المهديّ بإمكانه دائمًا أن ينتظر / نعيم الخطيب

إلى س. ح.، حين يموتُ، وحين يبعثُ حيًّا

 

Chagall Naim Khatibلا أظنُّ أنَّكِ تعرفين الشّيخ علاء السّمكريّ ـ فهو رفيقٌ لأحد أقربائي المشايخ ـ وكنتُ قد قصدته قبل يومين من سفري من أجل تجليس ودهان جناح سيارتي الأيمن. لم يكن الوقت كافيًا، لكنّ الرّجل بدا سعيدًا من أجلي: “نيّالك يا شيخ، سيكون في صحبتكم هذا العام نخبة من العلماء”. أتعرفين، لقد قضيت طفولتي كاملةً أتساءل لماذا يخشى الله من عباده العلماء. طبعًا لم تستوقفكِ لفظة شيخ؛ فهي مفردةُ مرحلة تمامًا مثل أبو الشّباب، وكابتن، وأستاذ، وباش مهندس، ودكتور، وباشا. كم يحزنني أنّها فقدت بعض حميميتها، تعرفين كيف يضرب أحدهم على كتف الآخر: “يا شيخ روووح”. ثمّ ما الّذي تنوي النّخبة فعله في موسم الحجّ هذا العام؟ أتعرفين، قبل أعوام حرث قريبي ـ صديق الشّيخ ـ الدّيار المقدّسة مكالماتٍ هاتفيّةً بحثًا عن المهديّ المنتظر أو إحدى علاماته، حتّى كاد أن يتسبب في ترحيل نصف العائلة من السّعوديّة وقتها.

لمَ أخبرُكِ بهذا كلّه؟ أنا صدقًا لا أعرف. وما الّذي تفعلينه في رأسي الآن؟ فهذا وقت نومي أو قلقي. أعلم أنَّ الياء ضميرٌ، ولكنّها في الأخير ياء الملكيّة. احملي عجزَكِ وعجوزَكِ وارحلي. ثمّ ألا يجدر بكِ أن تنوحي، أو تضربي خدّكِ، أو تشقّي ثوبكِ، أو تفعلي ما تفعله النّساء عادةً في موقف كهذا. ارتجلي، ولا تحاسبيني على اللّغة الآن، تعرفين ما أقصد. إن لم تفعلي، ستصدّقي أنتِ نفسك ما يقولونه من وراء ظهركِ: إنّكِ جئتِ بالرّجل إلى هنا لتختاري له ميتةً مقدّسةً. ولا أقصد أن أزيد سواد الصّخر بلّة، فالسّيل في الخارج يقوم بعملٍ جيّد. ولكن أيّ شيخٍ أفتاكِ بوجوب الفريضة على من تعافى لتوّه من جلطةٍ في دماغه؟ لربّما كنتِ بحاجةٍ إلى مَحْرَمٍ. وأيّ آخر أفتاكِ بجواز أن يؤدّي أحدهم المناسك نيابةً عنه؟ ثمّ ما لي أنا، ومالُكِ أو مالُه تنفقينه كيف شئتِ؟

يا امرأة، كان زوجكِ يعتقد أنّ النّاس يشدّون الرّحال إلى المسجد العُمَريّ الكبير في غزّة. لقد تجاوز الحدود بجسده فقط. وهذا قصّةٌ أخرى. أتعرفين، لم أكن يومًا على غير وفاقٍ مع جسدي مثلما كنتُ في لباس الإحرام. أحسستُ لحظتها أنَّ الله يعاقبني في جسدي. أمّا زوجكِ… وأرجو ألاّ تكوني قد بالغتِ في تفسير الدّهشة في وجوه النّساء، لقد كان لإزاره فعل جرس الهاتف الخلويّ في قطع الاتّصال مع الله. أتذكرين المكالمة الأولى لابنتكِ قبل مغادرتنا معبر رفح؟ ولتعذري فضولي، لقد ترجمتِ سعادتَكِ يومها: “أبوكي من الصّبح مطلبش يروح الحمّام”. عن أي حمّامٍ تتحدّثين، وزوجكِ كان يعتبر البلاد كلّها حمّامًا عموميًّا؟ ففي الوقت الّذي تسلّحتُ فيه بكمامةٍ طبيّةٍ وبمناديلَ معقمّةٍ، كان زوجكِ يدحرج التّفّاحةَ على الأرض مرّةً ويقضمها مرّةً أخرى. ربّما كان يحاول أن يثبت أنَّ الأرض/ التّفّاحة كرويّةٌ، أو أنّه ليس بالجراثيم وحدها يموت الإنسان.

أتذكرين كيف ودَّعَتكُما غزّة؟ أتذكرين الرّجل الجالس أمامكما وزوجته الثّرثارة المتحذلقة؟ لقد أنشد يومها في زوجكِ شعرًا لشوقي، وعندما سألتُه بعدها عن اسم زوجكِ أخبرني أنّه لا يعرفه، وأنَّ زوجَكِ كان مجرّد مدرّسٍ في مدرسته. كان الحزن في عيون ابنتيكِ المودّعتين باهتًا، مستترًا خلف نقابٍ، خجلاً من فحولة ابنك البار. دعيني أذكّرك بما قاله لأختيه قبل نزولهما من الحافلة في أرض الكتيبة الخضراء القاحلة: “يالله اقلبو.. المفروض كان حد يسافر معو”. أسمعتِ؟ أنتِ في نظره لستِ أحدًا، قادرًا على الأقلّ. بالمناسبة هل يأتيكِ صوته في الهاتف الآن مهتمًّا أم متّهِمًا؟ استيقظي يا امرأة. هكذا ودّعتكِ غزّة: “يالله اقلبو”. وهي بالمناسبة لم تكن أقلّ قسوةً من طويل العمر الّذي خرج في مؤتمرٍ صحفيّ ليعلن نجاح موسم الحجّ للعام 1431 هـ، فيما كَنَسَ الإحصاءُ أرقامًا تحت سجّادته، ولم تكن غزّة أقلّ قسوةً من التّكنولوجيا ليلة غيابه حين استلمتِ رسالةً قصيرةً فحواها: “نتيجة لهطول أمطار على مَشعِر مِنى، يحذّر الدّفاع المدنيّ جميع الحجّاج للابتعاد عن المناطق الخطرة والمناطق المتأثرة بمياه السّيول”. كم تمنّيتُ يومها لو كان زوجكِ مدرّس جغرافيا.

لماذا أنا؟ ولماذا الآن؟ ولماذا رأسي؟ ورأسي ليس خاليًا، ولي من أحرسُ غيابَها وتحرسُ أحلامي، وهي بالمناسبة لم تسامحني على غيابٍ غير هذا الغياب. وللآخرين حظٌ في دعائي. انظري إليّ، فبالأمسِ أفضتُ إلى الله سبعًا لم أدعُ فيهنّ إلاّ لرجلٍ بالكاد أحفظ اسمه. أليس جديرًا بكِ أن تعبثي برأس من أضاعه، أو آخر من رآه يومها؟ ألم يكن زوجُكِ همًّا جماعيًا، ولم يكن همَّ أحد؟ كم مرّةٍ جئتِ تشتكين اقتحامه لخيمة النّساء زائرًا؟ كم مئة مرّةٍ خرج كواثقٍ فضلّ طريقه، فانتخبت الأقدار من يعيده، وعاد؟ ما الّذي تستطيعين فعله لرجل تائهٍ في رأسه قبل أن يكون تائهًا في اللاّمكان؟ أيّ كلمتين من سحرٍ ستعيدانه إليكِ؟ انظري جيّدًا لدقّاتِ السّاعة، فالسّاعةُ الآن ثمانٍ وتسعون طابقًا، وستّون دقيقة. اخلدي إلى شيءٍ قبل أن يطلع علينا الفجر أو السّيّاف.
بعد بضع ليالٍ، تعثّر شرطيٌّ بخرائطَ لا يستطيع قراءتها إلاّ الله، فعثر على أبو عماد في سفحِ جبلٍ في مِنى. كان أغبرَ متّسخًا، لكنّه كان يرتدي ذات الثّوب وذات التّجاويف في رأسه، تمامًا مثلما شاهدته ظهيرة يوم أن انسّل خارج الخيمة، دون أن أحرّك ساكنًا. خرج يومها بلا سوارٍ حول معصمه، وبلا وجهةٍ، وبلا رجعةٍ. وعندما حاول الشّرطيّ جاهدًا أن يستنطقه من أجل معلومةٍ تدلّل على حالته أو هويّته، ظلّ ردّه يأتي متكرّرًا، فظًّا، ولكنّه كان أكثرَ من كافٍ: “بِدِّي مَرَتِي!!!”.

عاد أبو عماد إلى غزّة، فعدتُ خفيفًا. أمّا المهديّ، والأمتعة الزّائدة المشحونة جوًّا وبرًّا، وجناح سيارتي الأيمن فما زالت تنتظر.

 

من كتاب “حيا يسرق” نعيم الخطيب  

اللوحة : Marc Chagall

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail