طريق ملتوية إلى بنك الدّم / نعيم الخطيب

olivier-de-sagazan-laghooكان بنك الدّم، أبعد (إليّ) من حبل الوريد، ولكنّه كان أقرب إلي بيتي من مشفى الشّفاء. في إحدى أمسيات الحرب، اتّخذتُ قرارًا ميدانيًّا من ذلك النّوع غير الخاضع للحسابات المنطقيّة الاعتياديّة. قرّرت أن أذهب للتّبرّع بالدّم.

المسافة تزيد عن الكيلو متر قليلًا. طبعًا لم أستقلّ سيارتي، فهذا بروتوكول معقّد في حالة الحرب، ولاعتقادي أنّ التّنقّل على الأقدام أقلّ إثارةً للشّبهة. الكيلو متر، ألف خطوةٍ أو يزيد، يصير زمنًا لا ضوئيًّا، خاصّةً وأنّ الكهرباء كانت مقطوعة. في ليل الحرب فقط لا أحد يلعن شركة الكهرباء: الظّلمة اختباء، والاختباء نعمة. في ليل الحرب، تكتسب خفّة قطّ، وعين قطّ، وقلب قطّ.

في الخارج، المسجد مقابل بيتي سيُقصف بعد ليلتين، لا بأس ـ الجهل نعمةٌ أيضًا! بيت جاري أبي مازن، على اليسار، ربّما تمّ إخلاؤه ـ لا أقصد هنا جاري بالضّرورة. الشّوارع خاليةٌ تمامًا إلّا من صوت (الزّنّانات)، إحداها فوق رأسي تمامًا، أتمنّى أن تقوم بقراءة أفكاري شبه السّلميّة. يمين الطريق، أم يسارها؟ المنتصف ليس خيارًا بأيّ حالٍ من الأحوال! الأمر خاضعٌ للتّقدير الميدانيّ. على اليمين هناك مقرٌ أمنيٌ مهدّد: مركز شرطة الرّمال، مقرٌ بديلٌ عن آخرَ تمّ قصفه في حربٍ سابقة، سأنتقل إلى يسار الشّارع. اقتربتُ قليلًا من مقرّ الخدمات الطبيّة العسكريّة، غالبًا تمّ قصفه سابقًا، ولكنّ هذا لا يجعله مكانًا آمنًا! إلى يمين الشّارع هذه المرّة. سجنٌ مدنيّ، سأعودُ إلى اليسار. مجمّع أنصار الحكوميّ (العسكريّ)، تمّ قصفه قبل أيّام، وسيتمّ قصفه لاحقًا عدّة مرّات ـ التعليمات العسكريّة لأيّ طيّار مستجدّ في طلعته الجويّة الأولى، تشتمل على أمرٍ واحد: إذا نسيت المكان المستهدف، افرغ حمولتك في أنصار ـ سأعودُ إلى اليمين. المركز الثّقافيّ الفرنسيّ، لا داعٍ للقلق لمدّة عشر ثوانٍ على الأقلّ؛ لا يفكّر حتّى الشّيطان نفسه بتفجير مكانٍ كهذا. أقتربُ من مقرّ الأمن الداخليّ، قُصف غالبًا، وربّما سيقصف ثانيةً ـ أشعر بالخسارة الشّديدة؛ كان في هذا المكان قديمًا ملعب كرة المضرب اليتيم في غزّة ـ سألتزمُ اليمين قليلًا. على بعد أمتارٍ قليلة، سأعودُ إلى اليسار، لأجد طريقي الملتوية إلى مقرّ بنك الدّم.

وصلتُ المكان أخيرًا، على الأقلّ لن يذهب خوفي هدرًا، أمّا موضوع الإنجاب، باستطاعتي أن احتفل بتوفير بعض التّكاليف الشّهريّة. كان أمامي شخصٌ واحدٌ جاء لنفس الغرض، وعندما جاء دوري، قام الممرّض بوخزي بطريقة ترتقي لأن تسجّل إصابة حرب، عندها بدأتُ بالتّوحّد مع غايتي الّتي جئت من أجلها. أخبرته أنّ زمرة دمي مطلوبة، وطلب منّي الانتظار قليلًا.

ـ يا أستاز، نسبة دمّك أقلّ من 14، للأسف مش حنقدر نسحب منّك!

ـ عن إيش بتحكي يازلمة؟ الدّنيا رمضان! اسحب على عاتقي، انت عارف أنا كيف وصلت هان؟

ـ ما بقدر يا أستاز، دمّك ضعيف!

ـ يا زلمة منا بقلّك دمّي نشف وأنا جاي في الطّريق!

ـ آسف بقدرش!

ـ خلص يعني! طب هاتلك وِحدِة دم عشان مشوار الرّجعة!

 

نعيم الخطيب

كاتب فلسطيني من غزة

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail