أقدامهم / ادريس خالي

نظرت إلى أقدام الذين كنت أتقاسم معهم المكان فوجدتها مستكينة في صنادل مفتوحة من الخلف والأمام. بدا لي الأمر غريبا. وتساءلت كيف وجدتني في نفس المكان مع آدميين يوحدهم المكان والعمر ونوع الصندل ، ويفرقهم ، في الغالب، ثمن الفحوصات الطبية المسجلة في ورقتهم. ولا بأس أن أثير هنا مسألة أننا كنا حوالي ثلاثين نفرا( أجد هذه الكلمة غليظة. “حرشة”. ولا أعرف لم كلما قرأتها تذكرت عبد الله غيث وحسن الجندي في فيلم الرسالة.) لأعد إلى الحاضر وأكتب أننا كنا نناهز الثلاثين رجلا وشيخا. ها أنا أضع نفسي اليوم وغَدا بين الشيوخ والرجال. فقد كبرت ولا خوف علي من الإفصاح عن ذلك. كلنا نكبر ونشيخ. والمهم هو أن لا تشيخ أفكارنا وتترهل. وكان الجالسون منا أقل بالثلثين من الواقفين. فيما كان البهو بالكاد يتسع لهذا العدد. ويمكن القول إن تقاسم امرأتين معنا نفس المكان أمر يستحق الذكر. ففي الغالب كل الأمكنة في البلد قد قسمت إلى قسمين: قسم خاص بالرجال وقسم آخر بالنساء. وأظن أن ضيق البهو هنا هو سبب اختلاطنا ولا شيء غيره.

ودخلت واحدة من المرأتين وهي تمشي متكئة على عكاز. كان عكازا من ألمنيوم. وقلت في نفسي إن الاستعانة بعكاز من خشب ربما أفضل بكثير من الاستعانة بعكاز من ألمنيوم. الخشب يذكرك بالشجرة. والشجرة تذكرك بالريح وبالعصافير. والعصافير تذكرك بالطفولة والوقت المفتوح. ولكن للناس رؤوس ولكل رأس” طناطنه أو طنطناته”. ورؤوس النساء قاعات مرتبة وجميلة. وعكاز من خشب أو من ألمنيوم في يد امرأة نشاز. أمر غريب. النساء لا ينبغي أن يكون لهن عكاكيز. النساء هن العكاكيز التي لولاها لانهار كل بناء. ولذلك ينبغي أن يبقين جميلات وقويات وواقفات كما الأشجار.

العالم يصير أفظع حين تعجز النساء أو يضعفن.

كل واحد منا تسكنه امرأة. وإذا لم تسكنك امرأة فعليك السلام.

وعدا التحية المعروفة عند دخول أحد ما البهو الذي يجمعنا كان الصمت هو المسيطر. الصمت الذي بدا كما لو أنه الخيط الوحيد الرابط بين أولاءك الذين جاءوا لوضع ملفات مرضهم لدى الموظف المكلف بذلك. وتفحصت الوجوه وقلت الحمد لله إنني لم أضع قدمي بعد في صندل مفتوح من الخلف والأمام كما

يفعل الجالسون وبعض الواقفين. وكانت صنادلهم سوداء تماما. وفي الحقيقة فأنا لا أعرف لم اختاروها كذلك. أستطيع القول فقط إنهم يبدون في صنادلهم منهكين كما لو أنهم خرجوا للتو من حرب . ثم تذكرت الصندل الذي تفحصته وأردت شراءه ذات مرة.

أتريد حقا شراء هذا الصندل؟ قال صديقي الشاوني مبتسما.

أظن ذلك، قلت.

هل شخت حتى تفعل؟ أضاف ساخرا.

ولم أشتر الصندل. تفحصته فقط ثم رددته إلى البائع المتجول وآمنت بأن الشيخوخة قد تهجم على المرء من مجرد صندل بلا إبزيم.

كنا ثلاثين آدمياً تقريبا في ذلك البهو الضيق. وكان الحاضرون ينتظرون فقط دون أن يقوموا بأي شيء. ولو قيض للوقت أن يتكلم لقال للحاضرين إنهم أحياء موتى. فجلوسهم صامتين لم يكن يعني في الغالب سوى أنهم لا يعرفون كيف يهتمون بأهم ما لديهم: الوقت. ورأيتهم ينتظرون دورهم هادئين ساكنين صامتين مطأطئي الرؤوس كأن الطير على رؤوسهم. كانوا ينتظرون فقط. وكلما دخل أحد ما نظروا إليه وردوا التحية كما لو أن التحية هي آخر ما بقي لهم في هذه الحياة. ينتظرون ويشغلون أنفسهم بأي شيء: بتقليب الأوراق الطبية التي بين أيديهم، بالتأكد من أنهم قد وضعوا ثمن الفحوصات والأدوية في المكان المناسب، وبأنهم لم ينسوا توقيعهم، بالنظر إلى أظافر أصابع أقدامهم الخشنة، إلى الجدران البيضاء، إلى السقف، وإلى الساعة المثبتة في شاشة هواتفهم القديمة.

ونادى الحارس الشاب على الرقم 45. كان الرقم للمرأة الثانية. المرأة التي لم يكن في يدها عكاز. ولسبب ما كانت تمشي منحنية الظهر. ورفعت بصري الذي ليس من حديد نحوها. كانت المرأة تبدو كما لو أن الحروب التي قادتها ضد الوقت وأصحابه قد شارفت على نهايتها. وهي لا محالة خاسرة. وقلت إن الرقم خمسة وأربعين دال جدا ومناسب لها. والحلفاء، لا يهم أن أحدد هويتهم هنا، سيرفعون راية النصر على قمة رأسها بعد شهر أو تسعة على أكثر تقدير. حتى وعلامات انهزام المرأة كانت بادية على جسدها فهي كانت تدخر في داخلها قوة ما. ولذلك كانت تتقدم ببطء سلحفاة عجوز غير عابئة بالمنتصرين ولا بتاريخ مرورها نحو العدم. كانت تمشي دون أن تدري أنني كنت أتفحصها من أخمص

قدميها حتى قنة رأسها. وحين التقت عينها بعيني ابتسمت لها. كانت ابتسامة تحية وتشجيع. ثم دلفت المكتب فيما ركزت أنا عينيي على الكتاب الذي في يدي.

ووصل الحارس إلى رقمي. كان رقما يعادل سني تماما.

إن الصدف حقا خطيرة، قلت لي.

واستعددت للدخول. الدخول إلى المكتب الذي يوجد بداخله موظف لا أعرف هل يلبس هو أيضا صندلا من دون إبزيم. وواقفا أنتظر أمام المنضدة المكدسة بالأوراق استرقت النظر إلى قدمي كما لو أنني كنت أتأكد من أنهما ما زالتا موضوعتين في صندل مغلق من الخلف والأمام.

تفضل، قال لي الموظف ببرودة تامة.

كنت في عجلة من أمري. لذلك أخذت توصيل التسليم . وأظن أنني قلت له شكرا. قلت ذلك ونظرت مرة أخرى إلى قدمي. كانتا هناك سعيدتين في الصندل. وكان للصندل فتحات في الجانبين. فتحات بدت لي آنذاك كشرفات صغيرة مستعدة لتهوية باطن قدمي . القدمان اللذان حين ألفيا نفسيهما خارج المكتب والبهو تحركتا بفعل الهواء المتسرب إليهما من تلك الفتحات.

ومشيت. مشيت ببطء. ثم بسرعة كما لو أنني كنت أهرب من يد خفية تحاول جري بقوة نحو عالم أولائك الذين يرتدون صنادل من دون إبزيمات.

 

 

Painting: Sandal Maker, Tomb of Rekhmire, Egypt

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail