محنة الفلسفة في الفكر العربي الإسلامي / سامي أمين عطا

إن محنة الفلسفة في الفكر العربي الإسلامي عبر تاريخه حتى يومنا هذا, تجسد في المقام الأول أزمة مجتمعات على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, كما أنها تمثل محنة أعظم في منهج التفكير وبنية العقل ومفهوم العقل والعقلانية في هذه الثقافة, وتفصح المحنة عن حالة ذهان جمعي يرتكز على مبادئ عديدة, لعل الإقصاء والإلغاء ورفض الآخر المختلف أبرزها, هذه الحالة منحت العقل مسوغات هروب من استحقاقات واقع مثخن بالمشكلات, ولم تستطع بالطبع, ذهنية غرائزية بطبعها كهذه, أن تجد حلولاً للمشكلات, ناهيك عن أنها كانت غير مهيأة للتعاطي معها. حالة الذهان الجمعي هذا, استخدام مبادئه على نطاق واسع وفي مختلف الميادين, ولا تعد إقصاء الفلسفة أو تضييق الخناق عليها, إلاّ حالة من بعض أوجهها, لكنها تفصح عن مفارقة كبرى تتناسل منها مفارقات أُخر, ففي الوقت الذي تتغنى هذه الثقافة بالمنجزات والماضي الحضاري التليد, تنسى أو تتجاهل أن ما من حضارة أو منجز دون حامل عقلي يسنده, عوضاً عن رؤى فلسفية ساعدت على إقامته وإنجازه. الفلسفة حقل معرفي تتوافر فيه أدوات عديدة, كالنقد والحوار والسجال الذي يستلزم القبول بالتعدد والتنوع والقبول بالآخر المختلف, بغير هذه الوسائل والأدوات وحدها لا يستطيع كائن من كان أن يكتشف المشكلات وتحديد عورات المجتمع السوي وغير السوي, ناهيك عن تحديد طرق معالجتها, ومن المعيب جداً أن نسمع الإعلام الرسمي يصدح ليل نهار, بالمنجزات والحضارة, بينما الفلسفة تعيش في وضع مزرٍ كهذا, ألم يقل ديكارت في مقدمة كتابه “ مبادئ الفلسفة” أن أي حضارة تقاس بمقدار ما لها من فلاسفة؟.
إن “محنة الفلسفة”, أي محنة دفاع الفلسفة عن ذاتها, لها امتداداتها في كل الثقافات والحضارات, وشهدتها كثير من المجتمعات في مختلف العصور والحقب, إلاّ أن ما يؤسف له أن مجتمعاتنا العربية ظلت تجتر هذه المحنة وتلوكها دون أن تبتلعها.
محنة مكرورة بهذا القدر من الإملال, تجد مسوغاتها في غيرة الذهنية الغرائزية, التي لم تستطع أن ترتفع بأفقها, من ما هو حسي إلى ما هو عقلي, وهذا يعني أننا نمتلك في ما يطلق عليه بالنخب الثقافية المتعلمة لا المعرفية, وهناك فرقٌ شاسعٌ بين الأولى والثانية, فالأولى تفصح عن تلقي المعارف بالتلقين, وتنقلها إلى غيرها بنفس الوسيلة لا اجتهاد ولا نقد أو تمحيص, تتلقى معارف ليست شريكة في إنتاجها؛ أي التقليد ديدنها, أما الثانية تفصح عن أنتاج معرفة بواسطة النقد والتمحيص للأفكار, وتشارك في أنتاج المعارف, وتؤسس صروحاً للأفكار.
حقاً, أن الموقف من الفلسفة, موقفاً لم يتغير, وله جذوره التاريخية في الثقافة العربية والإسلامية, ولم يسأل أو يحاول أحداً أن يشخص هذه الظاهرة ناهيك عن فهمها.
يعزو العفيف الأخضر مثلاً, هذا الموقف من الفلسفة ناهيك عن الدخيل من العلوم والكلمات والمصطلحات, إلى “الذهنية العربية المنغلقة, التي صاغتها ذهنية المجتمع القبلي الإنطوائي وذهنية إسلام الولاء والبراء الذي لا يقل عنه إنطوائية، والذي يحرم تعلم اللغات الأجنبية إلا للضرورة القصوى، ما زالت ترفض إعطاء جنسيتها- تماماً مثل كثير من دولها- للدخيل من العلوم ومن الكلمات والمصطلحات المستعصية غالباً على الترجمة ولا يفلح معها إلاّ التعريب. للتحايل على هذه الذهنية القبلية- الدينية الإقصائية، أخترع الكندي كذبة بيضاء لتحبيب الفلسفة إليها فقال أن يونان هو أخ قحطان, إذن الفلسفة اليونانية هي بنت العم فلا ترتابوا فيها, لكن كذبته لم تجد الفلسفة نفعاً فكفرت وأحرقت كتبها أحياناً وما زالت مكفرة في غالبية دول مجلس التعاون الخليجي ومادة اختيارية في مصر”([1]).
مع أن هذه المقاربة إفراط في التعميم, ولم تلامس جذر المسألة, نتفق معه في تحديد الأسباب التي أرجعها إلى الذهنية القبلية الإنطوائية والمنغلقة, ذهنية إسلام الولاء والبراء الذي لا يقل عنه إنطوائية, لكن عندما ننظر إلى المسألة بأفق أوسع, فإن موقف العداء من الفلسفة لم يكن محصوراً بالثقافة العربية الإسلامية وحسب, بل تعداه إلى الثقافات الأخرى, ولا تسلم ثقافة من الثقافات من هذا العداء والرفض, لكن الباحث المتبصر يضع عدداً من الأسئلة, إن الفلسفة في آخر المطاف وفدت على الثقافة العربية في مرحلة من المراحل, ألم تكن هذه الذهنية التي وفدت عليها ذهنية قبلية إنطوائية منغلقة, ولم يكن الإسلام الذي وفدت إليه هو إسلام الولاء والبراء, كيف استطاعت الفلسفة أن تفد في بداية أمرها, وما الذي جعلها لا تلقى القبول لاحقاً؟
أعتقد أن المسألة برمتها, ترجع إلى أن تعرف العرب على هذه العلوم, جاء بفعل الفتوحات وتوسعهم شرقاً وغرباً, وكانت العملية طبيعية في بداية الأمر, لكن في مرحلة استقرار الإمبراطورية العربية الإسلامية, وتوقف الفتوحات, بدأت دراسة هذه العلوم, حدث الصدام بين الوافد والأصيل في الثقافة العربية الإسلامية, أي جرى صدام بين ضرورة المواكبة ( المعاصرة) والمحافظة ( الأصالة ), ولما كان هذا الأصيل في الثقافة العربية الإسلامية له أكثر من قراءة, إحداها كانت إسلام الولاء والبراء, وهي الطاغية والمسيطرة على مجمل الحياة الفكرية, ولقد كانت هذه الرؤية في خشية من أمرها وفي حالة دفاع عن هويتها من هذا الوافد, الذي شكل تهديداً خطيراً على هذه الذهنية المنغلقة, الأمر الذي جعلها ترفض الوافد وتستعديه, ورغم انتشار الوافد إلاّ أنه لم يتأصل في المجتمع, أي كان من الضعف بحيث سهل تهميشه وإزاحته. وظلت هذه المراوحة بين المعاصرة والأصالة زمناً طويلاً, تشكل جوهر الصراع الفكري, وجاءت الغلبة للثانية على حساب الأولى دائماً.
إذا نظرنا الى هذه المسألة في وضعها الراهن؛ فلم يستحضر القائمون على شئون التعليم ابن تيمية في التعليم الأساسي والثانوي, بل استحضروه موقفاً, من متحف التاريخ إلى الجامعات العربية بكل علاته, حتى بات علينا أن نوصم, بأننا أمة متحفية, أمة تستحضر مومياتها, وتحتفي بها؛ أمة لا زالت “ تتنفس الغزالي وتعيش مع أبن تيمية”([2]). لذا حكمنا هذا الجنون كله, كأننا أمة شربت من “ نهر الجنون”([3]). ننام على صدى فتوى ابن الصلاح “ مِنْ تمنطق, فقد تزندق”, هذه الفتوى التي تفصح بتحريم الاشتغال بالمنطق والفلسفة لزوماً, لأن المنطق مدخل الفلسفة, ومدخل الشرّ شرّ, لنصحو على فتوى ابن تيمية بذات الخصوص, حتى بتنا أمة تفتي بكل ما ينافي العقل, وتذم كل عاقلٍ وتلعن نفسها, وتنسى ادعاءها, بأن القرآن جاء مخاطباً العقل والفكر, وينضح بكمٍ وفيرٍ منها.
إذا كان همُ الفلسفة في العصور الوسطى ـ سواء أكانت مسيحية أم إسلامية ـ التوفيق بين العقل والنقل, الحكمة والشريعة, فإن هذا التوفيق في الفكر الأوروبي استند على دراسة المنطق, ودار الجدل في إطاره, لذا تجد الفكر الأوروبي في العصور الوسطى اهتم أيما اهتمام بالكليات الخمس, ودارت سجالات الواقعيين والاسميين داخل إطار هذه القضية, وجدت تعبيرها الأرقى بنصل أوكام([4]). وعنده سنجد أن ميدان البرهان العقلي في المسائل الدينية تضاءل شيئاً فشيئاً حتى كاد ينعدم أو قد انعدم بالفعل؛ فأصبح كل ما يقول به العقل لا يرد به الوحي, وكل ما أتى به الوحي لا يمكن العقل أن يبرهن عليه. وعنده نصل إلى أقصى درجة من درجات التمييز والفصل بين العقل والنقل؛ إذ أصبح بين هذين الميدانين سورٌ لا ينفذ منه أي تأثير من جانب الميدان الواحد في الميدان الآخر”([5]), ولم يأت بداية العصر الحديث إلاّ ووجد الفكر الأوروبي ضالته ضمن هذا الإطار( إطار نقد المنطق), فقد جاء فرانسيس بيكون استمراراً لهذا الجدل وشكلت رؤيته قطيعة معها, لكنها قطيعة إيجابية وليست سلبية, أي أنه في نهاية المطاف, لم يدع إلى رفض المنطق إجمالاً, بل دعا إلى تأسيس منطق جديد للمعرفة (منطق تجريبي) على أنقاض منطق ارسطو الاستنباطي.
أما الجدل في إطار المنطق في الفكر الإسلامي لم يدم طويلاً, بل حسم الأمر مبكراً بدعوة القطيعة السلبية مع المنطق وكل ما يمت للعقل بصلة لصالح النقل ـ كما أسلفنا ـ, وبذلك حسم الفكر العربي الإسلامي أمره مبكراً مع المنطق وهذا ما يفسر عطالته التي استمرت قروناً.
يعتقد أرنولد توينبي أن تاريخ الأفكار يحكمه منطق التحدي والاستجابة، فكلما كان التحدي شديداً كانت الاستجابة قوية، وعندما تنعدم الشدة والقوة عن التحدي يدخل الإنسان ضمن منطق السبات، والعقل نفسه يعمل ضمن معادلات شروط التحدي. يتضح من الدراسات المتعلقة بتاريخ الأفكار، أن العقل لا تصيبه العطالة إلاّ عندما يضع الإنسان الغريزة والطباع في مرتبة أولى.ويفقد العقل، التحدي الذي كان يولد الاستجابة([6]). ويبدو أن الفكر العربي الإسلامي نتج عن عقل أصابته العطالة غلب الغريزة والطباع على أدواته الحقيقية, جاء الفكر فيه نتاج شهوات وملذات.
مع ذلك, يحسب للأوائل ـ وإن كانت شهواتهم وملذاتهم غلبت على نتائجهم ـ, بأنهم بنوا مواقفهم على علم ودراية بهذه العلوم التي نبذوها وهجوها وأفتوا بتحريمها, فإننا نجد الحال بات مخزياً راهناً, فلن تجد ممن يرددون كالببغاوات مثل هذه المواقف الرافضة, على دراية ولو يسيرةٍ, بهذه العلوم, لذا بتنا أمةً تقلد الأوائل ولا تجتهد في سن أو على الأقل تأصيل مواقفها.
إن محنة الفلسفة تنم عن واقع مجتمع مأزوم ثقافياً على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, والبؤس الثقافي يولد بؤساً على كافة المستويات المقابلة وجدانياً وسلوكياً وعقلياً.
محنة الفلسفة في البلدان العربية راهناً, أنها حقل اهتمام نخبوِّي, لم تتأصل الفلسفة في مجتمعات هذه البلدان بوصفها حقلاً معرفياً موجهاً للسلوك العام ومرشداً للتوجهات الإنسانية, ودليل حياة للناس “ إن الحياة الخالية من التأمل والنظر للحياة لا تليق بالإنسان”( دفاع سقراط), وهذا الأمر يُعزى, إلى أن شعوب هذه الأقطار, لا زالت تبحث عن هوية ضائعة, تفتقد للحس التاريخي, ومغيبة عن فهم تراثها, وتعيش في حالة اغتراب مع واقعها, لا هي توافقت مع ماضيها وفهمته, ولا أنها تعيش في الحاضر وتستشرف المستقبل.
كلما ظهر لهذه الأمة فيلسوف, حيث “ لا يخرج الفلاسفة من الأرض كما تخرج النباتات الفطرية, و إنما هم ثمار عصرهم وشعبهم, وهم العصارة الأرفع شأناً, والأثمن, والأبعد عن أن ترى, والمعبِّرة عن نفسها بالأفكار الفلسفية. وإنَّ الروح الذي يبني الأنظمة الفلسفية بعقول الفلاسفة, هو نفسه الروح الذي يبني السكك الحديدية بأيدي العمال؛ فليست الفلسفة خارجة عن العالم, كما أن الدماغ ـ وإن لم يكن في المعدة ـ ليس خارجاً عن الإنسان” ( ماركس), فإن جماعات رفض الفلسفة تقف له بالمرصاد, وخير دليل على ذلك فيلسوف الدراسات اللغوية والإسلامية المرحوم نصر حامد أبو زيد, وكأنها أمة جُبلت على معاداة كل ما هو عقلي أو يمت بصلة للفلسفة, أمة تصر على استعداء العقل والانتصار لغرائزها.
وعلى الرغم من العداء المفرط للفلسفة من قبل رجال الدين, إلاّ أن الفلسفة ظلت تسمو على أعدائها, وتترفع عن أذاهم لها, يقول ديدرو بهذا الخصوص “يتحدث الفيلسوف حديثا سيئا عن القسيس أو الكاهن، ويتحدث الأخير عن الفيلسوف حديثا سيئا أيضا, غير أن الفيلسوف لم يحدث أبدا أن قتل قسيسا في حين أن القسيس قتل عددا كبيرا من الفلاسفة.. ولم يقتل الفيلسوف أبدا أحدا من الملوك بينما قتل القسيس عددا كبيرا منهم..”. ويضيف “الكاهن الذي يعتبر مذهبه الفلسفي, نسيجا من المستحيلات, يميلُ سراً إلى تدعيم الجهل، فالعقل هو عدو الإيمان.. والإيمان هو الأساس في مركز القسيس ومستقبله ومكانته”.
إن أي محاولة إلى التفلسف وإحداث قطيعة مع طرق تفكير تستند إلى الإيمان في مجتمع تنعدم فيه الحرية يعد ضرباً من المستحيل؛ فلا يمكن أن يقوم معنىً للفلسفة في ظل مناخ الكبت والتضييق, كما لا يمكن أن يكون للفلسفة معنىً في مجتمع تقوده عصبة من المنحطين “ ثم إن من عادة المنحطين من الناس عديمي القيمة, إذا حصلوا على ثروة طائلة أن يقدروا قيمة هذه الثروة تقديراً يفوق تقديرهم لخيرات النفس, وهذا هو أحقر شيء ( يمكن تصوره)…أولئك الذين يجعلون لاكتساب الثروة أهمية تفوق( العناية) بطباعهم وأخلاقهم, والواقع أن هذه هي الحقيقة, فالتخمة ـ كما يقول المثل السائر ـ تَلِدُ الغطرسة, وإذا ما اقترن النقص في التربية, بالقوة والسلطة تولَّد عن ذلك الجنون. وأولئك الذين ساءت نفوسهم لن ينفعهم الثراء ولا القوة ولا الجمال شيئاً, بل كلما توافرت هذه الأمور ازداد ضررها على صاحبها عمقاً وتنوعاً, وذلك إِنْ لم تقترن بالتبصر( والحكمة )[7], وتحتاج الفلسفة الشغالة إلى مناخ من الحرية يجعلها تحلق في فضاءات الإبداع, وفي ظل شروط كهذه, توفرها مجتمعات لمفكريها, تستفيد من نتاجهم. لكن انعدام الشروط, لن يمنع الناس من ممارسة نشاطهم الطبيعي المتمثل بالتفلسف, حيث تظل الحاجة إلى الفلسفة حاجة ملحة, لا تستقيم الحياة السوية إلاّ بوجودها, أو كما قال الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت(1727ـ 1804م) “إن سأم العقل البشري عن استنشاق هواء نقي, لن يوقفه أبداً عن التنفس”, التفلسف حاجة إنسانية لا غنىً لأي إنسان عن ممارسة هذا الضرب من النشاط الفكري؛ فكل إنسان فيلسوف بطبعه.
إن قاعدة الناس الذين يمارسون هذا الضرب من النشاط الفكري تتسع يوماً بعد يوم, وستظل قاعدة الفلسفة والاهتمام بها تكبر, وإن كانت الصعوبات أمامها كثيرة. إن الإنسان لا يستطيع أن يستغني عن الفلسفة, فهي مبثوثة في كل مكان في الأمثال التقليدية, وفي صيغ “ الحِكّم”الشائعة, وفي الآراء الشائعة, وفي النظريات السياسية, في الأساطير, حتى أولئك الذين ينبذون الفلسفة عليهم أن يتفلسفوا كي يحققوا مآربهم.
نحن أحوج ما نكون اليوم إلى إحداث قطيعة معرفية، مع موروثنا المعرفي (أو بحسب تعبير المفكر العربي د.حسن حنفي نحن بحاجة إلى بلدوزر يجرف ركام التخلف هذا)؛ فالتنوير يصنع تاريخاً يقوم على الانقطاع, يظل يطرح أسئلة عن نفسه، كما فعل “كانت” في عصر التنوير, إن مبدأ التساؤل هذا، ربما أكثر ما يميز مرحلة التنوير عن سواه أو ما قبله, غير أن القطيعة لا ينبغي أن تكون على صعيد المنهج وطرائق التفكير ناهيك عن أدواته وحسب. بل ينبغي أن تكون قطيعة مع المشكلات أو الموضوعات أيضاً، أي لا ينبغي أن نستجر تلك المشكلات أو الموضوعات من متحف فكرنا، إذ ينبغي أن يكون واقعنا مصدراً لمشكلات تفكيرنا, ولن يكون ذلك ممكناً إلاً إذا أعملنا التنوير في الحياة وجعلناه مسلكاً وممارسة, لقد آن أوان انتقال الفكر الديني من لاهوت التحرير(نقصد بالتحرير كل أشكاله, السياسي والاقتصادي والثقافي) إلى التنوير. فقد استهلكنا التحرير طويلاًً, ينبغي تغير الأوليات؛ فإذا كنا تحررنا من براثن هيمنة الأجنبي المباشرة، ودخلنا إطار الهيمنة غير المباشرة، فإن هذه الأخيرة نتحمل وزرها نحن أولاً وأخيراً. لأننا أسأنا التصرف بأحوالنا وإدارة شؤوننا, لذلك نحن أحوج ما نكون للتنوير أداة تحررنا من عبوديتنا التي ارتضيناها لأنفسنا. فالقهر والحرمان و العسف والطغيان, احتلال داخلي لإرادتنا, ينبغي أن نتحرر من قيوده؛ فلا تحرير دون تنوير؛ إذ لا يكفي المرء أن يكون متعلماً وحسب، بل يتوجب عليه أن يكون تنويرياً، فالتعلم دون أفق تنويري عدم محض, كما أن التنوير, تعليماً وتعلماً مستمر؛ فلا تحرير دون ممارسة تنويرية دائمة,.إن كل النخب مدعوة للخروج من وسواس القهر السياسي إلى الفعل السياسي إلى الممارسة. أن تمارس دورها بفعالية, آن الأوان إلى إحداث فرق في المجتمع, لقد طال الانتظار كثيراً, وكبرت المسافة واستطالت مع العالم. لا ينبغي على النخب أن تتحكم فيها ما يدعو الى السلبية والانكفاء على الذات أو جلدها, أو ترديد مثل هذه الأبيات التي تدعو لذلك.
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
واخو الجهالة في الشقاوينعمُ.
المراجع
[1] ـ أنظر العفيف الأخضر صحيفة التجمع, عدد رقم 654, بتاريخ22. 2008Decم.
[2]ـ نقلاً عن نصر حامد أبو زيد حوار مع سربست نبي نشر ضمن كتاب قضايا وحوارات في الفكر العربي، دار حوران للطباعة والنشر ط1 , 2005م دمشق. ص97.
[3] ـ نهر الجنون رواية لتوفيق الحكيم تتلخص في أن هناك نهراً من شرب منه أصيب بالجنون.. وعندما بقي عدد قليل من الناس لم تشرب منه فوجدت نفسها تسلك سلوكاً أصبح شاذاً بالمقارنة مع الأغلبية فما كان منها إلاّ أن تشرب منه حتى تشعر بالتوافق مع الأغلبية وتتسق بسلوكها معها. وهي تجسيد لأسطورة فارسية على ما أعتقد.
[4] ـ يعود مصطلح نصل أو حد أوكام إلى الفيلسوف وليام الأوكامي(1285ـ1349م).
[5] ـ د. عبدالرحمن بدوي، فلسفة العصور الوسطى، دار القلم بيروت, ووكالة المطبوعات الكويت, ط3 , 1979, ص182.
[6] ـ أنظر عبدالقادر بو عرفة. المستقبل العربي, مركز دراسات الوحدة العربية, بيروت عدد أغسطس/2008. ص31 .
[7] ـ ارسطو دعوة الى الفلسفة تقديم وتعليق د. عبدالغفار مكاوي, دار التنوير للطباعة والنشر, بيروت دون تاريخ, ص32ـ33.
·سامي أمين عطا: أستاذ مساعد فلسفة العلوم ومناهج البحث, كلية الآداب جامعة عدن

عن الجمهورية نت

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail