الدّين والأسطورة كنظامَين مُستقلّين وَمتقاطعَين ـــ فراس السوّاح (1/3)

هناك حقيقة على غاية من البساطة والوضوح يتوصل إليها كل من يتأمل مسار الحياة الفكرية والروحية للبشر منذ حلول عصر الإنسان العاقل قبل مائة ألف سنة مما نعد الآن، وهي أن تاريخ الإنسان الفكري والروحي هو في المحصلة الأخيرة تاريخ دياناته وأساطيره وسجل إبداعاته الأسطورية والدينية.‏

لقد تلقت الأسطورة أولى ضربات الفلسفة الإغريقية الفتية منذ القرن السادس قبل الميلاد، وخلال قرنين أو ثلاثة تلت، قالت الفلسفة معظم ما أرادت قوله، ولكنها ما لبثت أن تراجعت مندحرة أمام الأسطورة والدين، وغاب الفكر الفلسفي قروناً طويلة قبل أن يبعث مجدداً في أواخر القرن السادس عشر على يد فرانسيس بيكون في بريطانيا ورينيه ديكارت في فرنسا.‏

أما الفكر العلمي، فرغم الأرضية الصلبة التي فرشتها له الفلسفة مع بداياتها وفترة نضجها الأولى، بقي أسير التصورات الدينية والأسطورية إلى أن أينعت ثمار عصر النهضة الأوروبية، وجاء كوبرنيكوس بنظريته الجديدة عن النظام الشمسي التي كانت فاتحة لتحرير العقل الإنساني من شروطه القديمة.‏

ولعل ما قلناه عن الحضارة الإغريقية، ينطبق في خطوطه العامة على حضارتنا الشرقية.‏

فالفلسفة الإسلامية قد عاشت طيلة عمرها القصير على هامش الفكر الديني والفكر الصوفي، وعاشت العلوم على هامش الفلسفة، ومن غير أن تدخل بشكل عضوي فعال في بنية الثقافة العربية الإسلامية، بل لعلها أدت أكبر الخدمات إلى الثقافة الغربية اللاحقة، التي جاءت نهضتها العلمية بمثابة امتداد للعلوم العربية2.‏

وفي الواقع، فإن النصر الذي حققته الفلسفة ومعها الفكر التجريبي خلال الحقبة الأخيرة من تاريخ الإنسان العاقل، قد أنسانا دوماً حقيقة أساسية تتلخص في أن الفلسفة والفكر العلمي التجريبي، قد ولدا من رحم الأسطورة وعاشا في حضنها ردحاً طويلاً قبل أن يشبا على الطوق، وأن الأشكال الثقافية المتنوعة في الحياة البشرية قد انبثقت من عمومية الوعي الميثولوجي والديني. إن إدراك هذه الحقيقة من شأنه أن يخرجنا من دائرة الشوفينية التي أصيب بها الفكر الحديث، فتاه إعجاباً بنفسه أنساه أصله وأجحده ماضيه، ويزودنا بمنظور جديد نرى من خلاله إلى الفكر الإنساني كوحدة متكاملة، لا يمكن فهمها في مرحلتها الأخيرة إلا بإلقاء الضوء الكاشف على مراحلها المتقدمة التي تشكل جزءاً لا يتجزأ منها.‏

وبعبارة أخرى، فإن أي تاريخ لفكرنا الحديث يجب أن يبدأ بتاريخ الدين والأسطورة لأنه لن يتسنى لنا أبداً فهم الحاضر الفكري الغني للإنسان إذا نحن أبقينا على هذا المصدر البدئي في دائرة الظل، أو تابعنا النظر إليه كلغز أو كفوضى لا تخوم لها مرتبطة بطفولة الجنس البشري قبل بلوغه أشده ورشده، بدل أن ننظر إليه كتاريخ حقيقي مؤسس لكل ما يجري في حاضرنا. من هنا جاء الاهتمام الجدي والمتأخر الذي أولته الثقافة الغربية لديانات القدماء وأساطيرهم، ومن هنا أيضاً هذا الاهتمام الناشئ الذي نراه في ثقافتنا الحديثة.‏

وبما أن الأمر يعرف بخلافه، فإن جهد الباحثين قد انصب بالدرجة الأولى على تلمس تخوم الفكر الديني والأسطوري بمعارضته بالفكر المنطقي الفلسفي وبالفكر العلمي التجريبي وهذه عملية تنسجم مع أطر فكرنا التحليلي النقدي الحديث.‏

غير أن ما لم يلق حظه الكامل من البحث حتى الآن، هو التمحيص في ذلك المصدر البدئي نفسه، والتمييز بين عنصريه المكونين وأعني بهما الدين من جهة والأسطورة من جهة أخرى.‏

لقد نظر الباحثون إلى الميراث الثقافي الإنساني لمرحلة ما قبل الفلسفة والعلم باعتباره وحده تجمع الدين والأسطورة في كل غير متمايز، فأرجعوا الدين إلى الأسطورة وهذه إلى ذاك، وكان الاثنين ينتميان إلى نظام واحد ومجال واحد من مجالات الحياة الفكرية والروحية للإنسان. وتبع ذلك، كما يمكن أن نتوقع، نوع من المزج بين المفهومين في أدبياتنا الحديثة سواء في الثقافة الغربية أم العربية الحديثة، حيث تتم الإشارة إلى الدين والأسطورة كمفهومين صادرين عن مرجعية واحدة، أو يعرَّف أحدهما بالآخر وكأنهما من ذات الهوية. ولكننا نرى أن الخطوة الأولى في سبيل توضيح تخوم الفكر السابق للفلسفة والعلم، يجب أن تتجه أولاً نحو إظهار التمايز بين مكونيه الرئيسين وتوضيح كل منهما في مقابل الآخر، لأننا نجد فيهما نظامين مستقلين تمام الاستقلال، ولكنهما متقاطعان في الوقت نفسه ومعتمدان على بعضهما بعضاً. ولعل هذا التقاطع والاعتماد هو الذي أوحى بالتطابق ووحدة الهوية بين الدين والأسطورة في ذهن البحاثة أو عموم الناس على حد سواء.‏

ستكون نقطة بدايتنا في تبيان وترسيخ الفروق بين الدين والأسطورة، وقفة قصيرة أمام كل مفهوم من هذين المفهومين، في محاولة لرسم حدود مرنة للمعنى والتعريف لا تدعي العصمة والإطلاق، بل تبقى منفتحة على الإضافة والتعديل وإعادة النظر، ذلك أن “المفاهيم” بعكس “المسميات” تستعصي دوماً على التعريف الجامع المانع، رغم انتمائهما معاً إلى زمرة “الكلمات”. فنحن عندما نقول شجرة أو صخرة أو نهراً مثلاً، نكون أمام “مسميات” يمكن إدراك معناها ووضع تعريف لها متفق عليه. أما عندما نقول الخير أو الحق أو الدين، فنكون أمام “مفاهيم” لا يمكن التعامل معها بالسهولة نفسها. يضاف إلى ذلك أننا عندما نقف أمام عالم الأسطورة اليوم، في محاولة لفهم أو تحليل، تكون كمنقب الآثار الذي يحفر في المكان لتخطي الزمان الحاضر، نكوصاً نحو الوراء من أجل معرفة ما جرى في ماضيات القرون، اعتماداً على شظيات من الفخار أو كسر من الأحجار. ذلك أن عالم الأسطورة قد مضى إلى غير رجعة، وجل ما نستطيعه هو صياغة تكهنات ونظريات تلتزم مناهج صارمة في البحث والتقصي. ولعل الشيء نفسه ينطبق على دراستنا للدين، فرغم أن الدين أكثر حضوراً في حياتنا الآن من الأسطورة، إلا أن دراسته لا تطرح مشكلات أقل تعقيداً من مشكلات الأسطورة، وذلك بسبب الميل المتأصل في الفكر الإنساني للنظر إلى القديم بمعيار القائم، وفهم الغائب انطلاقاً من المشهود.

من هنا، فإن القاعدة الأهم في منهج مؤرخ الديانات هي النظر إلى الديانات القديمة بمعزل عن الديانات الحاضرة، ومحاولة فهمها من خلال شروطها الخاصة بعيداً عن اسقاطات الخبرة الدينية الفردية للباحث، أو الخبرة الدينية الجمعية للثقافة التي ينتمي إليها.‏

الدين كاستجابة انفعالية:‏
في مجال الدراسات الدينية، هناك تشوش خطير ناجم عن استخدام كلمة واحدة للدلالة
على ثلاثة مفاهيم يتولد واحدها من الآخر دون أن يتطابق معه وهي:‏

1-الدين
2-التدين
3-المؤسسة الدينية
فالتدين هو المستوى الأول للخبرة الدينية عند الإنسان، وهو حالة غريزية، أو أشبه بها، متمكنة في السيكولوجية البشرية، تنتج عن تجربة داخلية يعانيها الفرد في أعماق نفسه، قوامها مواجهة فريدة مع قوة عليا منبثة في هذا العالم ولا تنتمي إليه في آن معاً، وهذه التجربة ذات طابع انفعالي غير عقلي، ولا يمكن التعبير عنها بلغة الحياة العادية والتجارب الدنيوية الأخرى. إنها شعور بالروع أمام سر آسر، وحضور كلي للقدسي المختلف جذرياً والمتصل بنا كل الاتصال3. ولا بد لنقل هذا الشعور، باللغة التي نعرفها، من استخدام المجاز والتعابير الاصطلاحية التي تتوسل بلغة الرمز من أجل التعبير عما لا يمكن التعبير عنه بصورة بسيطة مباشرة. فالتدين والحالة هذه، هو خبرة فردية بحتة لا تأخذ شكلها الجمعي إلا من خلال الدين الذي يقدم الإطار المجتمعي الذي تلتقي ضمنه الخبرات الدينية الفردية.‏
ويبدأ الدين بالظهور كنظام روحي للجماعة عندما يأخذ الأفراد بنقل خبراتهم المنعزلة إلى بعضهم بعضاً في محاولة لتحقيق المشاركة والتعبير عن التجارب الخاصة من خلال تجربة عامة، وذلك باستعمال مجازات من واقع اللغة المشتركة، وخلق رموز تستقطب الانفعالات المتفرقة في حالة انفعالية مشتركة. هنا تتوضح صور الآلهة وترسم لها أشكالها وتحدد وظائفها وسلطاتها، كما يظهر الطقس، وهو أول وأقوى تعبير جمعي عن الخبرة الدينية التي انتقلت إلى مستواها المشترك. فمن خلال القرابين الطقسية والرقص والحركات الدرامية وما إليها، يحاول الفرد دمج استجاباته الانفعالية الخاصة في استجابة ذات طابع عام، تعطي للجماعة موقفها الخاص والمتميز من القدسي الذي تستشعر حضوره الكلي في النفس والطبيعة، ومع الطقس تأتي الأسطورة كأبلغ مجاز من مجازات التعبير عن الخبرة الدينية الجمعية، ويرتبط نضج الأسطورة وتطورها، بدرجة نضج وتطور اللغة ضمن ثقافة ما. فمن خلال الأسطورة، تقوم الجماعة بصياغة مشتركة لتصوراتها الدينية على الصعيد المعتقدي. إلا أن هذه التصورات المعبر عنها في صيغة حكايات مقدسة، لا تعيش حياتها الخاصة في عالم ذهني مجرد، بل تبقى لصيقة بالطقس الذي يبث فيها روحاً متقدة، ويجعلها على الدوام حاضراً دائماً في حياة الجماعة. عند هذا المستوى الثاني للحياة الدينية، يعيش الإنسان خبرته الروحية مع الجماعة دون مؤسسة رسمية تشرف وتوجه وتجعل من نفسها سلطة مرجعية. وهنا قد يقوم أفراد متميزون بقيادة الطقوس الدينية والتوسط بين العالم الدنيوي والعوالم القدسية، مما هو مألوف حتى اليوم لدى الجماعات الشامانية، ولكن هؤلاء لا يتخذون صفة الكهان المرسومين الذين يتمتعون بسلطات واسعة ومطلقة على الحياة الدينية للجماعة. وهنا قد نجد أيضاً أماكن مقدسة بعينها كغابة ما أو بحيرة، أو أشياء مقدسة كشجرة ما أو صخرة ولكن دور العبادة المكرسة لم توجد بعد ولم تأخذ طابعها الذي نعرفه في المراحل اللاحقة. وتؤكد نتائج التنقيب الأثري في مواقع العصر الحجري الحديث (النيوليتي) ما أشرنا إليه في هذا المجال، ففي هذه المواقع التي شهدت الحركات الأولى للاستقرار في الأرض، والتجمع في وحدات قروية صغيرة تعتمد على الزراعة وإنتاج الغذاء، لم يفلح المنقبون في العثور على بنى معمارية خاصة استخدمها إنسان ذلك العصر لأغراض العبادة، رغم عثورهم على الكثير من اللقى الأثرية ذات العلاقة بالمعتقد الديني، كالدمى العشتارية التي تمثل الأم الكبرى ورؤوس الثيران المقدسة وما إلى ذلك، وعثورهم على آثار طقوس مرتبطة بالمعتقدات الدينية كعظام حيوانات الأضاحي، وعظام بشرية مدفونة بطريقة ذات دلالات طقسية معينة وما إلى ذلك. كما أن الدراسة المدققة لعادات الدفن والأشياء المدفونة مع الميت، كالسلاح والأدوات الشخصية وأدوات الزينة لم تثبت وجود شخصيات ذات طابع اجتماعي متميز كالملوك والقادة ورجال الدين.‏
تبدأ المؤسسة الدينية بالظهور تدريجياً في المرحلة الانتقالية بين المجتمعات القروية والمجتمعات المدينية الأولى، وتظهر التنقيبات الأثرية في مواقع نهايات العصر الحجري الحديث هذا التوجه الواضح. ففي القرى الزراعية النيوليتية التي تحولت إلى أشباه مدن، مثل شتال حيوك في جنوب الأناضول، نلاحظ البدايات الأولى لظهور المعابد التي ابتدأت على هيئة مقامات صغيرة اعتبرت بيوتاً للأم الكبرى وابنها الثور الإلهي. وفي جنوب بلاد الرافدين خلال عصر العبيد، الذي شهد النقلة الحاسمة نحو حضارة المدينة، نلاحظ كيف تطور بيت العبادة من مقام متواضع للإله، لا يكاد يتميز عن بيوت الناس العاديين، إلى معبد مركزي كبير يرتفع سامقاً قرب القصر الملكي. وفي ذلك المقام المتواضع المبني بالطين والمسقوف بعيدان القصب، كان يوضع تمثال صغير للإله أو شارة مقدسة ترمز إليه كجذع شجرة أو حزمة من أعواد القصب، وإليه تلجأ الجماعة لاستطلاع مشيئة الإله والتماس عونه. ولكن مع بداية تشكل المدن، تحول المقام الصغير إلى معبد كبير فيه قدس الأقداس، ويحيط به عدد من الأبنية الواسعة الملحقة، فيها حجرات للكهان وحجرات للدرس ومكاتب إدارية ومطابخ ومشاغل وما إليها. وامتلأ هذا المعبد برجال الدين المتفرغين لخدمة الآلهة وإدارة الشؤون الدينية للشعب. ويكفي أن نعرف أن عدد الكهنة العاملين في أحد المعابد السورية حوالي عام (2600) ق. م بمدينة لجش قد بلغ 736 كاهناً4، لندرك مدى سلطة المؤسسة الدينية وسطوتها. أما في مدينة بابل وحدها زمن الملك نبوخذ نصر، فقد بلغ عدد المعابد ما يقارب الثمانية والخمسين معبداً، ولنا أن نتصور هنا الآلاف المؤلفة من رجال الدين القائمين على خدمة هذه المعابد.‏
كان الطقس والأسطورة في بؤرة اهتمام المؤسسة الدينية التي عملت على تنظيمها والخروج بهما من الوضعية العفوية التلقائية إلى مرحلة الضبط والتقنين. وقد ساعدها على ذلك تطور اللغة وظهور الكتابة، فأعيدت صياغة الأساطير الشفوية المتناقلة عبر الأجيال بأسلوب أدبي راق، ووضعت الطقوس في صيغ ثابتة لا يطالها تحريف. وقد أعطتنا التنقيبات الأثرية في مواقع الشرق الأدنى القديم نماذج من الرقم الفخارية التي نقش عليها الكهنة التفاصيل الدقيقة لكيفية إتيان كل طقس من الطقوس، كما توفر لدينا العديد من النصوص الدرامية الطقسية التي تم تثبيتها كتابة منذ الفترات المبكرة لنشوء حضارة المدينة. وكانت هذه النصوص تتلى وتمثل في المناسبات الدينية. وقد لقيت الأساطير عناية خاصة من المؤسسة الدينية تجلت في ثبات شكلها ومضمونها عبر القرون المديدة. وذلك بفضل التقاليد الراسخة في نسخ النصوص والحفاظ عليها من جيل إلى آخر.‏
2-الأسطورة كموقف كلي من العالم:‏
ليست “الأسطورة” من الكلمات الجديدة أو الطارئة على اللغة العربية. ولعل المضامين الجديدة التي استوعبتها هذه الكلمة في ثقافتنا الحديثة لا تبتعد كثيراً عن مضامينها القديمة.‏
وأول ذكر للأسطورة في اللغة العربية نصادفه في الآية الخامسة من سورة الفرقان في المصحف الشريف حيث نقرأ: “وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً”. وكلمة أساطير هنا جاءت من السطر، وهو الخط أو الكتابة، وجمعه أسطار كما هو الحال في سبب وأسباب، وجمع الجمع أساطير. وفي هذه الآية إشارة إلى اتهامات المشركين للنبي باستلهامه قصص الأولين المكتوبة.‏
وهذا الاشتقاق لكلمة أسطورة في لغتنا لا يبتعد كثيراً عن اشتقاقها في اللغات الأوروبية.‏
فكلمة (Myth) الإنكليزية، ومثيلاتها في اللغات اللاتينية، مشتقة من الأصل اليوناني (Muthos) وتعني قصة أو حكاية. وكان الفيلسوف أفلاطون أول من استعمل تعبير (Muthologia)، وعنى به فن رواية القصص، وبشكل خاص تلك القصص التي ندعوها اليوم بالأساطير. ومنه جاء تعبير (Mythology) وتنويعاته في اللغات الأوروبية الحديثة. أما في لغات الشرق القديم، فلا نعثر على مصطلح خاص ميز به أهل تلك الحضارات الحكايات الأسطورية عن غيرها. وتظهر فهارس النقوش الكتابية التي تعوَّد الكتبة السومريون وضعها لتصنيف محتويات مكتباتهم (وقد عثر حتى الآن على اثنين من هذه الفهارس) أن الأرشيف السومري لم يميز النصوص الأسطورية عن غيرها، ولم يدرجها في تسلسل خاص، بل تركها موزعة بين النصوص الأخرى التي تدور حول موضوعات شتى، مثل الحكمة والأمثال والأدعية والوصايا وما إلى ذلك.‏
من هنا يمكن القول إن القدماء لم يضعوا لأنفسهم تمييزاً لغوياً دقيقاً لتلك المجموعة من الأعمال الأدبية التي نصنفها نحن الآن تحت عنوان الميثولوجيا، ولاهم عنوا بتفريقها عن بقية الأجناس الأدبية، رغم إدراكهم تماماً لاختلافها وخصوصيتها. فكيف نستطيع اليوم أن نميز بين النص الأسطوري والنص العادي من أجل وضع الإطار العام لموضوع باحث الميثولوجيا، وما هي المعايير التي يمكن وضعها لإجراء هذا التمييز؟ في الحقيقة ليس هذا التساؤل بجديد في حقل علم الأسطورة، بل لعله الأساس الذي تميز به المناهج المختلفة نفسها، وتشير إلى طريقها الخاص. ولسوف نأخذ هنا، كنقطة انطلاق عدداً من المعايير، التي تحصلت لدينا عبر سنوات طويلة من التفرغ لدراسة الأسطورة، مع ضرورة التنبيه إلى أن صدورها عن موقف موضوعي ودراسة علمية، لا يلغي طابعها الشخصي ولا يجعل منها معايير مطلقة لا تقبل الزيادة أو النقصان أو التعديل.‏

 

عن الموقف الأدبي

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail