لو كبروا قليلاً / بلقيس الملحم

 

لا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك؟

مولانا جلال الدين الرومي

 

-1-

قبل عشر سنوات تضامنت معها الغابة كلها

صنعوا لها مسجدًا صغيرًا

زرعوا حوله أشجار اللوز بطيئة الثمار

ثم جلبوا لها صغار الأرانب والسناجب والعصافير

كانوا يصلُّون لابنها المفقود كي يعود!

تمر الأيام ثقيلةً

حتى هجرتها الغابة

صارت الأم تنام على العشب الأصفر

ترى في الظلام شقوقًا لامعة

كبياض العظام

وتكتفي بإرسال قبلة في الهواء كل ليلة

هل يخطئها عصفور ويحملها للصغير؟!

 

-2-

صديقتها الجاموسة

الجديدة من بين الذئاب والخنازير البرية

تعرف بأنها خائفةٌ ووحيدة وكثيرًا ما ترتجف

تحرق جلدها لتحفر على ذراعها وشم اسمه

الجاموسة تقودها للدغل

وتجثو هناك طويلاً

تغني فتلمع عيناها

وتنتزع من ضلوعها صوتًا عميقًا

تناولت الجاموسة شفرة ثم شقت طرف لسانها

هي لا تتوقف عن الغناء

ولا تريد لهذا الوقت أن يمضي دون عناق

الجاموسة تندي دمًا ودموعًا

ما يخفف عنها

أنها استطاعت أن تحفر لصديقتها قبراً

وتهيل التراب على جسدها النحيل

لا تتوقف عن الغناء وهي تراقب الأجساد

معلقة على أعواد الانتظار وشفاعة أمراء الحروب

تفكر بالجثث المرمية في ثلاجات الطب العدلي وخرائب البساتين

جثث بلا رؤوس

وأذرع بلا أصابع

من سيأبه بها أكثر من القطط والكلاب الشاردة

 

-3-

باردة

تلك هي مقابر أيوب*

كيف يتدفأ الموتى؟

وعروسان يقفان قبالتها

يعقدان قلبيهما على الفرح

أطفال يأكلون الذرة المشوية على دكتها

وسواح يقرؤون تواريخهم الغابرة

باردة

هل تكفي حرارة قلبي

وهي تمر بأصابعها على الرخام الثلجي؟

احترقت

بكيت

وجثوت بينها ابتلع شفرة الزمن

ما يخيفُني أن يمر أحدهم ولا ينظر لقبري

يكون اسمي ممحيًا

أو لائذًا بين عاشقين ينظران للعدسة ويبتسمان

ما يخيفني أن تكون كآبتي دُعابة

تُلقى بين حوانيت باعة ألعاب الأطفال والعطور

 

-4-

في شتاء فيينا عام 1947

القطار سيتوقف

وستعرض صورة ابنها

أمام أول وجبة من الأسرى المحررين

ست مائة عادوا

إلا هو!

قبل أن يتهشم قلبها وهي تمد صورته

التقط دمعتها شاب يدعى هاس

لكنها يبست بين كفيه

حتى عادت تزهر من جديد على صفحة مجلة هيوت عام 1949

ماذا يعمل هاس

وهو ينشر صوره في صحف عالمية؟

هل ما زال يدعو لمائدته أموات لا يُضمر لهم ضغينة!

 

-5-

جميعنا ذهب إلى جهنم

جميعنا لم يعد من الجنة

لا دخان ينبعث من تنور أمي

صوت الريح يختفي

ارتطام الجثث

تكدسها تحت الركام

بكاء رُضَّع كل ما تبقى

كموسيقى رديئة تنقطع أنفاسها

لو كبروا قليلاً

لكانوا ظلال الأشجار على نهر العاصي

أجراس الكنيسة تركب النهر

تسير من مقبرة قديمة
حتى الغابة
لا أحد ينتظرها

لا أحد سيصلي في دير سيتا

كمدًا يُمحى طريق حقول التوليب

فمنذ ثلاثة أيام والسماء تمطر

وما من نساء تخبز الرغيف

غير اللاتي يتسابقن مع الكلاب تحت نزهة القذائف

 

-6-

لدي ثلاثةٌ أحملهم على ظهري

منذ أن حلمتُ بوطنٍ حر

واحدٌ ذاب بغازات الفلوجة

الآخر اختلط بركام غزة

وصغيرةٌ سحقوا دميتها في الشام

مضيت في حيرتي

وقد فاتني رابعٌ

يركلني ولا ينام

يده اليمنى تمتدُّ لقطف

برتقالة من على السُّور

يده اليمنى معلَّقة هناك

حيث لا يُزهر البرقوق تحت دخان القذائف

فيما تظل يدي تغرسُ الزهورَ

في تراب الفرائـس

 

 

بلقيس الملحم: شاعرة وقاصة من السعودية

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail