داعش في المخيم أو غسان كنفاني والعالم الذي ليس لنا

“كان ذلك زمن الاشتباك . أقول هذا لأنك لا تعرف : أن العالم وقتئذ يقف على رأسه ، لا أحد يطالبه بالفضيلة .. سيبدو مضحكاً من يفعل .. أن تعيش كيفما كان وبأية وسيلة هو انتصار مرموق للفضيلة . حسناً . حين يموت المرء تموت الفضيلة أيضاً (الصغير يذهب إلى المخيم – غسان كنفاني)

أنطولوجيا المخيم

Ghassan_Kanafani laghooعن وجع اللجوء والمعمار الإجتماعي والرومانسي للمخيم كتب غسان كنفاني  (عكا 8 ابريل 1936 – بيروت 8 يوليو 1972)؛ الروائي والكاتب الفلسطيني الكبير. في ذكرى ميلاده يبدو الوجع مركبا حيث شخصياته الروائية ترتدي احتمالات جديدة في سياقات جديدة لا أحد يعلم إن كان غسان قد تنبأ بها في يوم من الأيام عبر مشوار عمره القصير، وهو الذي حمل نبوءة الثورة الكبرى على لسان أبو الخيزران: “لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟”.

كتب غسان كنفاني عن المخيم وشخصياته كما لم يكتب أحد من قبل، وكان قادرا بحساسيته الفنية العالية وموهبته الفائقة على ترسيخ المفهوم الوجودي والتركيبي للمخيم في أذهان القراء العرب. في تفصيل وضعية المخيم قام غسان بمحاولة الوصول إلى ما وصفه جورج لوكاش ب ” التصوير الحكائي للكلية الاجتماعية … كقطب مقابل لملحمة العصور القديمة وكنقيض جذري”.

المخيم كميكروكوزم فلسطيني كان قبلة الصحفيين والأدباء الغرب في الستينيات من القرن الماضي. أولئك الذين أتوا كي يشاهدوا ويتاكدوا بشكل تجريبي مدروس من “وجود” الفلسطيني، من “حالته” الإجتماعيه والنفسية، قبل أن يرجعوا إلى بلادهم مع صور أرشيفية جديدة لتوثيق الآخر كحالة شقاء متجددة.

في خضم ذلك، كانت مفردات السرد لدى غسان كنفاني تحمل أبعاد وعي طبقي مع دلالات وطنية عميقة في قصص النزوح، والحياة في المخيم، والبحث عن الرزق. مفاهيم إنسانية بسيطة تدركها الحواس الخمس دون أية رافعات ميثولوجية. هي مفردات تحمل طاقة الغناء لا الإنشاد؛ الجسد وما يسكن فيه وما يرشح عنه، لا الروح وما يتعربش عليها من موتى. يبدو أن “الأنا” كانت واضحة لغسان، أو كان البحث عنها لا يستدعي الذهاب بعيدا في التاريخ والجغرافيا. كان الكاتالوغ سهل القراءة؛ المخيم حالة إنسانية وجودية، أبناء المخيم آدميون لديهم حاجات إنسانية وجودية. الآخر كان واضحا أيضا، وكان سهلا العثور عليه وتفكيكه لأن المهمة واضحة (في ذهنية غسان الكتابية على الأقل) وهي استبدال شيء بشيء ومعنى بمعنى ووجود بوجود.

آلهة المخيم

بالرغم من كون الزمن الثقافي الذي عاصره غسان كنفاني زمنا علمانيا رافضا للتدين بصيغته الوهابية عموما، إلا أن التنظير الرسمي للعلمانية أو الدعوة لمحاربة الأرشيف الديني المتطرف لم يبرزا كسمة جوهرية للخطاب الثقافي العربي في ذلك الوقت (ظهر نقد الفكر الديني في 1969 والثابت والمتحول في 1973)، فقد كان الخطاب الوطني أقوى بمراحل من أي خطاب يسعى لتفكيك الجذور التأسيسية للعقل العربي الممتد أنطولوجيا ومعرفيا في عمق الصحراء.

تتميز مسرحية “الباب” ،التي كتبها غسان كنفاني في ستينيات القرن الماضي، بعلامات مختلفة عن العلامات الفارقة لمجمل عمله الأدبي الوطني، ففيها يطرح غسان رؤية جمالية ومعرفية جادة عن الإرث الصحراوي، عن القبيلة، عن العلاقة الوجودية الشائكة بين الفرد والإله. فالمسرحية تمزج بين الميثولوجيا والوجودية؛ كما فعل سارتر في مسرحيته “الذباب” مع أختلاف السياق المكاني: الصحراء – المدينة الإغريقية؛ تطرح مسرحية “الباب” مسألة حاجة الإنسان للماء والطعام وتنافس البشري مع الإلهي على المعنى، ثم محاولة الإنتقام البشري التي تنتهي بتراجيديا دائمة التجدد.

يقول شداد ابن عاد ملك القبيلة وهو يحاول إقناع أمه بضرورة قتال الإله هبا “لقد نمت الفكرة داخلي كما تنبت شجرة الزيتون … فكرة أن أموت! أن أقاتل هبا وأصواته في الصحراء، وحيدا إلا من سيفي وذراعي، أن أخطو إلى موتي خطوة باسلة وراء خطوة باسلة، أن لا أرتد حتى أزرع في الأرض جنتي أو اقتلع من السماء جنتها أو الموت أو نموت معاً “.

أرم التي بناها شداد ويحبها ويريد القتال من أجلها تشبه المخيم كثيرا (وخصوصا في هذه الأيام التي يبدو فيها كل شيء مشوشا مع دخول الماضي الأصولي الشائك من باب قديم لم يحسب أحد أن وجوده كان ممكنا). هناك صراع على من يملك مفاتيح المعنى. هناك قتال بين الذي يملك الواقع وبين من يملك المجهول. هناك لعبة ذهنية تشبه لعبة الوطن ذاتها: الكلمة ووزنها من تراب وماء. أرم هي نبوءة غسان كنفاني غير المكتملة؛ النبوءة التي تسكن الإنسانية ذاتها وسؤالها عن إحداثياتها في المعنى أو عدمه. أو كما يقول هبا قبل إسدال ستار المسرحية “يجب أن لا تنسى أنك ميت الآن .. حسنا .. يجب أن تقتنع بالحرية التي تعطى عادة للموتى .. حرية الضجر والعبودية، ليس غير …. هذه مملكتي! هذا الباب فقط مملكة صغيرة لكنها منيعة، العرش المجهول هو سر منعتها، والصولجان غير المرئي هو حارسها الأبدي”.

البندقية العروس والبندقية الكابوس 

مع التعقيدات الحياتية الهائلة التي يعيشها فلسطينيو المخيمات، ومع الاجتياح الجغرافي والنفسي للتطرف الديني هذه الأيام، ماذا حصل لخيمة أم سعد؟ هل تزال هي هي؟. ماذا حصل للرجال والبنادق والدلالات المسروقة؟. ولو زرعنا دالية أم سعد بجانب الخيمة هل تبرعم، أم ستسقط في حفرة كالرؤوس التي تسقط هنا وهناك في مخيمات اللجوء وغيرها من الأماكن. لو أراد كاتب ما كتابة قصة قصيرة أو رواية من داخل المخيم عن ماذا سيكتب؟. هل سيكتب عن طفل سرق خمس ليرات من السوق ليشتري طعاما أو جريدة لجده العجوز (الصغير يذهب إلى المخيم) أم عن طفل خطف سلاحا ليشتري الجنة؟.

هل تغير مفهوم المخيم؟، الدلالات؟. من هم أبطال قصص مخيم اليوم؟ : بائع أجهزة كهربائية انتبه إلى وجود إله وأنبياء في طريقه إلى البيت عائدا بلا خبز؟ أم مطرب تحول إلى منشد لأنه اكتشف أن كل ما كان يقوله رجس من عمل الشيطان؟، أم طفل تحول إلى ماكنة وقت (Time Machine) بعد حفظه لكتاب مقدس؟

هل تغير “زمن الإشتباك”؟

هذا هو سؤال أدب المخيم اليوم.

 

أشرف الزغل  

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail