حياً يُسرق – جديد الكاتب والمسرحي نعيم الخطيب

Naim Khatibعن دار فضاءات للنشر والتوزيع – عمان.
حياً يُسرق (نصوص)
للكاتب الفلسطيني نعيم الخطيب

* صدر للكاتب الفلسطيني المقيم في غزة نعيم الخطيب كتابه المعنون” حيا يُسرق” والذي يضم 42 نصاً تشكّل بمجموعها كتابةً حرةً، تستعصي في بعض نماذجها على التجنيس التقليدي، أو المألوف، حيث تتداخل فيها الأشكال السردية (بنوعيها: القصة القصيرة، والقصيرة جداً) والشعرية، والخواطر، والاعترافات، والتأملات… إلخ. وثمة نصوص لا يتضح فيها هذا التداخل، فتميل إلى أن تكون قطعةً سرديةً، أو قصيدة نثر، أو بوحاً، أو نص مسرحي.
(وفي مقالة له يوجز الناقد العراقي عواد علي السمات الفنية لنصوص الكتاب بـ:
• التكثيف والترميز والغرائبية واللغة الشاعرية، واعتماد صيغة اللقطة في بناء الحدث.
• النبرة الساخرة والتهكمية في العديد من القصص، كما في قصة “ستاند آب كوميدي”، و”KLM”، و”فرحتان”: “عند وصولنا مشفى الشّفاء، أعادت إلى صدرها قطعة المعدن، ونقدتني دعائين- يقطران طحينةً- بطعم طاجن سمك غزلان مع القريدس والحبّار”، وقصتي “الشيخ” و”أجياد”: “كان رجلاً لحيماً، ضيّق الخُلقِ، رثّ الثّياب كثيرها صيفاً وشتاءً، مطْعَماً [بكسر الميم وضمها]. لم يُدعَ يوما إلى طعام، لكنّه لم يدعْ يوماً وليمةً ولا وضيمةً إلاّ قصدها برفقة (شوالٍ) لجمع الأرز الفائض…”.
• الخلط المتعمد، على نحو عبثي، بين الأشياء والأشخاص والآلات والأفكار، فيضفي صفات هذه على تلك، كما في قصة “سمحا قصيرة” مثلاً، التي يخلط فيها بين مركبة بيجو وصاحبتها “سمحا” التي تنقل بها العمال إلى داخلِ الخطِّ الأخضرِ، وتعودُ بهم مساءً.
• تلاعب السارد في المحكي بين الضمائر، متنقلاً من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطب أو الغائب أو بالعكس بحرية مطلقة، إلى الدرجة التي تسبب التباساً لدى القارئ، كما في قصة “وهكذا ابتدأت”، مثلاً، التي يحكي فيها السارد في بداية القصة عن نفسه وحالة النسيان التي أصيب بها “… قبل أيّام جاهدتُ نفسي طويلاً لكي أتذكّرَ اسم الممثّل الأمريكيّ المشهور…”، وفي المقطع الذي يليه يتحول إلى مخاطبة امرأة “انتهت القصّة عندما شاهدتُكِ تسيرين في جادّة كونيتيكت في واشنطن العاصمة… ما الّذي جاء بكِ ليلتها؟ وهل كنتِ حقًّا أنتِ؟”.
• تلاعب السارد بالتعابير والأحاديث المعروفة، في سياق نزوع الكاتب إلى الغرائبية وكسر المألوف، مثل “صار قاب صحنين أو أدنى”، “قريرَ اليدينِ و(الشّوالِ)”، “متورّطٌ في الأمر حتّى عمامته” في قصة “أجياد”. و”ساعةُ الحائط … تشير إلى الثّالثة قبل النّوم” في قصة “هنا اسمي كامل”، و”كقابضٍ على خريطة، ارتقى أبي درجات السّلم الحجري، الآيلة لذكرى الحرب في الجهة الشمالية الشرقية” في قصة “تاسعهم صمتهم”.
• تشتيت السارد للقارئ بالتركيز على موقف أو شخصية معينة، ثم تركهما إلى موقف آخر وشخصية أخرى، كما في قصة “أنيسة” مثلاً، أو تقسيم الكاتب للقصة إلى مقطعين لا رابط بينهما، كما في قصة “عسقلان تمر وقهوة” في سياق ميله إلى التلاعب السردي).

ومن الجدير بالذكر أن نعيم الخطيب كاتب ومسرحي فلسطيني مقيم في غزة ومن مواليد رفح عام 1968، حاصل على ماجستير في علوم الحاسوب وتخصص فرعي في المسرح، صدرت له مجموعته الأولى ( على الغارب) عام 2010.

 

نصوص من الكتاب

المفتي

الأماكن لا تؤتمن على الذّاكرة.
دخول دكّان (روكسي) للألعاب في مدينة غزّة هو محض خيانةٍ للذّاكرة، ولدهشة الطّفولة، وللعبةٍ ضاحكةٍ مثبّتةٍ في قفاها إسطوانةٌ بلاستيكيّةٌ، لم تعد تصنّع في أيّامنا. وزيارة المدرسة الابتدائيّة هي محض خيانةٍ للذّاكرة أيضًا، ولشجرة التّوت، ولفصل القرميد، اللّذَيْن تم إزالتهما بتبرعٍ سخيٍّ من إحدى وكالات التّنمية الدّوليّة.
جرّتني قدمي اليوم ـ الجمعة ـ إلى خيانة الذّاكرة، إلى رفح، للصّلاة في مسجد العودة، وللجلوس على يمين المنبر، حيث كان يجلس أبي عادةً.
الشّيخ حسن الضّرير، مفتي المدينة، ما زال على حاله. أعود إليه كلّ مرّةٍ بعد سنواتٍ، فأهمس بالتّحيّة، لينطق باسمي محتفلاً، لا بنبرة المستفسر ولكن بنبرة الواثق المستغرب. الشّيخ حسن يعيدني طفلاً كلّما لقيته.
الوجوه لا تخون الذّاكرة.
تشيخ الذّاكرة، ونشيخ معها، فقط عندما يموت الشّيخ حسن، والشّيخ أبو عزّوم، والشّيخ رجب، والأستاذ أبو الخير، والمقرئ أبو ضاحي، والمنشد أبو الهنّود.
نشيخ فقط عندما يموت آباؤنا.

 

سيسيليا

“ترى ما الّذي يحمل طفلةً في غزّة على…؟”، هذا ما لم تكمله سيسيليا، مراسلة إحدى الإذاعات السّويديّة المحليّة، في صدر صفحتها البيضاء.
فيما راحت الطّفلة تنتحب وهي تسرد البراءة والفجيعة في أبيها وأمّها وإخوتها والدّار. اكتبي يا سيسيليا قصّتنا علّها تذيب جليد قلوب مواطنيكِ وقليلاً من ملامحهم.
قد تسمع كلماتك امرأةٌ تعدّ مائدةً لشخص واحد. كانت قد أخرجت لتوّها من البرّاد سمك السّلمون، تمامًا كما تفضّله، مثلّجًا، نيّئًا، متبّلاً باللّيمون والخَلِّ وقليلٍ من الملح والثّوم. تذّوقت نبيذها الأبيض، وسقطت على وجهها دمعةٌ حارةٌ، لا لسبب سوى تذكّرها البيرة الرّخيصة في أنفاس عجل الفايكنج الهائج، ومرارة الدّخان في لعابه، ولسعة البرد في أطرافها، وبقعةً من روحها خلّفتها على المقعد الخلفيّ في سيّارة الثّور.
وقد تسمعها امرأةٌ أخرى فتبكي وجع حياةٍ سرّيّةٍ، تمسح أصابع زوجها الباهتة وجنتها المبلّلة. ما أطهر روحك يا حلوتي، يتمتمها مُرَّةً في حلقه. آه لو تعلمين أنّني أعرتها ـ هذا الصّباح ـ اسمكِ وشعرًا أبيضَ أنبته عَرَق صدركِ، عندما هزّنا جناح الشّبق في غرفة الموتيل القذرة على قارعة الطّريق السّريع. ابكِ، وطهّريني بدموعكِ.
وقد يسمعها سائقٌ رسمت العودة خارطتها في وجهه، واعتمر الشّوق ثلجًا لا يذوب. فبكى خرّيجًا فتيًّا من مركز التّدريب المهنيّ التّابع للأونروا، وأمّه تحيك خطبته من ابنة خاله ذات المريول الأزرق المقلّم والياقة البيضاء المصفرّة، قبل نصف ساعةٍ من سفره. كم عزف الحنين على أوتار من أعادهم، ولم يعد صبيًّا متّسخًا في ورشة خاله. وظلّ التّاكسي يمخر عباب الثّلج ووجعٍ في الرّوح في شوارع غوتنبرغ.
وقد تسمعينها فتبكين أنتِ نفسكِ يا سيسيليا. قد تبكين طفلةً سهوتِ عن صناعتها عمرًا فضلَّت في ثنايا ملامح وجهكِ الرّجوليّ. قد تبكينها وصديقَكِ اللّدود [المراسل النّرويجيّ في سراييفو]، عندما توشّح ليلتها كامل واقعيته وواقٍ ذكريّ، في اللّحظة المناسبة/ غير المناسبة.
بعد أشهر، كانت الطّفلة ذاتها تلاعب إخوتها أمام الدّار، فيما كانت أمّها تصفها بالمهرّجة وتتوعّدها بعلقةٍ ساخنةٍ من أبيها دائم الغضب.
يومها أكملت سيسيليا قصّتها: “ترى ما الّذي يحمل طفلةً في غزّة على الكذب؟”.

 

* مقدمة دار فضاءات

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail