إبن تيمية والراديكالية الدينية / عبد الوهاب المؤدب

abdelwahab-meddebفي الفترة الفاصلة ما بين ابن حنبل وبين القرن الثامن عشر، الذي شهد قيام الدعوة السعودية على يد ابن عبد الوهاب يجدر بنا الإطلاع على ما يمثله ابن تيمية (المتوفى عام 1328) من حلقة وسطى. إبن تيمية عالم دين سوري من أتباع إبن حنبل الراديكاليين، عاش فترة عصيبة مر بها الإسلام (لا يظهر هذا النوع من الراديكالية إلا عندما يتعرض الكيان لخطر كبير).

والمقصود بالفترة العصيبة الظروف المتمثلة بالغزو المغولي ونهب بغداد وإسقاط الخلافة في وقت كان الخطر الصليبي ما زال ماثلا في الأذهان. تلك الحالة ولدت إحساسا بدنو قيام الساعة، وهو وضع شعر معه المسلمون أن دينهم مهدد حتى في وجوده. وقد صرف إبن تيمية حياته، بما أوتي من ذكاء ودأب نادرين، لرصد أي ثغرة تبرز في صفحة النص الأملس، آخذا على عاتقه صقل هذا النص وتنقيته من مختلف المعاني التي كانت بنظره تزينه.

بذلك طرد ابن تيمية كل ما صادفه من انعكاسات للفلسفة والمؤثرات اليونانية على الخطاب الديني، وشهر بعدد من المذاهب الباطنية معتبرا أنها من البدع بسبب ما توليه من أهمية للتأويل، وأنكر مفهوم وحدة الوجود، نظرية وتطبيقا، التي قال بها الصوفيون ومارسوها بعدما رأى فيهم خطرا أشد من المسيحيين على دين قائم على عقيدة الإله الذي لا شريك له. وإذا كان الله في العقيدة المسيحية صار إنسانا (في معجزة الحلول) فالإنسان مع الصوفيين أصبح مهيأ للحلول الإلهي فيه. فعندما يتجسد اللاهوت في الناسوت يصبح الحلول عند الصوفية عاما فيما كان عند النصارى خاصا بالمسيح. وهذا يتناقض مع فكرة الواحد الأحد. كما حرمب ن تيمية زيارة ضرائح الأولياء وزيارة القبور مدينا كل أشكال الشفاعات ومساويا بينها وبين ما تبقى من العادات الوثنية المكروهة التي تستحق قطع الدابر.

وألف ابن تيمية نفسه كتابا موجزا بمثابة بيان تحول منذ تأليفه، في أوائل القرن الرابع عشر، مرجعا أساسيا أتحف عيون وقلوب كل دعاة تنقية حرفية الرسالة المحمدية من كل شائبة. ويحمل الكتاب عنوان “السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية”. وفي نشره المتكرر في عصرنا الحديث، في طبعات شعبية لا تزيد عن مئة صفحة، دليل على مدى الإنتشار الذي يحظى به هذا الكتاب. وهو يتناول الميثاق الذي يربط الأمير برعيته في ظل الشريعة. وما ينم عنه هذا الكتاب من راديكالية جاء ملبيا لطموحات الأصوليين.

ويولي ابن تيمية في كتابه “السياسة” موضوع الجهاد إهتماما متميزا. فهو يساوي بينه وبين الصلاة، ويبدو أنه يضعه فوق الأركان الشرعية الأربعة الأخرى (الشهادة والصوم والزكاة والحج). ولكي يدلل على الأهمية القصوى للجهاد، يورده في صورة يفترض أنها تمثل الدين الذي عمود قاعدته الخضوع لله وجذعه الصلاة وتاجه الجهاد. وهو بذلك يجعل من محاربة الكفار إحدى وظيفتي ولي الأمر، حيث الأولى تكريس طاقته في خدمة الدين بتأمين انتصار الفضيلة داخل الأمة (من خلال إقامة الحدود) والأخرى خوض الجهاد المقدس خارج دار الإسلام.

هذا التلازم، بين السياسي والديني، قدم على أنه مثالية أو طوباوية تحولت إلى أمر يحث على الجهاد في العقيدة التي سيعيد الأصوليون المعاصرون إحياءها … غير أن مكر التاريخ لا يتوقف. فالتاريخ يفند حكم ابن تيمية بالغائه في السياق نفسه لحكم فاسد ساد الرأي العام. فإذا ما وضعت في سياق التاريخ إسهامات جميع الأطراف، لا أراني مخطئا إذا قلت أن أثمن ما أتى به الإسلام يكمن في عظمة وقوة تجربته الروحانية كما يشهد عليها شعراؤه ومفكروه. وقد تحقق النجاح الإسلامي في الآثار الصوفية التي أنكرها ابن تيمية، أما فشل الإسلام فقد تجسد في السياسي، أي بالضبط حين يحدد عالمنا إمتياز عقيدته الدينية.

 

عن كتاب “أوهام الإسلام السياسي”، عبد الوهاب المؤدب – دار النهار 2002 

عبد الوهاب المؤدب (1946 – 2014) كاتب وشاعر ومنتج برامج بالاذاعة ومقدم البرنامج الاسبوعي ثقافات من الاسلام.”

درس المؤدب -الذي كان مغرما بالأدب الفرنسي- الآداب وتاريخ الفن في جامعة السوربون عام 1967 قبل أن يهتم  بالكتابة والشعر والرواية وله العديد من البحوث والمساهمات في الترجمة.

ومن أشهر مؤلفات المؤدب “أوهام الإسلام السياسي” و”مرض الاسلام” و”رهان الحضارات”.

وتولى المؤدب الذي ولد في تونس عام 1946 منصب مدير دار نشر سندباد في الفترة بين 1974-1987 وساهم في التعريف بالأدب الصوفي وأدباء عرب معاصرين على غرار نجيب محفوظ وصنع الله ابراهيم والطيب صالح وادونيس

 

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail