الخطاب: المفهوم والحدود / رامي أبو شهاب

يعد مفهوم الخطاب Discourse من القضايا الشائكة في الدرس النقدي لحداثة المفهوم، وتعدد مرجعياته حيث يتخذ تسنينه الاصطلاحي تبعاً للحقل الذي ينتمي له، فهنالك الخطاب الأدبي، والاجتماعي، والفكري، والإعلامي، غير أن ما يؤسس لمفهوم الخطاب العلوم التي تعمل على إنشائه، ووضع مبادئه وإجراءاته، يشير صلاح فضل إلى ذلك:
ولعل أهم الدراسات المشتركة بين العلوم المختلفة المتصلة بالخطاب، هي الدراسات النفسية اللغوية والاجتماعية اللغوية، وهي تجرى لوضع الأسس التجريبية والنظرية لتحليل الخطاب، وتتصل بتحديد طبيعة العمليات المعرفية المستخدمة في إنتاج الخطاب، وفهمه وتخزينه وإعادة إنتاجه. بالإضافة للقواعد المعرفية العامة .
تحيل قواميس اللغة الإنجليزية الخطاب إلى المنطوق أو المكتوب بهدف التواصل والمناظرة في موضوع محدد مدعوما بسلطة تتيح له التعبير . بينما يحيل قاموس روتلدج النقدي مفهوم الخطاب إلى بدايات القرن العشرين مشيرا إلى النسق ونظام التقديم عبر فعل الكتابة أو الكلام، آتيا على تحولاته في بعض الحقول الدراسية، منها اللغوي، والنفسي، والنقد الأدبي، والفلسفي، وعلم الاجتماع . نخلص مما سبق إلى أن الخطاب يتحدد ضمن توجهين، أولا نظام لغوي تبعا لقواعد تشومسكي في التركيب النحوي للجملة ، ثانيا ربط مفهوم الخطاب بعدد من المفاهيم التي تتجاوز مقولات من يتكلم؟ أو إن كان هذا الملفوظ صحيحا أم لا؟ فالخطاب يمتاز بعدد من الوظائف والمفاهيم الجديدة التي تركز على قوة ومقدار الخطاب، وأدواره الوظيفية، ونموذجه خطاب علم الإنسان (Ethnography) القائم على وصف ثقافات الشعوب والتعريف بهويتها وتشكلها ، وقد أشار صلاح فضل إلى ازدهار دراسات الخطاب في الغرب خارج سياق علم اللغة نحو علوم أخرى منها علم الاجتماع:
أما علم الاجتماع فقد تركزت بحوثه في مجال التحليل المستفيض للحوارات اليومية، وقواعد متتاليات الجمل، وأفعال الحديث ومحتواه المتعلق بالمعتقدات وأنماط السلوك للأفراد في امجتمع .
نلاحظ أن الخطاب يقوم على عامل التضافر بين عناصره فهو كلي، وليس وحدات جزئية مشتتة ، وهو كذلك مجموعة من الخصائص التي تنظمه، والتي بدورها يمكن ألا تنتمي كلها إلى مجال اللغة ، فخطاب الإعلام على سبيل المثال تجاه قضية ما، يتكون من عدد من المنتجات، ربما تكون تقارير إخبارية تتحقق بمتلفظ لغوي، يتم تقديمه ضمن نظام معين يتيح أن يحقق هدفا، وهذا يتطلب عددا من الاستراتيجيات، منها على سبيل المثال، التواتر المطرد في تقديم التقرير، عوضا عن أساليب معينة أخرى تتيح ترسيخ المعنى المتوخى، مما يعني أن هنالك خصائص معينة تسم الخطاب، فالمنتج اللغوي، يتقاطع مع البعد الإشاري والنفعي والوظيفي، ضمن حقل معرفي، وممارسة محددة، وهذا يعني أن الخطاب الإعلامي يتكون من مُخاطِب (الجهاز الإعلامي)، ومُخاطَب ( المشاهد)، والملفوظ هو التقارير، بينما يتبدى النظام في أسلوب العرض، وهكذا يتوجب علينا أن نفصل بين الخطاب والنص، على اعتبار أن الخطاب في النهاية هو ممارسة اجتماعية، بينما النص عبارة عن سيرورة إنتاج النص، وكونه- أيضاً- يعمد إلى الشمول، فهو إشارة إلى كامل سيرورة التفاعل الاجتماعي، والذي لا يشكل النص سوى جزء منه ، و لهذا فإن البعض يرى فيه’ نظاما من البيانات بوساطته ومن داخله يمكن أن يعرف العالم’ .
برز مفهوم الخطاب في الفكر الفلسفي الفرنسي المعاصر، وتحديدا منذ 1960 ، ضمن عدة مستويات منها اللغوي، والفلسفي، والاجتماعي والأدبي، والأخير ينطلق من النطاق العام الذي يحكم إنتاج النص و تداوله، أو موقع الكلام بعبارة أخرى ، حيث يراه ‘بنفنست’ عبارة عن التمثيل للوقائع أو الأحداث في النص دون العناية بتسلسلها الزمني ، وهذا يقارب إلى حد ما مفهوم باختين الذي يرى فيه سلسة من منتظمة من الحوادث والأحكام ، وهذا يخالف التعريف اللغوي القائم على الجملة، أو المنطوق، بل إن أغلب الدارسين يولون أهمية كبرى لفكرة النظام، أو التنظيم الداخلي، أو كما يطلق عليه البعض السياقContext ، فالخطاب يجمع الوحدات النصية المكونة له . في دراسات علم النفس الاجتماعي والتحليل النقدي، يتحدد مفهوم الخطاب بالاتكاء على المدرسة اللغوية، والنظرية الثقافية، ولكن تضاف مؤثرات أخرى تتجه للبحث عن تداخله وتعالقه مع روابط القوة الناشئة بفعل بنية الملفوظ الخاص، وعلى سبيل المثال موضوع الجنس ، وهكذا بات التركيز أكثر على وظائف الخطاب ، لا على مكوناته فقط، ونتيجة لهذا ترى سارة ميلز الخطاب بأنه عبارة عن التلاحم بين حقلين هامين هما اللغوي والثقافي . وقد وصفه فوكو بأنه شيء غير منجز داعياً إلى التأمل في نقطة البداية أو النهاية التي تشكله، فالخطاب يرتبط بما يتجاوز مقصد الملفوظ أو المنطوق أو المكتوب، فهو أبعد من ذلك، وأكثر تعقيدا، خاصة حين يتوجه إلى المؤسسة التي ترعاه، وتحدد قوانينه، فالخطاب كما يرى فوكو:
إنتاج مراقب ومنتقى ومنظم ومعاد توزيعه، من خلال عدد من الإجراءات التي يكون دورها الحد من سلطاته ومخاطره .
و كما يتضح لنا، فإن فوكو يبتعد عن تحليل الخطاب من حيث مكوناته اللغوية، فهو غير معني بالكتل الكلامية وتأويلها، وجمالياتها ومعانيها المضمرة، بل هو معني بالممارسات التي تحيط وتتحكم به، فالخطاب يخضع لسلطة تتيح له الظهور أو التلاشي، فهناك مستويان من الحضور والغياب، وكلاهما يحتاج إلى تعليل، غير أن فوكو يضيف مفهوم التوزيع الذي يحكم مفهوم الخطاب متجاوزا الفكرة المبدئية التي تقوم على توزيع الوحدات اللغوية المكونة له، ففوكو يبحث توزيع الخطاب في الزمان أو المكان، والعلاقة الناشئة مع المتلقي، مع العناية بالأثر والدوافع، فخطاب ما، ربما يكون مستبعدا في رقعة جغرافية، في حين أنه مقبول ومرحب به في رقعة أخرى.
يناقش فوكو استراتيجية الاستبعاد الممارسة في النص وارتباطه بالمؤسسة التي تتحكم بالخطاب، وهذا ما يمكن أن نحيله إلى واقع الثقافة الغربية في فترة زمنية استبعد الحديث فيها عن الجنس أو السلطة السياسية، فالخطاب تكوين بسيط، ولكن ما يحيط به يجعل منه معقدا، ففوكو يستدعي في السياق أشكال المنع التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالرغبة والسلطة، ولذلك علينا أن نبحث أكثر في الرغبة لامتلاك السلطة والاستيلاء عليها كما يشير فوكو ، وبناء على ذلك فلا غرو أن يسوق لنا نموذجاً لمنع قد مورس عبر تحييد وإقصاء خطاب الأحمق في أوروبا في القرون الوسطى الذي أضحى لا يعتد به ، ولذلك ينبغي دراسة خطابه هو، وليس عبر ما تم تمثيله من قبل المصحات والمستشفيات وأطباء الطب النفسي، أي خطابها المؤسساتي. إن المنطلق الذي يحدد ذلك كما يرى فوكو، هو التعارض بين ما هو حقيقي، وما هو خطأ ، وهكذا تنتج لنا منظومة الإبعاد التي تحيط بالخطاب ومصدرها السلطة، وهذا الواقع لا يستثني عصرا ما، إنما هو مطّرد ومستمر، كما النص الأدبي القابل للشرح والتعليق والبحث، على عكس النص القانوني، فهو نص متوقف بناء على بعد زماني أو مكاني.
يذهب فوكو في تحليله للخطاب نحو المنتج له، أي المؤلف، الذي لا يتحدد بكونه الفرد المتحدث الذي نطق أو كتب نصا، بل المؤلف كمبدأ تجميع الخطاب كوحدة، وأصل لدلالات الخطابات ـ وهنا يتجاوز فوكو مفهوم المؤلف حيث يضعه في مستوى متوارٍ حين ينظر إلى منظومة العمل المنتج من قبل المؤلف في حقل معين، فالفروع المعرفية تتشكل في مجملها عبر مجموعة من الموضوعات والمناهج والقضايا، ومن خلال شبكة من القواعد والتعريفات والتقنيات والأدوات التي تشكل بدورها منظومة مجهولة موضوعة تحت تصرف من يريد دون العناية بمبتكرها أو واضعها ، وهذا مما يعني نظاما معرفيا واسعا ومتعددا ومتشعبا، يقوم بتقبل ما هو منظم، في حين يستبعد ما دون ذلك، مما يسمح بتشكل هوامش لهذا الحقل المعرفي، ويتطور نظام الإجراءات الذي يحدده فوكو للخطاب عبر التقليل من الذوات المتكلمة، ويتم هذا من خلال الاستبعاد لمن لا يستجيب لبعض المتطلبات المحددة من قبل السلطة.
و هكذا، فإن فوكو يؤطر الخطاب ضمن عدد من المبادئ باحثا في استراتيجيات تحليل الخطاب تبعا للمبادئ التي تتلخص في مجالات المعرفة، والذاتية، والسلطة ، فالأهمية تكمن في العلاقات التي تنشأ بين عناصر الخطاب، وتكوّن في مجملها نسقا خفيا يوحد مجموع المعارف والعلوم ، هذا النسق ليس بالتأكيد نسقا لغويا، إنما هو ممارسات خطابية تتكون من عدد من المبادئ والقواعد والشروط، وهذا يتنافى والتحليل الألسني، لاسيما البنيوي منه، ففوكو في النهاية غير معني بالإمكانات الشكلية للغة بمقدار ما هو معني بوجود الخطابات كأحداث لها وظائف وعلاقات وآثار ، فالوحدة الخطابية تفقد قيمتها، فهي لا يمكن أن تنشأ إلا داخل حقل خطابات متشابك ، وهكذا نتوصل إلى أن مفهوم الخطاب لدى فوكو، هو عبارة عن نسق منتج لمقولات متعددة، أو كما تقول سارة ميلز فإن الخطاب لدى فوكو عبارة عن شيء ينتج شيئا آخر( ملفوظ- مفهوم – أثر)، وهو أكثر من شيء موجود فعليا بحد ذاته، وبالتالي يمكن تحليله منعزلا .

 

عن القدس العربي

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail