أصولية فاطمة مرنيسي

أشرف الزغل /

لFatima Mirnissi laghooيس من العدل تجاهل قامة فكرية مهمة كفاطمة مرنيسي، التي رحلت عن عالمنا قبل أيام قليلة. في ذات الوقت ليس من العدل تضخيم عملها الفكري ليبدو أنه فاتحة الفكر النسوي التقدمي والسبيل إلى فكر مستنير ومحلق. اهتمام الصحافة الأدبية العربية والسوشيال ميديا برحيل الكاتبة يحيل إلى التفكير اننا فقدنا دوبوفوار بالنسخة العربية. لا شك أن البرهان على صحة ذلك من عدمه موجود في إرث الكاتبة وليس في خيال جمهور ينتظر بطلا ميتا لإشباع حاجة غريزية للبكاء على زمن ضائع .

في مايو 2003 حصلت المرنيسي  على جائزة أمير أستورياس للأدب مناصفة مع سوزان سونتاغ.  المرنيسي وسونتاغ تستحقان الإشادة والتقدير لمساهمة كل منهما في الكتابة عن المرأة ودورها في العالم. غير أن العالم الذي  في إرث المرنيسي يختلف عن العالم الذي في إرث سونتاغ. فإحداهما كتبت في محيطها الخاص، في تراث متأصل في مرجعيات ثابتة، والأخرى كتبت في قضايا فلسفية وجمالية عميقة محاورها المرأة والرجل والعالم بعمقه المعرفي لا الاثني. ثمة مفارقة تكمن فيما تشير إليه المرنيسي في كتابها “ما وراء الحجاب” عندما قارنت بين الغزالي وفرويد، فأشارت أن أحدهما كان مقيدا “بالعقيدة الصحيحة” واحياء التراث في رؤيته للمرأة  والآخر كان يسعى إلى تفسير عالمي للمرأة.  وخلصت إلى القول أن الحضارة الغربية تعاملت مع الجنس بشكل سلبي بينما تعامل معه الإسلام بشكل إيجابي بحيث تكون الحضارة حسب فرويد “حربا ضد الجنس” وحسب الغزالي إشباعا لطاقة جنسية. سر هذه الرؤية والتي تنسج روايتها في عمق الكتاب تكمن في الفقرة الأولى من الفصل الأول لكتاب “ما وراء الحجاب”:

“يختلف التصور المسيحي الذي يعاني الفرد جرائه تمزقا مأساويا بين النقيضين: الخير والشر –  الجسد والروح – الغريزة والعقل اختلافا بينا عن التصور الإسلامي. فنظرية الإسلام حول الغرائز أكثر تطورا وتقترب إلى حد بعيد من المفهوم الفرويدي لليبيدو”

تحيل هذه الفقرة – التي تثير القلق بالنسبة لباحثة ينظر إليها الليبراليون العرب نظرة المجذوب إلى المخلص – إلى ضرورة وضع إرث المرنيسي ضمن سياق زملائها من الكتاب العرب الذين تناولوا ذات الشؤون بالفحص والتدقيق.  في أعمال المرنيسي نقاط تقاطع كثيرة مع كتاب عرب دونوا أفكارهم بخصوص التراث، الحداثة، المرأة، والإسلام ومرجعياته الفكرية. من ضمن تلك التقاطعات، وجهة النظر من التراث الغربي، أهمية  دراسة التراث لفهم الحاضر، وأخيرا المنهج التوفيقي الإصلاحي في التعامل مع الإسلام كمنهج حياتي عام.

نظرة المرنيسي إلى الغرب
في كتابات المرنيسي نزعة  اتهامية للحضارة الغربية بشكل عام ولنظريات علم النفس والاجتماع التي تتناولها بشكل مشتت وسطحي بالرغم من لغة الكاتبة القوية والمحفزة على القراءة. تقوم المرنيسي في معظم كتاباتها باستخدام زاوية نظر تتعامل فيها مع الغرب كوحدة اجتماعية مريضة، سبب مرضها الرئيس تراث مسيحي يتمحور على ثنائيات وجودية قامعة لنظام قيمي روحي تدعو له المرنيسي بقوة، لكنها لا تقوم بتفسيره تفسيرا واضحا أو منظما. ثمة دأب غريب عند المرنيسي على ترسيخ فكرة ثنائية الشرق- الغرب لدى القارئ العربي، فتقول في كتابها “الحريم السياسي”، يعاني المسلمون من “داء الحاضر” كما تعاني الشبيبة الرومانتيكية الأوروبية من “داء العصر”. تستخدم المرنيسي نمطا اتهاميا تقليديا يحاسب فيه المثقف العربي الآخر قبل أن يحاسب نفسه، أو ينظر إلى نفسه بعد أن يتأكد أن غيره غير جميل بما فيه الكفاية. وهذا نمط طالما استخدمه المثقفون والأكاديميون العرب في دفاعهم عن هوياتهم الثقافية.

دراسة التراث لفهم الحاضر
يقوم الكثير من الباحثين العرب في الحداثة والتحديث بالسير سنوات ضوئية لمقاربة شأن من شؤون العصر الذي يعيشون فيه، وهذا يرجع أساسا إلى خلط مريب في رؤوس أولئك الباحثين والباحثات بين دور العقل والنقل، وأهمية النص المقدس في تأويل أو فهم مشاكل تنتمي إلى عصور أخرى ومستويات خطابية أخرى. فالمرنيسي في “ما وراء الحجاب” تأتي ببراهين من القرآن والسنة على دينامكية المجتمع ونظرته إلى الجنس، لكنها تتجاهل (عدا الصفحات الأخيرة من الكتاب) ديناميكيات أخرى لها أثر بالغ على تفاعل المجتمع العربي الإسلامي مع الجنس، منها الإقتصاد، الاستعمار، الجهل، وما يجره الجهل من تقديس لنظم فكرية بائدة . تنقب المرنيسي بقوة في صحيح البخاري و إحياء علوم الدين وطبقات ابن سعد بحثا عن صفحات إرشادية لما تسميه “المسلم الوسط”. ففي كتابها “الحريم السياسي” تعرض سيرة عائشة وموقعها القيادي كما لو  لو أن عائشة حررت المرأة ووضعت دستور الإخاء والمساواة للعصور القادمة.

المنهج التوفيقي الإصلاحي

تقوم أطروحة المرنيسي بالنسبة للتراث على أن هناك إشكالية في التعامل مع الماضي لدى الإنسان العربي.وإن الإشكالية ليست في الماضي إنما في قراءته. فنراها تقتبس الجابري حين يقول “إننا نسقط مشاكلنا على النص السلفي وهذا الإسقاط يحول دون قراءته”. تناقش المرنيسي الحلول لأزمة المرأة التاريخية بمنطق الحل الوسط، الذي يتجنب “التمزق المأساوي” لدى العالم الغربي ويتخلص من “السلطة الذكورية” لدى العالم العربي. تستعيد المرنيسي بشكل غامض عبقرية الماضي وثوريته، تلك التي لا يدركها القارئ العربي لضعف أدوات القراءة الخاصة به من ناحية، ولحرفه للنص الأصلي بسبب مشاكله الحاضرة. ثمة أصولية في تبجيل السيرة النبوية، وثمة نزوع إلى تأصيل مرجعيات في النص الديني كصحيح البخاري. البخاري ذاته يبدو كبطل نهضوي في كتابها “الحريم السياسي”. “العلاقة الغامضة مع القرآن” التي أقرت الكاتبة بأنها استمرت معها منذ طفولتها تكاد تكون موجودة في كامل عملها الفكري. هناك عاطفة تجذب المرنيسي إلى لعبتها الدينية الغنائية الأثيرة منذ كانت جدتها لالا ياسمينا تدندن بطقوس الحج إلى مكة. تلك العاطفة التي فيها شيء من الخوف وشيئ من النوستالجيا هي عنصر خطر في أي عمل  بحثي يعتمد على العقلانية، ومن هنا ينبغي التنبيه لإرث المرنيسي التنويري بعض الشيء والأصولي بعض الشيء.

 

 

 

 

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail