صديقي سام / باتي سميث

مقالة كتبتها الشاعرة والمغنية الأمريكية باتي سميث في رثاء صديقها الكاتب المسرحي سام شبرد، الذي توفي قبل أيام (27/07/2017) –

 

كان يهاتفني بواسطة هاتف عمومي في وقت متأخر من الليل، من قرية ما في تكساس أو من إستراحة ما على الطريق في بيتسبرغ، أو من صحراء سانتافي حيث تعوي ذئاب في الخلفية. في أغلب الأحيان كان يكلمني خلال ليل بارد وساكن من بيته في كنتاكي، حيث تتنفس النجوم في مشهد جانبي. مكالمة بلا مناسبة في آخر الليل، مذهلة كلوحة زيتية لإيف كلاين، زرقاء لضياع ما أو لهدف ما. كنت أنهض بسرور من نومي، أقوم بتحضير النسكافيه، ونتحدث. نتحدث عن كل شيء: عن الأحجار الكريمة كالزمرد، عن مقابر الحرب العالمية الأولى، عن أطفالنا، أو عن سباق كنتاكي للخيول. كنا نتكلم في أكثر الأحيان عن الكُتَّاب والكتب:عن روائيي أمريكا اللاتينية، عن رودي وورلتزر، ونابوكوف وبرونو شولز.

“غوغول كان أوكرانيا” قال لي في إحدى المرات، دون إشارة للمكان الذي أتت منه فكرته. كنا نحمل فكرة كتلك من اللامكان كشظية، ونجد لها مكانا، وننسج لها قصة ما أو معزوفة ساكسفون، نعلكها على التلفون حتى الفجر. بعث لي، مرة، رسالة من جبال بوليفيا، حيث كان ماتيو جيل يصور فيلم “بلاكثورن”. كان الهواء خفيفا هناك في الأنديز، لكنه إستطاع أن يسافر فيه بواسطة خمسة خيول مختلفة. قال أنه سيحضر لي منديلا ملونا. غنى هناك إلى جانب النار. غنى أغنيات قديمة كتبها رجال كسرهم الحب. كان ينام هناك تحت النجوم والغيوم التي تغطيه وتذهب بعيدا بلا هدف.

كان سام يحب الترحال. كان يرمي بصنارته أو قيثارته على الكرسي الخلفي لسيارته، إلى جانب كلبه، ومدونته وقلمه، وكومة من الكتب . كان يحب أن يرتب أغراضه ويسافر، دون خطة، إلى الغرب. كان يحب الأدوار التي كانت تأخذه إلى أماكن لم يخطط لزيارتها، وكان في نهاية الأمر يهضم غرائبية تلك الأمكنة، ويحملها معه إلى أعماله المستقبلية.

في شتاء 2012، إلتقينا في دبلن، حيث تسلم الدكتوراة الفخرية من كلية ترينتي “Trinity College”. كان على الدوام محرجا من الأوسمة والرتب، لكنه تقبل تلك المنحة التي قدمتها الكلية التي درس فيها من قبل الكاتب المسرحي صمويل بيكيت. كان يحب بيكيت كثيرا. كان يحتفظ بكتابات بخط يد بيكيت مؤطرة على الحائط في مطبخه، بجوار صور أطفاله. في ذلك اليوم شاهدنا الآلة الكاتبة خاصة جون ملنغتون سينج ونظارات جيمس جويس، وفي الليل استمعنا إلى موسيقيين في بار سام المفضل “the Cobblestone” على الجانب المقابل من النهر. في الوقت الذي ترنحنا فيه على الجسر، كان هو يردد مقتطفات من مسرحيات بيكيت.

وعدني سام أنه سيريني تضاريس الجنوب الأمريكي. كنت أسافر دوما لكنني لم أحظ برؤية أمريكا بالشكل المطلوب. لكنه ابتلي بمرض أنهك جسده، ولم يستطع بعدها أن يحزم حقائبه ويسافر. صرت أزوره بعد ذلك. كنا نقرأ ونتحدث، وكنا نعمل أيضا على مسرحيته الأخيرة. حينها كان يستجمع قواه الفكرية ويتحدى كافة المعيقات التي وضعها القدر في طريقه. يده، ووشم الهلال الذي احتل مكانا بين إبهامه وسبابته، إستراحا على المائدة أمامه. الوشم كان تذكارا من أيامنا القديمة. كان وشمي صاعقة برق على ركبتي اليسرى.

كان يقرأ فقرة من مسرحيته يصف فيها الطبيعة في الغرب الأمريكي عندما نظر في وجهي قائلا “آسف على أنني لم أستطع إصطحابك معي إلى هناك”. إبتسمت ساعتها لأنه فعل ذلك. دون أن نتكلم مشينا في الصحراء الأمريكية التي انبسطت كسجادة بألوان متعددة – غبار الزعفران، عناب، أخضر على مد النظر، وفجأة أزرق وحشي.
“رمل أزرق” قلت، بصيغة متعجبة
“كل شيء أزرق” قال. والأغاني التي غنيناها حملت ألوانا خاصة بها.

إحتفظنا بروتين معين: ننهض من النوم، نقوم بالتحضير ليومنا، نشرب القهوة، نأكل القليل، ثم نبدأ العمل: كتابة. ثم إستراحة في الخارج حيث نشاهد الطبيعة أمامنا، متكئين على كراسي خشبية عريضة. لم نكن نتكلم ساعتها، تلك هي الصداقة الحقيقية، غير متوجسين من الصمت، بل كان الصمت جزءا من المحادثة. كنا نعرف بعضنا البعض من مدة طويلة. طرقاتنا لم يحددها شباب طائش. كنا صديقين، بالخير أو الشر، كنا أنفسنا. مرور الوقت أعطانا قوة ما. إزدادت التحديات لكننا أكملنا العمل على المسودة، التي بقيت على الطاولة. كل شيء قيل. عندما هممت بالذهاب، كان سام يقرأ بروست.

مرت أيام طويلة وبطيئة. في كنتاكي كان المساء وافرا باليراعات وأصوات صراصير الليل والضفادع. مشى سام إلى سريره بقامة مستقيمة وبنبل كبير. مشى إلى نوم لم يشهد عليه أحد. الحب فقط كان يتنفس ذات الهواء. سقط المطر مع نفس سام الأخير، النفس الهادئ، تماما كما أحب. أحب سام خصوصيته. أعرف شيئا عن هؤلاء الأشخاص، عليك أن تفسح لهم المساحة ليقوموا بترتيب أشيائهم، حتى النهاية. مع سقوط المطر، االتبس الدمع مع المطر. أبناء سام: جيسي، ووكر، وهانا ودعوه، كذلك الأمر مع أخواته روكسان وساندي.

كنت بعيدة حينها، أقف أمام أسد لوسرن النائم (في سويسرا)، أسد قوي ونبيل وهائل، محفور في الصخر على تلة واطئة. التبس الدمع مع المطر. كنت أعرف أنني سأرى سام في مشهد في حلم، لكنني تخيلت نفسي ساعتها في كنتاكي، مع الحقول الواسعة، والجدول الذي يتسع ليكون نهرا صغيرا. تخيلت كتب سام معلقة على الرفوف، حذاءه إلى جانب الحائط، تحت النافذة، حيث بالإمكان مشاهدة الخيول السارحة. تخيلت نفسي جالسة على مائدة المطبخ، أحاول لمس الوشم الذي على يده.

قبل زمن بعيد، بعث لي سام رسالة طويلة. حدثني فيها عن حلم لم يكن يريد له أن ينتهي. “إنه يحلم بالخيول” قلت للأسد. “من فضلك، جهز له الخيول يا أسد”. “أحضر له زجاجة عصير. إنه بطل. لن يحتاج إلى سرج. لن يحتاج إلى شيء”. بينما كنت أقطع الحدود السويسرية الفرنسية، صعد هلال في السماء السوداء. قلت وداعا لصديقي العزيز، قلت وداعا في عتمة الليل.

 

عن النيويوركر النص الأصلي بعنوان “My Buddy”  – ترجمة : أشرف الزغل
سام شيبرد : كاتب مسرحي وممثل أمريكي. حصل على جائزة البوليتزر في الدراما عام 1979 عن مسرحية “طفل مدفون”.
باتي سميث : شاعرة ومغنية أمريكية حاصلة على جوائز وأوسمة عالمية في الآداب والفنون
Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail