عن عالمية الشعر الفلسطيني

أشرف الزغل

الشعر بالمطلق عالمي لأنه يصف الحالة الإنسانية باللغة لكنه يستخدم أدوات إنسانية  – اللغة واحدة من مكوناتها – للوصول إلى المعنى فيؤسس للجوهر الإنساني ولما بعد اللغة. لكن ما الذي يجعل شعرا “ما” عالميا؟. أو بدرجة أكثر غوصا في المستوى الجيوسياسي للحالة الإنسانية، ما الذي يجعل شعر شعب ما عالميا؟. على مدى عقود طويلة، تميز الشعر الفلسطيني ببلاغة عالية في وصف قضيته الوجودية وعرضها للعالم. ترجمت أعمال الشعراء الفلسطينيين الى العديد من اللغات وقرأها الناس في شتى أنحاء العالم. وقرأها الشعراء الفلسطينيون بلغتهم في المحافل الدولية ومهرجانات الشعر. هل حقق الشعر الفلسطيني عالميته بتلك الأدوات اذا؟. هل الترجمات والاحتفاليات كافية لجعل الشعر الفلسطيني أو أي شعر يحمل “قضية شعب” عالميا؟.

يتميز الشعر الفلسطيني بغنائية عالية، والغنائية من الأصول السحرية للشعر، التي تجعله قريبا الى القلب، القلب بالمعنى الإنساني الرحب. غير أن الغنائية كثيرا ما تحمل بلاغة المغني والمغنى له، فهي قادرة على استيعاب أطنان من اللامعنى دون أية أعذار. أدرك قليل من الشعراء الفلسطينيين ثقل البلاغة الشعرية في الشعر الفلسطيني على الأثر الإنساني لهذا الشعر. كان محمود درويش “شاعر فلسطين القومي” واعيا لثقل السياسي على قصيدته، التي بشكل ما أصبحت ملكية خاصة للشعب الفلسطيني في الوطن والمنفى. كان درويش يعاني من غربة قصيدته عنه، يشدها من جهة وتشدها الملايين من الجهة الاخرى. كان ذلك جليا حين كان يلقي الشعر أمام الجموع الغفيرة التي لم تنس قصائده القديمة، الغاضبة، والمحملة ببلاغة هائلة. لكن، وعلى الرغم من اصداره مجموعات شعرية بمضامين جديدة ولغة مؤنسنة في التسعينيات، الا أن جماهير الشاعر ظلت تبحث (ولا تزال) عن الثيمة الوطنية حتى في النص العادي الذي لم يقترح فيه درويش أبعادا وطنية، حتى حسب منظوره الخاص عن “الكتابة في الظل”. وصل محمود درويش ووصل معه الشعر الفلسطيني إلى “عالمية ما” بفوزه المستحق بجوائز عالمية عديدة، لكن شعره بالمعدل العام قرئ قراءة سياسية، وذلك ليس سرا.

يظلم القراء – بصيغة الجمع ودلالاتها- الشاعر إذ يضعونه في سياق النكبات والنكسات الجمعية والأمل بظهور شاعر القبيلة دون النظر إلى فردانيته، وكيف يتعامل مع هويته الخاصة ومشروعه الإنساني الرحب. وهذا يقود إلى سؤال مركزي: هل يمنع السياسي الشعر من أن يكون عالميا؟ ولماذا؟. هنالك مفارقة في هذا الأمر. المفارقة أن السياسي قد يساعد الشعر، قد يعطيه عكازة ليقف، ليمثل روحا وطنية ما، جغرافيا ما، لكن المشهد السياسي طفيلي بالفطرة، يتغذى على من يقع في إحداثياته. هناك أسباب عديدة لذلك، منها أن السياسي يتعلق بالزماني والمكاني وبالخطاب المعرفي وتاريخيته. يضع السياسي قبعة كبيرة على رأس الشعر فلا ترى وجه الشعر بل ترى وجه الخطاب. وهنا تحدث حسرة الشاعر وخسارته فهو بوطنين: الشعر والأرض. فإذا كانت الأرض ثقبا أسود كفلسطين، بجغرافيتها الروحانية والأيديولوجية اللانهائية، فالشعر أمام تحد خطير، تحدي الخطاب، تحدي البلاغة، وتحدي الجماهير التي تريد شاعرا بهيئة نبي.

في سياق فوز الشاعر الفلسطيني غسان زقطان بجائزة غريفين العالمية للشعر، يتردد السؤال ذاته بشكل أكثر إلحاحا. والإجابة  تقترب أكثر من الفرضية المطلوبة شعريا وشعبيا: نعم؛ باستطاعتنا الحكم الآن أن الشعر الفلسطيني يأخذ خطوة نحو العالمية, خطوة تحمل إيقاعا شعريا أكبر من الإيقاع السياسي, وذلك للأسباب التالية:

  1. مبنى الشعر “قصيدة النثر في حالة زقطان”

  2. البساطة في سيمانتيك الشعر (التعامل مع البلاغة)

  3. التصالح مع السياسي دون فقدان ديناميكية المشروع الشعري

  4. نظرة المترجم لترجمته كنص جديد

  5. إيمان المترجم بضرورة ترجمة الشعر وإعطائه البعد العالمي

فيما يلي توصيف مختصر للشاعر والمترجم لاستظهار معالم الوصفة السالفة للشعر العالمي. الغرض من توصيف احداثيات الشاعر والمترجم هو تحديد معالم رئيسة في الشعر العالمي؛ معالم تؤهل شعرا ما – حتى لو كان يحمل بعدا سياسيا مسيطرا – أن يكون عالميا.

إحداثيات الشاعر:
الشاعر غسان زقطان من رواد قصيدة النثر، وهي قصيدة إنسانية الشكل كونها لم تخرج من جبة المعلقات أو من موازين الخليل. ليس في ذلك حكم قيمي، إنما إشارة إلى رغبة زقطان التاريخية في محاورة الجديد معرفيا وجماليا. وهو الذي يقول عن جيله في في حوار : “خرجنا من محليَّتنا، وبدأنا نعي ضرورة فهم الشعر كتجربة وجودية وحياتية كاملة”. كانت  لزقطان حصة في المشهد السياسي، فقد عاش مراحل مهمة في التاريخ الفلسطيني كحصار بيروت واتفاقية أوسلو. لكنه عرف أين يموضع مشروعه الشعري في المستوى السياسي، لذلك بقيت احداثيات مشروعه “متصالحة” مع الشعر وجوهره ومع السياسة وكمائنها. لكن غسان واع تماما أن مشروعه الشعري قائم أيضا على احترامه لديناميكية الشعر واحتياجاته الجمالية. هو يعرف الحرب والجنود و “البرابرة” حين يمرون، وهو خبير بما تفعله البلاغة بالشعر والشاعر، لذلك فشعره متوازن : بسيط وضروري “تماما كالماء والهواء”. لذلك أختارته غريفين ليفوز بالجائزة العالمية، لأن شعره لا يختلف عن رؤية العالم للشعر؛ الشعر الذي “كالماء الذي نشربه والهواء الذي نتنفسه”.

إحداثيات المترجم:
فادي جودة شاعر ومترجم فلسطيني أمريكي ، فازت مجموعته الشعرية الأولى بعنوان The Earth in the Attic “الأرض في العليّة” بجائزة سلسلة ييل للشعراء الشباب، وحاز على جائزة سيف غباش – بانيبال عن  ترجمته لمختارات من شعر محمود درويش بعنوان The Butterfly’s Burden “عبء الفراشة”. فادي جودة الطبيب والشاعر والمترجم يقول في حوار: “يحز في نفسي أن الشعر العربي الحديث لم يُسجل حضوراً قوياً في اللغة الانكليزية، وشعر محمود درويش تحديداً لم يُترجم الى اللغة الانكليزية بالحجم الذي يليق به وبتجربته …. كيف نكون نحن من رُواد الشعر في العالم وغير موجودين في اللغة الانكليزية؟“. يقول جودة في ذات الحوار : “أنا مؤمن أن ترجمة الشعر بالذات هي خلق لقصيدة جديدة“. جودة يفكر في قصيدة الآخر بشكل خلاق، بعقلية الشاعر، وهذه وصفة هامة لشعر عابر للغات، وصفة لنجاح الشاعر والمترجم.  وهذا ما حدث في تورونتو حين فازت مجموعة غسان زقطان المترجمة “كطير من القش يتبعني” بجائزة غريفين للشعر.

 

 

 

 

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail