غواية التسطيح الثقافي – حوار

النظريات الأدبية لا تخرج عن ثلاث‮: ‬الواقعية الطبيعية وتمثل‮ «‬الوجود بالفعل‮» ‬والمثالية الرومانسية و«تمثل الوجود بالقوة‮» ‬وأخيرًا الواقعية الروحية والتي تري أن الأدب محاكاة للحياة كما هي عند أرسطو وكذلك‮ «‬نقد الحياة‮» ‬أي ترينا كيف نعيش

استقطبتني عناوين أعماله النقدية علي رفوف المكتبة،‮ ‬والعنوان‮ ‬يفكر للنص،‮ ‬رحت أتابعه منذ سنوات،‮ ‬أعماله العشرة‮ – ‬حتي الآن‮ ‬،‮ ‬تشكل مشروعا جماليا نقديا فكريا‮ ‬يحتويه روح‮ ‬جمالي،‮ ‬يتدثر بمسحة فلسفية،‮ ‬في المنظر والمنظور،‮ ‬ووحدة المعرفة،‮ ‬ولغة الأعماق البعيدة‮*.‬
بحثت عن أصداء لأطروحات الرجل،‮ ‬وفوجئت بأنها لا تتكافأ مع القيمة العلمية والنقدية للمؤلف ومؤلفاته،‮ ‬وهو الحائز علي الدكتوراه في فلسفة الأدب تخصص شعر ونقد جامعة جلاسجو‮ ‬1979‮ ‬وعميد كلية الألسن سابقا،‮ ‬ورئيس جامعة مصر الدولية حاليا‮.. ‬فتساءلت طويلا‮: ‬
هل لأن الدكتور محمد شبل الكومي،‮ ‬يفكر ويكتب فقط،‮ ‬ولا شأن له بما‮ ‬يحدث بعد ذلك أو‮ ‬ينبغي،‮ ‬؟‮.. ‬ربما‮…‬
هل لأن عيون العدسات الإعلامية في طرفها‮ (‬حول‮) ‬مطبوعة كانت أم مرئية أم مسموعة؟‮.. ‬قد‮ ‬يكون‮…‬
هل لأن‮ (غواية التسطيح الثقافي‮)‬تجذب فتكذب،‮ ‬فيحترق معها جوهر الأشياء،‮ ‬لتظل الثرثرة تخترق الأجواء الملبدة بالكسل الفكري؟‮.. ‬ممكن‮…‬
ألف هل‮.. ‬وألف لماذا‮ .. ‬وألف كيف‮.. ‬تصدم من‮ ‬يحاول أن‮ ‬يحيط علما بما‮ ‬يجري وراء الجدران التي تحول بين الغث والثمين،‮ ‬لابد أن هناك أدمغة‮ ‬تتجلي وراء اللحظة المكسوة بـ(الهاموش‮) ‬في الحياة الفكرية والثقافية،‮ ‬حيث‮ ‬ضجيج ولا طحن،‮ ‬وادعاءت ولا برهان،‮ ‬وأوراق ولا فكر‮.‬
كثيرون قابلتهم في الحياة مثل الدكتور محمد شبل الكومي‮.. ‬عليهم الإبداع فقط‮..‬لا تشغلهم الأضواء الباهرة التي‮ ‬غالبا ما‮ ‬ينطفئ بريقها بعد حين،‮ ‬فيمكت أصحابها في جب النسيان،‮ ‬وليبقي أصحاب الأفكار،‮ ‬فالبحر‮ ‬يعلو فوقه زبد ويستقر بأقصي قاعه الدرر‮.‬
تقرأ أعمال الرجل قراءة كاشفة،‮ ‬فتفيض عليك رؤي وأطروحات تستدعي عناء البحث والتأمل،‮ ‬والقراءة أيضا إبداع وجهد،‮ ‬وتحرضك علي إعادة النظر في الكثير من المسلمات،‮ ‬وتفضي بك إلي ممارسة ثقافة الأسئلة‮..‬
تقرأ كتاب(النظريات الأدبية‮.. ‬دراسة في الأدب المصري المعاصر‮) ‬فتكتشف أنها وسائل لتفسير طرائق معينة في الحياة،‮ ‬وتري بها‮ (‬الكلية‮) ‬في العمل الفني‮ ‬باعتباره ثمرة فكر إنساني عميق‮ ‬يمتد في الزمان والمكان،‮ ‬عبر الثقافات والمجالات الفكرية،‮ ‬بما‮ ‬يفضه المؤلف من اشتباك في فهم المصطلح،‮ ‬حين‮ ‬يحدده لتسستقيم الأمور‮.‬
وتقرأ‮ (‬القضايا‮ ‬الأدبية‮.. ‬من منظور فلسفي‮) ‬فتجد المهاد الفلسفي للمدارس الأدبية والمذاهب الفكرية مقنرنا بالعقل الذي هو أعلي ما‮ ‬يملكه الإنسان حين‮ ‬يمارس التفكير في المفاهيم الكبري‮: ‬الله والطبيعة والإنسان،‮ ‬بالنظرة الواقعية والمثالية‮.‬
وتقرأ‮ (‬النقد الأدبي والفني‮.. ‬دراسة في النظر المنظور‮) ‬فيضع بين‮ ‬يديك شفرة الارتباط العضوي بين الفكر والجمال،‮ ‬وهو ارتباط‮ ‬يؤكد وحدة المعرفة الإنسانيةوقد استلهم هذا لتاب من حادث الاعتداء علي الكاتب الراحل نجيب محفوظ،من قبل شخص متطرف،‮ ‬ولم‮ ‬يقل د‮. ‬شبل‮ (‬متطرف ديني‮) ‬فلا علاقة بين التطرف والدين كما‮ ‬يؤكد ويبرهن،‮ ‬وهو‮ ‬يستقطر مبادئ عامة في النقد الأدبي والفني‮. ‬
وتقرأ‮ (‬الواقعية الجديدة‮.. ‬مدخل لدراسة ثقافة عصري الحداثة وما بعد الحداثة‮) ‬فيتجلي أمامك منهج في التحليل الثقافي‮ ‬يعلن أن الواقعية الروحية دراسة في فلسفة الوجدان،‮ ‬وقد آثر تسمية كتابه بـ‮ (‬الواقعية الجديدة‮) ‬حتي لا‮ ‬يلقي مصطلح‮ ( ‬الواقعية الروحية‮) ‬بتأويلات بعيدة عن السياق الحقيقي‮.‬
‮ ‬وقد حق للدكتور محمد عناني أن‮ ‬يشكل عتبة من عتبات النص الموازي للمشروع بالتقديم الغيري لمكتبة د.محمد شبل الكومي،‮ ‬فاستخرج جواهرها بعلامات فكرية ثقافية في التشكيل والدلالة‮. ‬
و‮.. ‬و‮.. ‬مؤلفات وقراءات ومحاورات وجماليات وتطواف في أجواء وأرجاء الفكر والوجود والإبداع بقلب مفكر وناقد وصاحب مشروع معرفي‮ ‬يتماس ويتسامي ويتوهج في‮ (‬اللحظة‮ ‬الآنــية‮) ‬ويحلق سردا وتحقيقا وتدقيقا وصولا الي‮ (‬اللحظة الآتـــية‮) ‬وما بين الآني والآتي‮.. ‬تتأنق ثقافة الأسئلة،‮ ‬والسؤال نصف الجواب،‮ ‬والجواب‮ ‬ينجب سؤالا‮.. ‬والحوار الصحفي‮ ‬يستخرج جواهر العقل الأكاديمي بعيدا عن أسوار الحرم الجامعي‮.. ‬العبارة دقيقة،‮ ‬والجملة بناؤها محكم،‮ ‬فلا‮ ‬تذوب بين محكم الفكر ومتشابهه‮.. ‬فالسؤال‮ ‬بيـّن والجواب أيضا‮.‬
‮> ‬أثناء قراءتي لمشروعك الفكري استدعي من الذاكرة موقف روبنسون كروزو منعزلا في جزيرته،‮ ‬وكان زكي نجيب محمود كذلك،‮ ‬فهل تؤثر هذه‮ (‬العزلة‮) ‬و(الاختيارية‮) ‬مع أنك تجلس علي كرسي رئاسة جامعة كبري مثل جامعة مصر الدولية؟ ولا تسعي لتويق هذا المشروع في الوقت الذي نجد فيه من‮ ‬يكتب مقالة أو دراسة‮ ‬يروج لها بشتي الطرق وبشق اللأففس ليحمد بما ليس فيه؟
‮- ‬لدينا أيضًا الأستاذ توفيق الحكيم راهب الفكر والفن،‮ ‬في الحقيقة كل من المبدع والناقد‮/ ‬المفكر في حاجة للعزلة،‮ ‬فالبعد أو الضلع الثالث من مثلث الخبرة الإبداعية‮/ ‬الجمالية هو‮ »‬التأمل الانعكاسي‮« ‬والذي‮ ‬يقابله في مثلث العملية النقدية‮ »‬لتأويل‮« ‬مع التأمل والتأويل لابد له من درجة ما من العزلة‮. ‬من ناحية أخري،‮ ‬المفكر هو من‮ ‬يتأمل الأشياء بالعقل للوصول إلي معرفة،‮ ‬والتأمل‮ ‬يتطلب الوحدة أو العزلة بالطبع،‮ ‬كما إن العزلة تحمي استقلالية المفكر أيضًا‮. ‬فالمثل الأعلي للمثقف‮/ ‬المفكر هو أن‮ ‬يمثل التحرر والتنوير ولكن دون أن‮ ‬يصبح هذان مطلقين من المجردات،‮ ‬فهو‮ ‬ينوب عن الفقراء والمحرومين ومن لا‮ ‬يمثلهم أحد ولا‮ ‬يسمع أصواتهم أحد ومن حرموا من أي سلطة‮.‬
أطلق توفيق الحكيم علي عزلة الأديب أو الفنان عبارة‮ »‬البرج العاجي‮« ‬وصور نفسه نزيلا لهذا البرج،‮ ‬يرتدي فيه عباءته وقلنسوته ويشبه الراهب في سمته وهيئته،‮ ‬ويعيش حياة هادئة بين الكتب والأوراق،‮ ‬كما وصف نفسه في الفصل الأول من روايته‮ «‬الرباط المقدس‮»‬،‮ ‬ولكنه لم‮ ‬يقصد طبعًا العزلة عن الحياة والانفصال عن المجتمع‮ ‬كما فهم البعض خطأ‮ ‬ولكنه قصد عزل رجل الفكر عن السياسة الحزبية،‮ ‬حتي لا‮ ‬يستخدم آلة مسخرة في أيدي رجالها،‮ ‬فيقصد بذلك حرية النظر إلي الأشياء‮. ‬لهذا فقد كان في معظم قصصه ومسرحياته مشغولًا دائما بمشكلتين رئيسيتين هما‮: ‬موقف الإنسان في المجتمع وموقف الإنسان ازاء مصيره في الكون‮. ‬وتوفيق الحكيم‮ ‬يمثل فلسفة الواقعية الروحية‮.‬
فالغرض من النشاط الفكري هو نصر قضية الحرية والمعرفة الإنسانية،‮ ‬واعتقد أن هذه المقولة لاتزال سارية علي الرغم من التهمة التي سمعناها مرارًا والتي تزعم أن‮ «‬القصص الكبري للتحرر والتنور‮» ‬لم تعد متداولة علي الإطلاق في عصر ما بعد الحداثة،‮ ‬والعبارة المقتطعة هي التي استعملها الفيلسوف الفرنسي ليوتار في الإشارة إلي الطموحات البطولية المرتبطة بالعصر‮ »‬الحديث‮« ‬السابق‮. ‬وهو‮ ‬يري أن مثقفي ما بعد الحداثة اليوم‮ ‬يعلون من شأن الكفاءة لا القيم العامة العالمية عن الحقيقة والحرية،‮ ‬وأري أن ليوتار قد جانبه الصواب فالواقع‮ ‬يقول إن الحكومات لاتزال تظلم الشعوب بل وتزج بها في حروب‮ ‬غير مجدية،‮ ‬فلو صرفت الأموال التي تكلفتها الحرب في مكافحة الإرهاب علي رفع المستوي الاقتصادي ورفع درجة الوعي عن طريق الثقافة والتعليم لكان أجدي للشعب الأفغاني،‮ ‬ولكسب المجتمع الدولي دولة ذات مذاق ثقافي خاص‮. ‬بالإضافة إلي ذلك فإن الانتهاكات الجسيمة للعدالة مازالت ترتكب،‮ ‬وغياب العدالة الاجتماعية وكبت الحريات ظواهر لاتزال موجودة وقد جدت أشياء كثيرة علي المفكر أن‮ ‬يواجهها،‮ ‬فعليه أن‮ ‬يشتبك في نزاع مدي حياته مع من‮ ‬يدعون الوصاية علي الرؤية المقدسة أو النص المقدس،‮ ‬أو من‮ ‬يدعون أنهم‮ ‬يملكون الحقيقة المطلقة‮.‬
الفلاسفة والنقاد
‮> ‬مؤلفاتك تشكل مشروعا نقديا فكريا،‮ ‬وهناك مشروعات أخري،‮ ‬والسؤال‮: ‬لماذا لا توجد لدينا نظرية أدبية أو نقدية خاصة بنا؟ تمامًا مثلما نعاني من عدم وجود فلسفة عربية أو فيلسوف عربي أو مسلم،‮ ‬منذ‮ ‬800‮ ‬عام وبالتحديد بعد ابن رشد،‮ ‬هل هذا صحيح؟
‮- ‬أجيب أولا علي سؤال لماذا نعاني من عدم وجود فلسفة عربية أو فيلسوف عربي أو مسلم،‮ ‬منذ‮ ‬800‮ ‬عام وبالتحديد بعد ابن رشد؟ أولا لأنه في هذا التاريخ بالضبط قفل باب الاجتهاد وثانيا أحب أن أوضح أن آخر النظريات الكبري الفلسفية كانت مع هيجل‮ ‬1830‮ ‬بعد ذلك لا توجد نظرية شاملة فالماركسية خرجت من عباءة هيجل والوجودية كما‮ ‬يقول سارتر نفسه هي مذهب في فلسفة ماركس‮. ‬وفلسفة هيجل لها مصدران المصدر الأول‮ ‬يوناني من طريق هيراقليطس والمصدر الثاني عربي والذي أخذ منه هيجل فكرة‮ «‬مماثلة الوجود‮» ‬analogiaentis ‮ ‬ومؤداها أن كل موجود إنما‮ ‬ينعكس في كل موجود،‮ ‬بما‮ ‬يحقق التماثل والتناظر بين جميع الموجودات وجميع مستويات الوجود،‮ ‬وقد أخذ هيجل هذه الفكرة في فلسفته،‮ ‬ولعل من المفيد لنا أن نورد هنا ما ذكره بلوخ بهذا الصدد كاملاً‮ ‬لما له من أهمية بالغة،‮ ‬رغم إيجازه الشديد،‮ ‬فقد كتب‮ ‬يقول‮: »‬إن هيجل ليعد وارثا لتراث‮ ‬يضرب جذوره في المقصد الفلسفي الرئيسي لذلك الجوهر الواحد الذي‮ ‬ينتشر في كل شيء‮». ‬ابتدأ هذا التراث بصورة المرآة وهي صورة سحرية تمامًا وشرقية تمامًا‮. ‬فالكندي الفيلسوف العربي،‮ ‬كان أول من نظر إلي العالم بوصفه جماعا من عدة معارض للمرايا،‮ ‬تعكس كل شيء ونفس الشيء‮« ‬وكذلك لا ننسي أثر ابن عربي في هيجل أيضًا‮. ‬القضية أن الشرق فلاسفته في آن واحد شعراء وسلوكيون وساسة‮. ‬وفلسفتنا هي المزج بين الدين والفلسفة أو ما‮ ‬يطلق عليه‮ ‬Theosophy. وهذا الخط‮ ‬يمتد من أفلوطين المصري‮ (‬270م‮) ‬حتي الآن‮. ‬المشكلة أن أساتذة الفلسفة في مصر قاموا بالعرض والتحليل وتوقفوا عن التنظير،‮ ‬وإذا كانت الفلسفة هي منظومة من القيم‮ (‬الحق والخير والجمال‮) ‬فإننا لدينا الكثير من القيم لكنها في حاجة فقط إلي التنظير‮. ‬أي إن تلك القيم موجودة في الأدب والفن وسلوك المصريين فإذا كانت اليونان أعطت الفلسفة والمنطق للحضارة،‮ ‬والرومان أضافوا للحضارة الإنسانية التكنولوجيا‮ ‬فالمصريون أعطوا للحضارة الفن والدين‮.‬
إننا نظلم أنفسنا عندما نقول إننا ليس لدينا نظرية أدبية‮. ‬فألف ليلة وليلة كتبها شيخ مصري
في القرن الحادي عشر ونحن نعرف أثر ألف ليلة وليلة علي الأدب العالمي وكذلك أثر حي بن‮ ‬يقظان،‮ ‬فما هي نظرية ألف ليلة وليلة؟ هي نظرية أو رؤية تجمع بين الروح والأخلاق والواقع وهذه الرؤية هي ما أطلق عليه الواقعية الروحية،‮ ‬فالواقعية الروحية تنبع من تراثنا،‮ ‬وعمومًا النظريات الأدبية لا تخرج عن ثلاث‮: ‬الواقعية الطبيعية وتمثل‮ «‬الوجود بالفعل‮» ‬والمثالية الرومانسية و«تمثل الوجود بالقوة‮» ‬وأخيرًا الواقعية الروحية والتي تري أن الأدب محاكاة للحياة كما هي عند أرسطو وكذلك‮ «‬نقد الحياة‮» ‬أي ترينا كيف نعيش‮.‬
أما القول بعدم وجود نظرية نقدية خاصة بنا،‮ ‬فإنه‮ ‬يذكرني في الحقيقة بمن‮ ‬يقول لا توجد فلسفة،‮ ‬ولكن‮ ‬يوجد فلاسفة،‮ ‬وهذا‮ ‬ينطبق علي النقد فلا‮ ‬يوجد نقد ولكن‮ ‬يوجد نقاد‮. ‬والنقد لا‮ ‬يستمد هويته من هوية النقاد ولكن من الأداة التي تستخدم في النقد‮. ‬وقد رأينا في النقد الحديث،‮ ‬أي بعد تجاوز مرحلة النقد الانطباعي والنقد المحاكي الذي كان‮ ‬يعتمد علي أرسطو،‮ ‬كيف أخذ النقد الحديث باستخدام ما استحدثته العلوم الأخري كأداة للوصف والتفسير،‮ ‬وأصبح النقد‮ ‬يستمد هويته من العلم الذي‮ ‬يأخذ به الناقد كأداة،‮ ‬فإذا أخذ علم النفس كأداة‮ ‬يسمي النقد النفسي وإذا كان هذا العلم هو علم الاجتماع أو التاريخ سمي النقد بالنقد الاجتماعي أو التاريخي،‮ ‬ويدخل تحت هذا الإطار النقد الماركسي‮. ‬وهذا المنهج أي‮: ‬المنهج الثقافي،‮ ‬ليس بالجديد،‮ ‬ففي القرن الرابع عشر قدم الناقد المصري أحمد بن علي بن عبد الكافي السبكي‮ (‬المتوفي سنة‮ ‬1352‮ ‬م‮) ‬في كتابه‮ «‬عروس الإخراج في شرح تلخيص المفتاح‮» ‬رؤيته لهذا المنهج ونراه في فواتحه‮ ‬يشيد بالنقاد المصريين،‮ ‬وما طبعوا عليه من الذوق السليم الذي أغناهم عن التعمق في مباحث السكاكي البلاغية وشراحه الإيرانيين لاهتمامهم جميعًا بالعلوم العقلية والفلسفية،‮ ‬ويصور منهجه في النقد قائلا‮: «‬اعلم أنني مزجت قواعد هذا العلم‮ (‬علم البلاغة‮) ‬بقواعد الأصول والعربية‮.. ‬وضمنته شيئًا من القواعد المنطقية والمعاقد الكلامية‮ (‬الفلسفية‮) ‬والحكمة والرياضية أو الطبيعية‮» ‬أي أنه‮ ‬يصل في شرحه بين البلاغة وعلوم المنطق والكلام والفلسفة الطبيعية والرياضية‮. ‬ونري الأمر نفسه عند ابن عربي الذي وصل بين الميتافيزيقا والأدب،‮ ‬وتمثل فكرة الموازاة بين الوجود والإنسان عنده محورًا من المحاور المهمة التي اتكأ ابن عربي عليها في شرحه لأبيات ديوانه‮ »‬ترجمان الأشواق‮«. ‬وأنا أشبه العلاقة بين النظرية الأدبية والمذاهب النقدية بالعلاقة بين الميتافيزيقا والأنطولوجيا،‮ ‬أو بين التأمل للوجود وطبيعته من ناحية وتحليل عناصر هذا الوجود وبسط دقائقه العملية من‮ ‬ناحية أخري‮.‬‮ ‬
المشهد النقدي المعاصر قد تجاوز الرؤية الإقليمية،‮ ‬وليس أدل علي ذلك من الإسهام العربي المعاصر في المشهد النقدي العالمي ممثلا في كتابات إدوارد سعيد الفلسطيني وإيهاب حسن المصري وغيرهما من الأكاديميين المصريين في جامعات العالم‮.‬
أما القول بأنه ليس لدينا مدرسة نقدية،‮ ‬فإنني أقول بوجود مدرسة مصرية للنقد،‮ ‬فأنا أري أن النقد هو عملية وصف وتفسير وتأويل،‮ ‬ولدينا في النقد مدرسة الشيخ حسين المرصفي في القرن التاسع عشر ولدينا في التفسير الناقد المصري أحمد السبكي في القرن الرابع عشر،‮ ‬ولدينا في التأويل منهج ابن عربي،‮ ‬الثلاثة‮ ‬يمثلون مدرسة مصرية عربية،‮ ‬فالسبكي أول من أدخل النقد الثقافي عندما وصل في نقده للشعر بين البلاغة وعلوم المنطق والكلام والفلسفة الطبيعية والرياضية،‮ ‬والمرصفي‮ ‬يمثل مدرسة النقد الحديث التي ظهرت بعده في أمريكا وأوروبا ونحن نطلق علي هذا المنهج اسم النقد البلاغي،‮ ‬أما التأويل فهذا أحدث ما أخرجه الفكر الأوربي حاليًا،‮ ‬ولكنه قديم قدم ـيلون وأفلوطين المصريين،‮ ‬أي أن لدينا مدرسة ولكنها مشتتة،‮ ‬وقد قمت بإعادة هيكلتها في كتابي‮: «‬المذاهب النقدية الحديثة‮ ‬مدخل فلسفي‮».‬
الأفول الفلسفي
‮> ‬شهد القرن العشرون أربعة معسكرات فكرية‮ ‬انتظمت حركته،‮ ‬الماركسية،‮ ‬والتحليلية البريطانية،‮ ‬والوجودية الفرنسية،‮ ‬والبرجماتية الأمريكية،‮ ‬هل لاتزال أصداء هذه المعسكرات فعالة؟ وفي هذا السياق‮ ‬يقول زكي نجيب محمود إن الإشكالية أن هذه المذاهب تنكر وجود الحياة الأخري،‮ ‬وهنا تأتي الإشكالية معي كإنسان مسلم لي معتقدي في حياة أخري،‮ ‬فأين فلسفتي؟
‮- ‬في الواقع،‮ ‬لقد شاهد العالم في فترة عامي‮ ‬1968‮/‬1980‮ ‬تحولا جديدًا في الفكر العالمي‮ ‬يتسم خاصة بشيء من الأفول النسبي لفلسفات هيجل وماركس والفلسفة الوجودية‮. ‬فهذه الفلسفات رغم صحة كثير من حقائقها،‮ ‬ارتكبت هذا الخطأ الجذري بأنها أرادت أن تؤسس حقيقة العلاقات الإنسانية والوعي علي هدفية الصدام‮. ‬ويعتبر كتاب صدام الحضارات التجسيد الحقيقي لتلك الفلسفات‮. ‬بل إن تلك الفلسفات لم تؤدِّ‮ ‬فقط إلي استبعاد الآخر بل استعباد الآخر والاستعلاء عليه،‮ ‬في علاقة شبهها هيجل بالتشبيه الذائع الصيت علاقة السيد بالعبد‮. ‬وذلك لأن تلك الفلسفات تأسست علي الانفصال بين الذات والموضوع‮. ‬إنها‮ ‬فلسفات قامت علي تأكيد التعارض بين عالم الروح وعالم المحسوس‮. ‬لهذا تحاول الواقعية الروحية تصحيح هذا الوضع أي رد الاعتبار للآخر وعدم الفصل بين الذات والموضوع وكذلك عالم الروح وعالم المحسوس‮. ‬ونحن نعرف أن فلسفة ماركس تقوم علي صراع الطبقات،‮ ‬والتحليلية البريطانية تشييء الآخر وتقوم بتحليله كشيء وتخضعه للتحليل الاجتماعي والنفسي علي أساس‮ ‬غريزتي الجنس والجوع،‮ ‬ونحن نري مع سارتر هذا التصور للآخر بوصفه خصمًا للأنا،‮ ‬وهذا الموقف‮ ‬يستخدمه سارتر أساسًا لتفسير العلاقة المتبادلة بين الموجودات الإنسانية وهي علاقات جسدية في المقام الأول‮. ‬وتري الوجودية أن الموقف الممكن والوحيد الذي‮ ‬يتبقي بعد ذلك نحو الآخر،‮ ‬والذي‮ ‬يهدف إلي تحطيمه،‮ ‬هو موقف الكراهية‮: «‬الآخر هو الجحيم‮» ‬أما البرجماتية الأمريكية،‮ ‬فالآخر‮ ‬يكون بمقدار المنفعة التي‮ ‬يجلبها‮.‬
‮ ‬وأما بالنسبة لـ»نيتشه«؛ فقد كان التصور أشد وأقسي‮: ‬ألم‮ ‬يبشِّر بحلول النزعة العدمية؟ ألم‮ ‬يمجد‮ «‬إرادة القوة»؟ ألم‮ ‬يرفض المساواة بين البشر،‮ ‬ونادي بالدعوة للصفوة أو النخبة؟ ألم‮ ‬يؤكد عدم وجود حقائق،‮ ‬إذ ليست هناك سوي وجهات نظر؟
لكن لوحظ في منتصف السبعينيات من القرن العشرين قيام حركة جدلية حول القيم،‮ ‬مثل مدي توافق قيم العدالة مع قيم المساواة‮. ‬وقد لوحظ أيضًا تغير النظرة إلي الآخر،‮ ‬والتي تظهر في دعاوي العدالة والمواطنة والمشاركة وانتشار منظمات المجتمع المدني مما‮ ‬يشكل واقعًا جديدًا اسميته الواقعية الروحية‮ ‬Spiritual Realism وهي نظرة‮ ‬ترمي إلي توسيع وتأسيس الوجود علي أسس أخلاقية روحية أي‮: ‬تؤكد وتقيم صلة بين الحياة الإنسانية وحقيقة تؤسس هذه الحياة في القيمة وعليها‮. ‬والتركيز علي حقوق الآخر‮. ‬والحركة ليست خاصة بمصر وحدها ولكن في الغرب كذلك‮. ‬هذه الفلسفة تهتم بفكرة الوعي،‮ ‬فبدلا من أن‮ ‬يكون الوعي سجنا للفرد داخل ذاته أصبح الوعي انفتاحًا علي العالم الخارجي وتعايشًا معه،‮ ‬هذه الفلسفة ترمي إلي المصالحة مع وجود الآخر‮: ‬تلك كانت المؤشرات لظهور تحول حقيقي في عالم الفلسفة‮. ‬لم‮ ‬يعد الآخرون هم الجحيم كما هم عند سارتر أو العبد عند هيجل بل الآخر هو انعكاس للأنا،‮ ‬الآخر هو مرآة الذات‮. ‬الإنسان هو مرآة أخيه‮. ‬بل تنتشر الآن في فرنسا بالذات فلسفة تري أن الآخر هو وجه الله،‮ ‬
وتبدو هذه الفلسفة متأثرة بترجمة جوته للآية الكريمة رقم‮ ‬115بسورة البقرة‮ ‬
‮»‬ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم‮« ‬‮ .‬
Gottes ist der Orient
Gottes ist der Okzident
Nord-und Südliches Gelände
Ruht im Frieden seiner Hände
لذا فإن لفيناس،‮ ‬الفيلسوف الفرنسي المعاصر،‮ ‬يري أن وجه الآخر‮ ‬يولد الالتزام،‮ ‬لأنه‮ ‬يحمل إمكانية التعبير الذي‮ ‬يمكن أن‮ ‬يقوله الآخر،‮ ‬بوصفه مسئوليتي‮. ‬إن وجه الآخر‮ ‬يلزم الذات‮ (‬من الداخل‮ ‬Interiority) بأن تنفتح علي الإمكانيات التي لا تعرفها ولا‮ ‬يمكن أن تعرفها‮: «‬أن الوجه‮ ‬يكشف الخطاب الأصلي الذي تكون كلمته الأولي هي الالتزام‮ ‬Obligation،‮ ‬الذي لا‮ ‬يسمح أي‮ »‬داخل‮« ‬بتجنبه‮ (‬لــيناس‮ ‬1969‮).‬
أما أين فلسفتنا فهي منبثة في الأدب والفن المصري وتحتاج فقط إلي بذل الجهد في التنظير و«الواقعية الروحية‮» ‬هي إسهام متواضع من جانبي في هذا الجهد‮.‬
‮> ‬قال النقاد والمنظرون إن الدكتور شبل أوسع في كتابه‮ «‬النقد السينمائي من منظور أدبي‮» ‬من نطاق النقد السينمائي فلم‮ ‬يعد مقصورا علي نقد فنون الصنعة أو التكنيك بل أصبح‮ ‬يشمل مناهج مستقاة من التراث النقدي العالمي كما أنك أوسعت من نطاق النظرة إلي السينما بحيث تربطها بغيرها من الفنون ربطا موضوعيا من منظور النقد الأدبي،‮ ‬وهذا الربط هو ثمرة نضج في الفكر وفي التعبير،‮ ‬هل تنسحب هذه الرؤية في مشروعكم الأدبي علي الفنون الأخري مثل المسرح والفن التشكيلي والدراما،‮ ‬وهل هذه رؤية أكثر اتساعًا لوحدة الفنون؟
‮- ‬في الحقيقة كتاب‮ »‬النقد السينمائي من منظور أدبي«كنت قد أعددته لتدريسه لطلبة قسم الإعلام،‮ ‬وقد وجدت أن له صدي بين دارسي الفن السينمائي،‮ ‬وقدمت الناقدة د‮. ‬عزة هيكل برنامجًا عنه في القناة الثقافية بالتليفزيون المصري،‮ ‬كما جاء للجامعة التي أعمل بها بريد إلكتروني من المكتبة القومية الفرنسية تسأل ما إذا كان مؤلف الكتاب هو نفسه رئيس الجامعة؟‮ ‬يبدو أنهم كانوا‮ ‬يقومون بتوثيق بيانات الكتاب بفهارس المكتبة القومية الفرنسية،‮ ‬ولكن وجدت أن بعض القراء رأوا في الكتاب أنه‮ ‬يخص السينما فقط،‮ ‬فأصدرت كتابًا آخر لتوسيع هذا المفهوم النقدي ليشمل باقي الفنون،‮ ‬والكتاب بعنوان‮ «‬مبادئ النقد الأدبي والفني‮» ‬وقد حظي هذا الكتاب بعده مراجعات في المجلات والجرائد‮.‬
وتنسحب هذه الرؤية علي الفنون الأخري مثل الدراما والمسرح والفن التشكيلي والأدبي لأن أساس هذه الفنون هو الخيال،‮ ‬والخيال له تعريفات كثيرة ولكن أنا اختار المقولة التي تقول إن‮ «‬الخيال هو الحرية في أن نري الشيء علي‮ ‬غير ما هو عليه‮» ‬لهذا ارتبط الأدب والفن بالحرية والوجود‮/ ‬الحقيقة‮.

 

* عن أخبار الأدب – مجدي العفيفي

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail