الأدب ليس الفكر عينه / أنطون سعادة

Antoun Saadehإن الأدب كله من نثر ونظم، من حيث هو صناعة يقصد من إبراز الفكر والشعور بأكثر ما يكون من الدقة وأسمى ما يكون من الجمال، لا يمكنه أن يحدث تجديدا من تلقاء نفسه. فالأدب ليس الفكر عينه وليس الشعور بالذات، ولذلك أقول أن التجديد في الأدب هو مسبَّب لا سبب – هو نتيجة حصول التجديد أو التغيير في الفكر والشعور – في الحياة وفي النظرة إلى الحياة. هو نتيجة حصول ثورة روحية، مادية، اجتماعية، سياسية، تغير حياة شعب بأسره وأوضاع حياته وتفتح آفاقا جديدة للفكر وطرائقه وللشعور ومناحيه.

يذكرني بحث إنهاض الأدب السوري والأدب المصري ببحث وسائل ترقية فن التمثيل في سورية، فقد سألني أحد هواة هذا الفن منذ عدة سنين عن كيفية ترقية تمثيل الروايات في سورية. فقلت أن الأمر مرتبط بترقية حياة الشعب نفسه. فإن تمثيل أدوار الحب والشهامة والبطولة بألوان راقية يحتاج إلى شعور الممثل بهذه الصفات شعورا راقيا. والذين لم يتعودوا من الحب غير اتجاهاته الفيزيائية لا يمكنهم أن يمثلوا حالاته النفسية السامية. وقد شاهدت مرة أحد هواة التمثيل في دمشق، وهو شاب متنور، يحاول تمثيل دور التعارف مع فتاة ينتظر أن يقع حبه في قلبها وقع حبها في قلبه، فجاء الدور بعيدا عن إعطاء النتيجة المرغوبة على مستوى راق من الشعور والتصرف. وواحد آخر كان من نصيبه أن يمثل دور الوالد الذي نأت به الأقدار عن ابنته وحسب في عداد الأموات ثم عاد سالما موفقا ليضم ابنته إليه. فلما جاء حين المقابلة مع ابنته وظهرت الفتاة التي تمثل دور الإبنة حبطت جميع المحاولات لجعل ذراعي الوالد تمتدان بلهفة وتضمان الفتاة برفق وحنان. كانت الأنوثة أقوى تأثيرا على الرجل من مشهد الأبوة والبنوة الذي يشترك في تمثيله. ولو كان الرجل نشأ غير نشأته لكان أقرب إلى إجادة تمثيل دوره.

الأديب والشاعر والممثل هم أبناء بيئتهم ويتأثرون بها تأثرا كبيرا، ويتأثرون كثيرا بالحالة الإجتماعية – الاقتصادية – الروحية. والفنان المبدع والفيلسوف هما اللذان لهما القدرة على الانفلات من الزمان والمكان وتخطيط حياة جديدة ورسم مثل عليا بديعة لأمة بأسرها. ولا يقدر على ذلك الأديب الذي وقف عند حد الأدب والصور الجزئية التي تشتمل عليها صناعته. والشاعر الذي هو “مرآة الجماعات” أو “مرآة عصره” لا يقدر أن ينهض بالشعر أو بالأدب، لأن هذا النهوض يعني ضمنا: النهوض بالحياة وبالنظرة إلى الحياة. والشاعر الذي شأنه عكس حالة جماعته أو عصره كالمرآة ليس بالمرء الذي ينتظر منه ايجاد حالة جديدة لشعبه أو لعصره. فهذا شأن المعلم الفيلسوف، الفنان، القائد الذي يقدر أن يخطط تاريخا جديدا لأمته ويضع قواعد عصر جديدة لشعبه، وله أن يكون أديبا شاعرا إذا شاء وليس عليه أن يكون ذلك. وللشاعر أن يكون معلما فيلسوفا فنانا قائدا إذا قدر وليس عليه أن يكون ذلك.

 

أنطون سعادة – من كتاب “الصراع الفكري في الأدب السوري”

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail