‬أو‮ “‬فردوس‮” ‬عدد قليل من الشخصيات،‮ ‬لا تغادر جلساتها أمام الأبواب إلا لأعمال فقيرة أو لاستلاف رغيف من هذه الجارة أو كوب زيت أو ملعقة شاي‮ ‬أو سكر من جارة أخري‮. ‬
هذا هو كل شيء في‮ ‬حياة تبدو‮ ‬غير جديرة بأن تحكي،‮ ‬لكن البساطي‮ ‬يصنع من هذا السكون عالماً‮ ‬صاخباً‮ ‬تزوره البهجة عبر مسرات صغيرة،‮ ‬تشبع تطلعه إلي الحياة،‮ ‬مثلما‮ ‬يمثل وجود رغيف الخبز الحاف نوعاً‮ ‬من الرضي‮ ‬يتحول إلي سعادة عندما‮ ‬يكون هناك‮ ‬غموس بسيط كقطعة مخلل أو‮ “‬لحسة عسل أسود‮”!‬
يكتب من ذاكرته عن ريف لم‮ ‬يعد موجوداً،‮ ‬وهذا لم‮ ‬يزعجه،‮ ‬وظل مستمتعًا بالبقاء في‮ ‬فردوسه،‮ ‬وهل‮ ‬يخلو عنوان روايته‮ “‬فردوس‮” ‬من تدبير حلمي؟
استفادت كتابة البساطي‮ ‬من هذا الحنين إلي‮ ‬غير الموجود،‮ ‬واستمدت شعريتها من الغياب‮. ‬المسافة بين الواقع وبين ما شمه ورآه ولمسه الكاتب ذات‮ ‬يوم بعيد جعلت الواقع‮ ‬يبدو في‮ ‬كتابته مثل الصورة علي سطح ماء،‮ ‬التي‮ ‬تفوق بمراحل قوة صورة المرآة المصقولة،‮ ‬فهي‮ ‬برأي‮ ‬دارس أحلام الماء المبدع جاستون باشلار صور أقل‮ ‬يقينية وأكثر عرضة للإمحاء،‮ ‬لكنها أكثر عمقًا وشاعرية أيضًا‮. ‬صورة اللايقين‮ ‬يصنعها ثقل الماء وإظلامه وحركته‮.‬
‮ ‬من باب التنويع أو مخاتلة القاريء،‮ ‬أعطي البساطي‮ ‬إشارات مضللة بأنه‮ ‬يكتب رواية مدينة،‮ ‬لكننا سرعان ما نجده‮ ‬يعود بالشخصية إلي جذورها الريفية لينطلق معها علي أرض الأحلام الهشة التي‮ ‬يعرفها جيدًا‮.‬
في‮ ” ‬ليال أخري‮ ” ‬نري امرأة جميلة وغامضة تنتمي‮ ‬إلي عالم المثقفين في‮ ‬المدينة،‮ ‬عشاقها محكومون بموت‮ ‬غامض،‮ ‬وهي‮ ‬رغم الجمال والجاذبية الأكثر بؤسا وقلقا بين النساء،‮ ‬لكن الرواية ليست رواية مدينة تماما،‮ ‬لأنه عاد في‮ ‬مساحات واسعة منها إلي الطفولة الريفية للبطلة‮. ‬وكأن المدينة لم تكن سوي خشبة مسرح لعرض صور البطلة وصور مطارديها من المثقفين في‮ ‬مرآة الماء،‮ ‬وهذا‮ ‬يجعل من‮ “‬ليال‮” ‬أخري التمثيل الأوضح لفلسفة العالم المعتم التي‮ ‬تكتنف حتي عناوين الروايات والقصص‮: ‬ساعة مغرب،‮ ‬بيوت وراء الأشجار،‮ ‬ضوء ضعيف لا‮ ‬يكشف شيئًا،‮ ‬وأصوات الليل‮. ‬
ولا تميز العتمة الشفيفة عوالم كتابة البساطي‮ ‬فقط،‮ ‬بل تنطبق علي نعومة فنية تخلط المذاهب والمدارس،‮ ‬حيث نلاقي‮ ‬في‮ ‬الواقعي‮ ‬وجه الفانتازي‮ ‬في‮ “‬الخالدية‮” ‬ووجه الكابوسي‮ ‬في‮ “‬ليال أخري‮” ‬ووجه الواقعية السحرية في‮ “‬صخب البحيرة‮”.‬

أثر الصمت
تصف كتب التراجم صاحب الفضل والهيبة بأنه‮ “‬علي طريقة مثلي من الصمت‮” ‬كما‮ ‬يعتبره المتأدبون بديلاً‮ ‬عن الكلام التافه،‮ ‬لكن ما من إشارة‮ ‬في‮ ‬كتب اللغة تفصِّل‮ “‬بلاغة الصمت‮” ‬أو ما من دراسة مشبعة تكشف عن جماليات الصمت الفني‮ ‬المطلوب لمناسبة مقتضي الحال‮. ‬وكتابة البساطي‮ ‬مثال لهذا الصمت الذي‮ ‬يناسب مقتضي حال أحجام أعماله وعوالمها‮.‬
عاش البساطي‮ ‬لاقتفاء أثر الصمت عبر قراءة الأفذاذ في‮ ‬اقتصاد اللغة مثل تشيخوف وهيمنجواي‮ ‬وعبر مشاهدة الأفلام الجيدة لكبار مبدعي‮ ‬العالم،‮ ‬لكن تأثر الكاتب بغيره مشروط بقدرته علي القراءة؛ فهي‮ ‬تحتاج إلي موهبة لا تقل عن موهبة الكتابة،‮ ‬وكثير من الكتاب لا‮ ‬يحسنون القراءة‮.‬
يتأثر الكاتب كذلك بما‮ ‬يحب،‮ ‬أو لنقل بما كان‮ ‬ينتوي‮ ‬كتابته استنادًا إلي نسقه الخاص،‮ ‬ويجد فيما‮ ‬يقرأ ما‮ ‬يدعم اتجاهه القائم علي حدسه وسماته الشخصية‮. ‬والتقشف هو سمة البساطي،‮ ‬يتجلي في‮ ‬السلوك العفيف والشعور بالغني،‮ ‬كما‮ ‬يتجلي في‮ ‬معمار الرواية البسيط وفي‮ ‬فقر أبطالها،‮ ‬ولم‮ ‬يبق للغة إلا أن تنصاع وتلتحق بمنظومة الاستغناء هذه‮. ‬كل كلمة لا ضرورة لها لا‮ ‬يجب أن تبقي‮. ‬
مساحات الصمت طويلة دائمًا،‮ ‬يعقبها كلام قليل،‮ ‬حتي أن هناك جملاً‮ ‬تترك مفتوحة وناقصة،‮ ‬علي هذا النحو‮:‬
ـ رأيتهم؟‮ ‬
خمسة
كان من الممكن لكاتب لا‮ ‬يحسن الظن بذكاء القاريء أن‮ ‬يقول‮: ‬نعم رأيتهم،‮ ‬وكان عددهم خمسة‮. ‬وربما استبد به الحماس فأخذ‮ ‬يصف هيئات الرجال الخمسة واحدًا فواحدًا‮. ‬ولا‮ ‬يناسب هذا الاختزال مقتضي حال الكتابة فقط من حيث المعمار‮ ‬يتناسب مع فقر البيئة الروائية مع اختزال اللغة،‮ ‬لكنه‮ ‬يساهم بشكل أكيد في‮ ‬كشف الحالة النفسية‮. ‬أعتذر عن عدم توثيق السؤال وجوابه،‮ ‬فقد علقا بذهني‮ ‬سنوات طويلة من قصة ليست تحت‮ ‬يدي‮ ‬الآن لأذكر عنوانها،‮ ‬ويقدم فيها الاقتضاب اللغوي‮ ‬أبلغ‮ ‬تعبير عن الحزن،‮ ‬فقد كانت القصة ثرثرة متقطعة حول لا شيء بين عجوز وزوجها‮. ‬وكانت مهمة هذا اللاشيء هو توفير المهرب لعجوزين‮ ‬يتطلعان إلي صورة ابنهما الراحل علي الجدار‮.‬

 

عن أخبار الأدب

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail