مطبخ زرياب.. تاريخ الطبخ كمزحة جادة / محمود حسني

بعد سبعة عشر عاما من صدور كتاب “مطبخ زرياب” للمفكر السوري فاروق مردم بيك باللغة الفرنسيّة، صدر العمل بالعربية، ترجمة جان ماجد جبور، عن مشروع “كلمة” للترجمة في أبو ظبي.
العمل هو سلسلة مقالات سبق أن نشرها المؤلف بالفرنسية عن دار “أكت سود” – باريس. بدأ الأمر حين قرأ الكاتب عن تاريخ الطعام عند العرب في مقالات الكاتب السوري حبيب الزيّات في مجلة المشرق (البيروتية). وكان الزيّات يُنقّب في المخطوطات عما يُسمّى اليوم “الحضارة المادية” أي ما يخصّ الحياة اليومية، وبالأخص في دمشق، من خلال التعرّف على بعض كتب الطبخ القديمة والمراجع الأدبية عن الخضار والفواكه وما قيل فيها شعراً ونثراً. لكنّ ما حفّزه إلى تعميق معرفته بالموضوع، كما يقول مردم بيك في إحدى الحوارات، هو مقالة لمكسيم رودنسون، نشرت العام 1949، يستعرض فيها كتابا من أواخر القرن الثالث عشر لمؤلف حلبي يُرجّح أنه المؤرخ ابن العديم، ويشير إلى بدايات تأليف كتب تدبير المنزل باللغة العربية في القرن التاسع عشر.

لا نستكشف في العمل طرق لكيفية إعداد المأكولاتٍ، وإنما نتلمّس تاريخ ما تأكل أو ما كان يؤكل، فيعيد الكاتب تقديمه من جديد، مستعينا بأساطير ومروياتٍ تبدأ في تكوين صورة متصلة بالثقافة عن كل طعام يعرضه الكاتب في عمله. فنحن هنا نقرأ عن التاريخ الثقافي للطبيخ، عن حضاراتٍ وشعوبٍ مختلفة وعلى امتداد زمني كبير، منذ ما قبل الميلاد إلى حيث الآن، في الشام، الخليج، المغرب الأقصى، وفي تركيا وإيران واليونان أيضا. نجد فصولًا بعنوان ثمار، فنعرف تاريخ الباذنجان والزعفران والتمر والأرز والتين والتفاح والعنب والبرغل والفستق والفول والمشمش واليقطين والطماطم والحمص، وغيرها من اللحوم والتوابل وعادات الأكل عند الأوروبيين والشوام والخليجيين والمغاربة.

 سمّى المؤلف نفسه زرياب، إعجابا منه بالموسيقي عراقي المولد، والذي علّم أهالي قرطبة إعداد المآكل البغدادية. يُنسب إلى هذا الموسيقيّ تأسيس المدرسة الأندلسية وإضافة الوتر الخامس على العود. إلّا أنّ هذا الشاعر الذي كان يحفظ عن ظهر قلبٍ كلمات عشرة آلاف أغنية وألحانها، اهتم أيضا بالجغرافيا وعلم الفلك.

كما أنه أدخل إلى إسبانيا الهليون، وطوّر أصول المطبخ الراقي وأصلح فنون المائدة. وربّما كانت هذه هي المرّة الأولى التي يتطرّق فيها كاتبٌ إلى ثقافة الطعام العربية بمجملها، في المشرق والمغرب على السواء، وذلك من خلال مراجع علميّة، وشواهد أدبيّة، ونوادر تاريخية، وانطباعات سفر ووصفات مطبخيّة في حواضر حوض البحر المتوسّط طَوال عشرة قرون على الأقلّ.
ليست الوجبات البغدادية فقط هي ما تحضر هنا، فسوف تجد العجّة الإسكندرانية ومرقة المشمش التونسية وسبانخ بالزيتون من الجزائر والأرز بدبس التمر الخليجي وفتّة المكدوس السورية والبطاطا الحلوة بالزعفران المغربية والمقلوبة الفلسطينية ويخنة الباذنجان من الجزائر وحلاوة الرز اللبنانية والمسفوف المغربي ويخنة الفول الأخضر التونسية، واللحم بالزبيب والعسل من الجزائر وغيرها!

ستكتشف، وتملؤك المفاجأة أن العالم يعرف الآن ثمانية آلاف صنف من العنب، وأن أهل حلب يحضّرون الكبّة بستين طريقة مختلفة، وأن من عادات قبائل البامبارا في أفريقيا الغربية أكل حبّة طماطم قبل ممارسة الجنس. ستجد الكاتب يتصدى للدفاع عن الباذنجان ضد ما لحق به من إهانة، وما قيل دوما عن أنه طعام الفقراء. أما قول الرازي إن التّفاح يولّد النسيان، فإن “زرياب” يجد في هذا مديحا، فحسناتُ النسيان أكثر من سيئاته في هذا القرن الرهيب.

يقول مردم بيك، “لم يكن قصدي حين كتبت فصوله إلّا مفاكهة الأصحاب بكلامٍ على الطعام بين الجدّ والهزل، فعسى أن يجد فيه قرّاؤه اليوم، بعد أن شاب وشبت، بقيّة ممّا قصدت إليه”. أظن أن الكثير مما أراد الكاتب قد بقي متشبّثا بالنص حتى اليوم.
وفي أحد الحوارات يرى فاروق مردم بيك أن العرب يستخفون بالطبخ وكونه جانبا من تاريخنا، بعكس أوروبا والولايات المتّحدة، حيث يصدر بانتظام كتب تتناوله من مختلف الزوايا، ومنها دراسات لمؤرّخين مرموقين اختصوا بالتاريخ الاجتماعي. لكنّ “هذا كلّه لا متعة فيه إذا لم يكن المؤرخ نفسه يستمتع بالطبخ والتجريب وتذوّق ما لا يعرفه من مآكل شعوب العالم…” وبالتأكيد “يحبّ بطنه!”

 

*فاروق مردم بك مدير سلسلة Sindbad،عن دار النشر الفرنسية Actes Sud، وهي سلسلة متخصِّصة في نقل الأدب العربي (وحديثًا الفارسي والتركي) إلى اللغة الفرنسية.

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail