العزلة سيئة السمعة

“نعم،جيّد التّحدّي الأمريكي القديم،”اللعنة عليكم جميعا”، هذا في الواقع ما قاله ابن الجّزار الذّي مات منذ ثلاثة أشهر قبل عيد ميلاده العشرين، انه المسكين ماركوس ميسنر،1932-1952،الوحيد من دفعته ولسوء حظه لقي حتفه في حرب كوريا التّي انتهت بتوقيع الهدنة في 27 يوليو 1953، لسوء حظه حدث هذا قبل إحدى عشر شهرا،فقط،لو كان قادرا على تحمّل ساعات العمل في المكتب وأغلق فمّه الكبير، يتلقى شهادته مكرّسا نهاية دراسته في جامعة( Winesburg )،من المرجّح وبحكم نباهته في الدّراسة أن يكون الطالب المتفّوق في دفعته، لكن سيدفع به في وقت لاحق لاكتشاف أن أباه الغير المتعلّم،الذّي حاول وهذا منذ أمد بعيد غرس فيه من البداية نوازع الفشل وعدم الثقة في النفس:انها طريقة رهيبة لتنشئة الأولاد، طريقة غير مفهومة بما في ذلك القرارات التّافهة والفجائيّة التي يسديها له، بل قل أيضا،الكوميديّة،فكانت لعواقبها اكبر الأثر الغير المتكافئ”، سيكتشف القارئ في هذه الفقرة الصّغيرة فيليب روث، روث السّخريّة والأخلاق،الحظّ والمصير،مفارقات هي تيّماته المفضلّة في جلّ أعماله الكتابيّة،بل انه ناضل بدون هوادة لشرح هذه التناقضات المجهضة لنضالات أبطاله،لهذا السّبب توضع رواية(Indignation / سخط)،سنة 2010،في خانة الرّوايات التّي تفضح نفاق التزمّت الدّيني،التّشدّد،الأبويّة الفوقيّة،السّلطويّة الهرميّة،بروتستانتية أمريكا سنوات الخمسين،بطبيعة الحال،يقدّم لنا دائما و كعادته شيئا أكثر عمقا كعادة رواياته السّابقة بخلفياتها الاجتماعيّة،في رواية ـ سخط ـ ، يعرض علينا كيف ، لحظة لحظة،كيف يتحوّل وجود ما لشخص إلى فاجعة،السّقوط في التّراجيديا، وبان كل حياة أي كائن من كان ما هي في الحقيقة إلا نتاج أفعال وأقوال نقوم بها ، حتى الأبسط منها والأكثر تفاهة،سخط هي أيضا التباسات الطالب ميسنر،يشبه كثيرا عدّ تنازلي لمصير محتوم هي نهايته البيضاء أو السّوداء،قوّة الرّواية التّي لا تنقشع غماماتها السّرديّة القلقة والغامضة إلاّ في الفصول الأخيرة،بحيث نتبع خطوات الكاتب خطوة خطوة نحو الموت من وجهة رأي الذّين يعيشونها،تلك القرارات التّي أخذوها و من المؤكّد انهم ندموا عليها،هنا،نقصد الشّخصيّة الرّئيسة،ماركوس ميسنر،سيقودنا روث بطريقته السّلسة والذّكيّة وبلغة بسيطة في متناول الجّميع إلى عوالم أبطاله لنكتشف دون أن ندري اننا جزء منها،لما لا نسخة مطابقة لأحد شخصياتها،سيجعلنا نقترب أكثر من ماركوس ميسنر،أمريكي الخمسينات الهشّ والمتخبط،ضحيّة سلطة أقوى منه،نفهمه،أكثر من هذا نتعاطف ونتضامن معه، أيضا نوافقه على كلّ ما سيفعله بحياته،حتى لو تعلّق الأمر بالخطأ الغير المقصود، كلّ لفتة منه هو بالتأكيد ردّ فعل ساخط على غباء ونفاق الكبار:أباه الجّزار الذي يدفعه بسبب تصرفاته إلى التّسجيل في الجّامعة بعيدا عن المنزل، الأولاد المراهقين في الحرم الجّامعي يلطخون سمعة صديقه ميسنر التّي يقع في حبّها بحجّة أنها متحرّرة عن اللّزوم، المدير كثير الشّكوك،المتسلط فيذكّره بأبيه،أمّ يهوديّة أنانيّة وخبيرة في الابتزاز العاطفي وما شابه ذلك،وفي مواجهتهم هذا الشاب المسكين العاشق والذي يكتشف أحلى شيء في الوجود إلا وهو الجّنس، الجنس المعبود والمرغوب فيه( هو ثمرة تعلميه)،في آخر لحظة وأمام الضّغوط المتكالبة عليه سيثور ضدّ الجّميع الذّين يحاولون الوقوف في وجه الرّغبة،يدرك روث جيّدا بأنه يوجد عند المقهورين ما يسمّيه ب”محرّك تمرّد قويّ”،قوة تدميريّة خارقة للعادة،انه في الحقيقة “الرّغبة الجّنسيّة”،سخط السّخريّة،هذا ما يريد روث قوله لنا في خاتمة روايته، ثورة” قويّ،ومن المحتمل أن يكون هذا الشّاب متقدّم جدّا من وقته،عشرون سنة فيما بعد، ستنقلب أمريكا تحت نير أطفالها المحبطين والمكبوتين،<<في سنة 1971،الاضطرابات الاجتماعيّة، التّحوّلات والاحتجاجات الصّاخبة لسنة 1960 ستصل في نهاية المطاف الى جامعة (Winesburg)،جامعة رجعيّة وغير سياسية كما كانت عليه>> ..

 

..” كان قد فقد سحره”، هذه هي الجّملة التّي تبدأ بها روايته السّابعة وكتابه الثلاثون وهذا منذ 2001،اقل ما يمكن قوله ان فيليب روث لم يفقد من سحره،تلك الكاريزما التّي ندرت عند جيل جديد من الكتّاب،شخصيته الرّئيسة اسمه سيمون آكسلر،ممثل مسرحي كلاسيكي،يؤدي دور ماكبث على خشبة مسرح (مركز كينيدي)،ينهار فجأة بسبب آلام مبرحة هو نفسه”ليس متأكّدا إن كانت أصليّة”،أو انها آلام مصطنعة منه دون أن يدري،بالكاد ياكل، ينام أو يداعب بندقيّة “ريمنجتن 870 ” التّي يحتفظ بها في العليّة،<<الانتحار، يقول عندما وجد نفسه حبيس مصحة للأمراض العصبيّة،هو الدّور الجّديد الذّي ستكتبه لنفسك>>،مرعوب بان”الحفلة على وشك الانتهاء وبأنّه مجرّد روح ضائعة في نسمة الهواء الخفيف”،مثل “برسبيرو” في”العاصفة”،ينزوي في مزرعته في ضواحي نيويورك(سيكتشف القارئ بأنه منزل قديم يبدو وكأنه منزل روث)،ثمّ تحدث المعجزة، معجزة روث في رواياته النّساء،الحبّ أو الجّنس، سيلتقي بامرأة،ولكن كما هي عادة التّراجيديا،هناك الفصل الثّالث،احذروا جميعا، الفصل الثّالث عند فيليب روث معكّر للمتعة،للحلم والرّغبة في إنهاء الرّواية على وقع النّهايات السّعيدة،موسيقى هتشكوكيّة وجنائزيّة المؤثّثة لمعظم رواياته والتّي تتحدّث عن الشّيخوخة والعجز الجّنسي والإبداعات الضّائعة (رواية Exit le fantôme ، , La bête qui meurt، Un homme)، يضيف في روايته هذه تيّمة جديدة، هو التزام بغماليون في صناعة امرأة الرّغبة والمرغوب فيها من خلال (Pegeen)،”فتاة صبيّ “،”طفل كبير”،”سحاقيّة مجروحة ، تملك طاقة جنسيّة مدمّرة”،سهرة رائقة،عشاء سباغيتي “كاربونارا”، زجاجة نبيذ جيّدة،موسيقى شوبيرت، فينسى آلام فقرته القطنية بفضل المتعة الشّقيّة والشّيّقة التّي توفّرها له الامازونة الشّرسة والجّموحة،مفاخرا بأنه أعادها إلى أنوثتها المظلومة والمجروحة،من الواضح،سينتهي هذا الحفل بشكل سيئ، سيّئ للغاية،بالنسبة له أوّلا، ما بدا بانعكاس على موارد الإبداع الفني سينتهي برثاء للرجولة المنهزمة والمكسورة،سنجد بالإضافة إلى الأسود الكفكاوي، كلّ توابل السرد على طريقة فيليب روث،” الأنا ” المقسّم والمشوّه،أوهام تعلقاتنا المبهمة والهشّة، عواطفنا الحزينة والمظلمة، الانتقال الدّائم من دور إلى دور، العزلة سيّئة السّمعة،وخاصة،في هذه الرّواية هي عزلة ووحدة راديكاليّة،لا ترحم،التّي تذكّر باسكال:<< سوف يموت وحده>>.

 

يتبع: مقتطفات من رواية “الإذلال”

ترجم الملف عن لوموند الفرنسية: عبد الغني بومعزة

 

 

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail