“السيرتان”.. عن نزيف الأمكنة المنسية / محمود حسني

في طبعة جديدة، وبعد عشرين عاما على صدور الطبعة الأولى، أصدرت دار الجمل – بيروت، كتاب “السيرتان”، الذي يتضمن سيرتي الطفولة والصبا للأديب السوري الكردي سليم بركات (1951)، المقيم حاليا بستوكهولم – السويد.

باكرًا وعلى غير المعتاد بين الأدباء، كتب سليم سيرة طفولته “الجندب الحديدي”، مع عنوان فرعي (السيرة الناقصة لطفلٍ لم يرَ إلا أرضًا هاربةً فصاح: هذه فخاخي أيها القطا) (1980)، ثم سيرة صباه “هاته عالياً، هات النفير على آخره” (1982)؛ وكلاهما صدرا أثناء فترة عيشه ببيروت التي امتدت لـ 11 عامًا (1971 – 1982). سيُجمع العملان بعد ذلك في كتاب واحد وهو “السيرتان” ليصدر عن دار الجديد – بيروت (1998)، خلال فترة عيشه بنيقوسيا – قبرص (1882 – 1999)، والتي سينتقل بعدها إلى العيش بالسويد حتى اليوم.

في “السيرتان”، يجعلنا سليم نتلمس ألم أن تكتب سيرتك المُنهكة باكرًا، والصور لا تزال نضرة بعد، مضرجة بالدماء أحيانا كأنه لم يغادرها قط. تتجلّى لنا فداحة ألم ملأ رجلًا منذ طفولته، رجلا سوف يعيش أغلب عمره منفيًّا من قبل القدر بين بلدان عدة. وفي تقديمه للعمل يصرح بجذور المعاناة: “بك، أو من دونك، كل طفولة محنة. كل طفولة ميثاق ممزَّق”.

في سيرة طفولته يُحادثك سليم طوال النص بصيغة “يا صاحبي”. يُوغِل في الاعتراف بكل شيطاناته مِنذ البداية، حين كانوا “صغارًا مثل فراخ الإوز”. إنها الطفولة التي تحول المأساة إلى ملهاة بكل ما جرى فيها. يُحادث سليم الطفل في سليم

“هيهات أيها الطفل أن ترى غير ما رأيت. وما الذي رأيت، قل لي، غير عربات تئن، وينابيع هاربة مِن ضربات الغبار؟”

يخبرنا بعين الطفل التقاطات مِن الجزيرة السورية، حيث “القامشلي”، المدينة، مسقط رأسه، يخبرنا عن تفاصيل الأمكنة في ذلك الشمال الكردي، بتنوعاته من أعراق ونباتات وحيوانات وأحوال. يخبرنا عن القنافذ واليرابيع والسحالي، عن صرير الزيزان وخشخشة الزواحف، وبنات آوى، والخيول والبغال. عن أكراد سوريا وتركيا، وعن الأرض المنبسطة ومَن شكَّل الحدود عليها. عن ديكة أمه التي كانوا يبيعونها سرًا، وتبغ أبيه الذي كان يجرِّبه خِلسة.

“كان ذلك كله في ما مضى مِن وقت غريب، ألقى على رؤوسنا نثارًا مِن طحين أسمر، ومِن حُروف ونحاس وأباطيل حلوة كجذور السوس. كان وقتًا ليس لنا، مثل الأوقات كلها التي تعاقبت على الأرض. بيد أن المكسورين مثلنا لم يكونوا ليأبهوا لانكسار جديد، ولم يكن لأحد أن يأخُذ منهم ما لا يملكونه”.

في سيرة صباه، يكون الصبي في سليم أكثر إدراكًا لفخاخ الأحاديث والطباع. يُحذِّر الصبية من الكبار:

“لا تُصغوا إلى أحدٍ. لا تناموا. ارفعوا الغِطاء في نزقٍ، وانزِلوا عن أسرَّتِكم هاربين مِن الباب. لا تقلقوا حين تصبحون خارجًا، فالظلام لا يُخيف، بل يُخيف النهار. لا تقلقوا، فأنا جاهزٌ لأدلكم على المخبأ، حيث لا عمارات، ولا مدارس، ولا وقت إلا لكم، والمكان مشاع تحوكون فيه الأحابيل للأرواح، وتقهقهون حتى تتشظى الأرض. لست أغويكم. المكان يُغوي لتكونوا لائقين به، فلا تناموا، حين ينام الجميع، واتبعوني”.

 

سليم هنا صبيٌّ يحب الصخب، يعيش على الصخب، يُمجِّد الصخب كله بلا مهادنةٍ، يرى المدرسة مهزلةً، ويرى المعلم المخبر كاريكتوريًا، ويرى الأحزاب جزءًا مِن الملهاة، ويعترف بأن الصبية مشاغلهم قليلة على أيِّ حال. وهناك في “شماله” الكردي، يكون الشمال مصادفات متواصلة. شمال مغاير “للشمال” القبرصي في نيقوسيا المتنافر بطبيعته الحارة ومشهده، عن غابة سكوغوس، مكان عيشه الآن بواحدة من ضواحي ستوكهولم، أقصى “الشمال” الأرضي.

في سيرتيه، يفتح سليم أمامنا فضاءً سحريًا وغرائبيًا معجونًا بالخراب، عن أمكنة مكلّلة بالغبار والنسيان. يخبرنا عن طفولة ممزّقة ومنكوبة، مليئة بالذعر. وبقدر ما كانت هذه الطفولة الخرقاء مدهشة بالنسبة إلى الآخرين، بقدر ما كشفت عن محنة لا توصف مرّ بها الكاتب في سنوات عمره المبكرة جدًا. كأنّ هذه الطفولة القاسية لا تُكتب إلا عبر بلاغة وحشية كالتي أوجدها سليم بركات في وصف المصائر وملهاتها السوداء. إنها أعجوبة نقية وكتابة مجنونة وخطرة مُمتلِئة بالشعر رغم كل ما في تفاصيلها من نزف لأمكنة منسية، وعنف وغضب ونزق وتمرد.

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail