نحن لا ننتظر شيئا. نحن نكتب وحسب / حلمي سالم

حاوره رشيد يحياوي / التقيت حلمي سالم الشاعر الراحل عنا وعن القصيدة  في نهاية سنة 2001 بالقاهرة. قبل سفري للقاهرة كان الراحل على رأس من فكرت في لقائهم، لأنه فضلا عن دوره الريادي في تجديد القصيدة المصرية، فإن اشتغاله في مجلة ‘أدب ونقد’ مكنه من متابعة المشهد الشعري والثقافي بمصر والوطن العربي، وبالتالي كان يمثل لي خير من يمكن أن أسترشد بهم في قاهرة ثقافية كبرى.
التقيت الراحل بعد ترتيبات تخلى في ضوئها عن بعض التزاماته في المجلس الأعلى للثقافة، وقبل بفرح تخصيص جزء من وقته لمجالستي كي نتحدث عن الشعر. لكنه كان يخفي أيضا عتابا لي لم يحطني علما به في اتصالاتنا الهاتفية. عاتبني عند جلستنا بلطف ولباقة رجل عارف بأخلاق الحوار. قال مذكرا بدراسة لي حول أجيال الشعر المصري نشرها قبل مدة في مجلة ‘أدب ونقد’ التي يشرف عليها، بأني لم أكن موضوعيا في حقه، وأنه كان علي أن أتصل به على الأقل كي يضعني في الصورة الصحيحة. ثم أضاف مؤكدا أنه رغم اختلافه معي في ما كتبته في تلك الدراسة، فإنه سمح بنشرها، لأنه دأب أن لا يجعل من موقعه في المجلة رقيبا، لا يسمح بمرور سوى بما يرضيه، لأنه، حسب قوله، يِؤمن بالتعدد في الرأي وبدور الإعلام الثقافي في ترسيخ قيم الحوار والاختلاف البناء.
هذا الموقف زاد من قيمة الراحل عندي، بالنظر إلى ما هو معروف عن بعض المشرفين على المنابر الإعلامية من حيث توظيفها لأغراض لا علاقة لها بالنزاهة الفكرية والمواقف المبدئية والمحتوى المستحق للنشر. لقد تقبل الراحل أيضا رأيي في تلك الجلسة وظل ثابتا على ضرورة إغناء باب الحوار بتعميق التواصل بين المبدعين في الأقطار العربية.
وفي حديثنا بدا الراحل متحمسا للدفاع عن جدوى الشعر. إنه ككثير من شعراء مصر ظل يعد الشعر جزءا من كيانه ومبررا لوجوده، ليس الثقافي فحسب بل اليومي أيضا. ليس لأجل إصلاح الكون ولكن للتصالح مع الذات. في معرض حديثي معه قال بأن أقصى ما يريده أن يكون شاعرا، شاعرا فقط. وكان رأيه هذا بداية لحوارنا التالي:

* بما أنك تريد أن تكون شاعرا فقط، فهل ترى الكينونة الشعرية مازالت تعني أشياء كثيرة لك في هذا المكان والآن بالذات؟
* في رأيي الشخصي هناك قيمة ومعنى كبيران لأن أكون شاعرا الآن، أمس وغدا، هنا وهناك. في أي مكان وفي اللامكان. ذلك يرضيني ويمتعني ويجعلني أشعر أني شخص لا بأس به. هذه هي القيمة الكبرى والأولى للشعر عندي. أما أثر ذلك، أو فائدته أو جدواه في بلدي أو في البلاد العربية أو في الكون كله، ففي مستوى تال من الاهتمام. أنا أسعد وأفرح حين أكتب. لأن كتابتي للشعر تصلحني وتصالحني مع نفسي. لقد صار كثير من الزملاء والمبدعين وخاصة في الأجيال الجديدة، ينزعون الهالة عن الشعر وينزعون عنه التميز ولا يرونه ضروريا. لكني مازلت للأسف ‘دقة قديمة’ في هذا الشأن. إذ مازلت أُجِلُّ الشعر وأراه أجلّ الفنون. ولا أحب أن أكون – إذا كان لا بد أن أكون فنانا- روائيا أو مسرحيا أو ممثلا أو موسيقيا أو تشكيليا، بل شاعرا حتى لو كنت شاعرا ضعيفا. إذ لماذا نشك في جدوى الشعر وحده؟ ألا نشك في جدوى الفلسفة اليوم، وفي جدوى الثورة والإيمان والصدق والأمانة، وفي جدوى العمل؟ لقد اضطربت الحياة وطاول اقترابها كل منشط إنساني ماعدا السرقة والكذب والقتل والاغتصاب. نحن طبعا في مجتمع يعادي الشعر، وفي زمن لم يعد فيه الشاعر درة قبيلته. لكن الشعر والفن كله يظل مع ذلك هو الأمل الذي يقلل من قبح الحياة. لقد كنت في بدايتي أهتم بالأثر المجتمعي والتغييري للشعر. لكني الآن أهتم بأثر هذا الشعر – شعري وشعر غيري – علي. أما تغيير المجتمع وإصلاح الكون فأمر مرجأ سيأتيه يوم لا ريب فيه.

* أنت من الشعراء الذين حلقت بهم أحلام السبعينات عاليا، لكن التسعينات وقبلها الثمانينات حولت أحلامكم الشعرية إلى كوابيس، هل لديك هذا الإحساس؟
* لا أعتقد أن أحلامنا تحولت إلى كوابيس. لم يحولها أحد كذلك، لا جيل ولا إحباطات مجتمع ولا تغير ظروف، فالأحلام الحقيقية لا تتحول إلى كوابيس أبدا. وأنا لا أنظر إلى الأمر باعتباره أدراجا أو صناديق جيلية مصفوفة فوق بعضها. ففي الفن تتداخل الأجيال دائما وتتواصل وتتقاطع ويصب بعضها في بعض. ولذلك لم أعد أحب في السنوات الأخيرة مصطلح جيل، وأفضله بمصطلح حركة. لأن الأول يؤطر الشعراء في أقفاص مغلقة أو في خيمة كبيرة زائفة يختلط فيها الحابل بالنابل والسليم بالمعطوب، بينما المصطلح الثاني يعني الاتفاق بين الشعراء في ملامح فنية ورؤى جمالية وفكرية تخترق العمر والجيل، بحيث يمكن أن تشمل شعراء من أجيال مختلفة. الجيل مفهوم أفقي ساكن بينما الحركة مفهوم عمودي.
* أسألك مع ذلك عن الأحلام القديمة، هل فعلا تحققت على حد ما يوحي به كلامك؟
* أزعم أن بعض أحلامنا تحقق، وبعضها لم يتحقق لأنه قيد التحقق، إذ مازلنا نعمل ولم نمت أو نعتزل. فالأحلام لا تتحقق كلها، وربما لا تتحقق أبدا. وما لم يتحقق لم يكن بسبب جيل التسعينات أو غيره، ولكنه راجع لسبب بسيط، هو أن الحلم دائما أكبر من تحققه. أما جيل التسعينات فلم يمثل بالنسبة إلينا كابوسا، بل امتدادا لنا.
* هذا الامتداد الذي أشرت إليه قد يتجلى في علاقاتك الشخصية بالشعراء الجدد، إذ من المعروف عنك أنك قريب من الأجيال الجديدة، وهناك من يعتبر هذا تقربا منهم لا قربا.
* أقول في البداية بأن هذا ليس عيبا بل فضيلة. أما الحقيقة فهي أن الأمر معكوس، لأني أظن أن جزءا كبيرا من عمل التسعينات تقرب من عملي. أعني أنه استكمال أو مضاهاة أو امتداد أو ترسم لبعض لا كل ما وجد في شعري من خيوط مبكرة. ومن يراجع إنتاجي المبكر يجد إرهاصات عديدة من ملامح التسعينات، ولعلي أذكر بديوان ‘دهاليزي والصيف ذو الوطء’، المكتوب سنة 1977، وببعض قصائد ‘الأبيض المتوسط’ و’سيرة بيروت’، فضلا عن إنتاجي منذ منتصف الثمانينات. وعلى أية حال، من الطبيعي أن تتقارب التجارب المتقاربة أصلا، فلا فضل في ذلك لأحد على أحد. ومن الطبيعي أيضا أن تتواصل الخيوط المتشابهة. كما أنني وبصرف النظر عن التوافق والاختلاف، ممن يؤمنون بأن الشعر عديد وكثير ومتنوع وليس له باب واحد. ولذلك فإني لم أعتبر أبدا أن شعراء التسعينات خصومي، أو أن شعرهم خصم لي. إني أحبهم ويحبونني، وهذا من فضل الله.
* تحدثت بصيغة الجمع حين أكدت أنكم مازلتم تعملون ولم تموتوا أو تعتزلوا، هل هذا ينطبق عليك وحدك أم على زملائك القدماء في الشعر أيضا، إذ أن عددا من هؤلاء يبدو أنه وإن لم يعتزل كتابة الشعر، فقد اعتزل التجديد؟
** ينطبق طبعا حتى على بعض زملائي. فعدد منهم مازال يضيف ويجدد. وكنت أقصد بالعمل والاستمرار الإضافة النوعية لا مجرد الاستمرار الكمي والإضافة الكمية. فنحن نعلم أن كل جيل أو حركة يصفي كثرته في عدد محدود من المميزين الذين قد لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة. وهذا حدث مع كل جيل ويحدث معنا. هذه المجموعة القليلة من أبناء جيلي هي التي أظن أنها ما تزال تواصل العمل بإضافات نوعية. ودعني بعد هذا أتحفظ على كلمة القدماء في سؤالك. لأن جيل الستينات في القصة العربية والمصرية مثلا مازال بعضه ينتج إنتاجا مميزا متوهجا ولم يصبح في ذمة التاريخ بعد، فما بالك وبعضنا صاح ومستيقظ. هذا لا يمنع من أن كثيرا من أبناء جيلي قد ظلوا في ‘محلك سر’، أي يراوحون في مكانهم بلا تقدم، أو تقدموا ببطء شديد أو تكلسوا. لكن المقياس في نظري ليس الكثرة بل العدد المحدود من المميزين الذي يفرزه كل جيل.
* انتقالك لقصيدة النثر، هل يمثل الأفق الأكثر رحابة عندك؟
** بداية، ليست قصيدة النثر في ذاتها أفضل من القصيدة السابقة لها لمجرد كونها نثرا. فلا فضل لنثري على تفعيلي إلا بالتقوى المقصود بها هنا الشعر الحق. وهذا من حيث المبدأ لأن الاعتقاد بأن نثرية القصيدة في ذاتها تعطيها الشرعية اعتقاد متطرف مماثل لتطرف الاعتقاد الذي كان يرى أن مجرد الوزن يعطي للقصيدة شرعيتها، وعلى أية حال أنا لم أنتقل إلى قصيدة النثر لأني بدأتها منذ عام 1974 في قصيدة ‘منديل مريم’ في أول دواويني ‘حبيبتي مزروعة في دماء الأرض’.
* هل كانت تلك قصيدة نثر بالفعل أم قصيدة سبعينية بلا تفعيلة؟
* ما معنى قصيدة سبعينية مكتوبة بلا وزن؟ وهل كان هناك في سنة 1974 ما يمكن تسميته قصيدة سبعينية أصلا؟
* نسميها سبعينية منذ الثمانينيات على الأقل، وعلى كل حال، لا أقصد في مصر تحديدا، في الوطن العربي مثلا.
* على أية حال، لم تكن هذه القصيدة آنذاك مجرد خلو من الوزن، لأنها في زعمي، وفضلا عن اللاوزن، احتوت على بعض الهموم البسيطة لا الكبيرة، كما ابتعدت عن الإيديولوجيا السياسية الساخنة التي كانت في ذلك الوقت تملأ القلب والعين والسماء، كما احتوت على محاولة أولية طبعا لتهشيم الكتلة الشعرية، وابتعدت أخيرا عن مفهوم اللفظ الشعري بذاته، أي وجود لفظ شعري بذاته ولفظ غير شعري بذاته. كل هذا الملامح كانت في صورتها البدائية الأولية لأنني أنا نفسي كنت في بداية تجربتي الشعرية. وهذه البدائية ربما تكون قد تطورت بعد ذلك، مع أنني دائما لا أفضل استبداد شكل بعينه أو انفراده بالشعرية. إذ يقيني هو أن الشعرية يمكن أن تلتمس من مليون باب لا من باب واحد ووحيد. لأن الواحدية نَفْيٌ عانينا منه كثيرا.
* تقصد واحدية الشعراء الذين سبقوكم؟
* نعم أقصد هؤلاء، وأقصد أيضا النقاد السابقين واللاحقين، كما أقصد الذائقة السابقة، أي أقصد كل من رأوا أن للشعر وصفة واحدة لا ينبغي أن نحيد عنها. فهذا الفهم النقدي الشعري يشير إلى مغزى سياسي يكرس الاستبداد ونفي الآخر.
* ربما كان لهذا ما يبرره في وقت سابق، في النصف الأخير من السبعينات مثلا، أما الآن فيبدو لي أن الشعر في خلاء وأنكم وحدكم في مواجهته، فلا أرى وجود سلط نقدية كما في السابق .
* لا شك أن الأوضاع تغيرت قليلا عن ذي قبل حتى صار البعض يتهمنا بأننا غدونا متنا لا هامشا. ولا شك أن هناك قدرا من الرحابة هي ما وصفتَه بالخلاء النقدي. لكن الحقيقة أيضا، هي أن فلولا من تلك الرؤى الواحدية ما تزال سارية، وأن الذائقة العمومية ما تزال متمترسة عند لحظات ومفاهيم سابقة. صحيح أن الفوضى الراهنة والخلاء الراهن يفيداننا ويفيدان الشعر كثيرا، لكنني أحذر من نشوء سلط جديدة وأشفق من أن تكون قصيدة النثر إحدى هذه السلط الجديدة. ولذلك فإن دعوتي إلى التعدد موجهة إلى الجميع، التقليديين وأصحاب قصيدة النثر.
*إلى جانب المجلات التي أسهمت إلى جانب أبناء جيلك في إصدارها، بادرتم أيضا مبكرا للكتابة عن أشعار بعضكم وعن مشهدكم الشعري عموما، ما كتبتموه في هذا الإطار هل تراه نقدا بالمعنى الدقيق، أو كيف تقيم الحركة النقدية التي خلقتموها أنتم الشعراء حول شعركم؟
* لا شك أن أحد دوافع كتابتنا النقدية كان محاولة سد الفراغ النقدي. قمنا بما كان ينبغي أن يقوم به الآخرون من النقاد على الأقل في الفترات الأولى من تجربتنا. حاولنا توصيل رؤانا النقدية والشعرية التي كان من العسير في البداية أن يتفهمها بعض النقاد. وأظن أن من سمات كل دعوة حتى لو كانت إبداعية أن يقدم أصحابها مبادئها وشعاراتها وأسسها الفنية والفكرية والجمالية. لكن بعد ذلك تدخلت أسباب أخرى لتوجهنا إلى النقد، خاصة بعد أن صار بعض النقاد يقومون بعملهم تجاه تجربتنا الشعرية. وعموما نحن لا نعتبر ما نكتبه في النقد نقدا بالمعنى الدقيق، أي بالمعنى المنهجي والأكاديمي. بل هو إيضاحات وتذوقات وإشارات ومفاتيح للعمل. إنه في الأخير كتابة شعراء عن الشعر لا نقاد. ولذا فكتاباتنا النقدية لا تخلو من ذاتية وتبشيرية ووجهات نظر شخصية. أنا على سبيل المثال لا أعتبر نفسي ناقدا ولا أريد أن أكون كذلك. أريد فقط أن أكون شاعرا إن استطعت. ما قدمته من جهد نقدي يدخل في هذا الإطار. لكن بعض زملائي يكتبون بالفعل نقدا منهجيا وأكاديميا وخاصة الدكاترة منهم.
* أصدرت أنت وزملاؤك الشعراء دواوين كثيرة، فخلقتم بذلك حركة شعرية مازالت تستأثر بالنقاش، كما أسهمتم في توسيع الحركة النقدية حول شعركم في الصحف والمجلات، ومع ذلك، أظن أن شعراء الستينات مازالت قصائدهم تحتكر التدريس والتحليل في الجامعات، فإلى أي حد زمني ستنتظرون ليتم الالتـفات الجامعي إليكم؟
* أولا نحن لا ننتظر شيئا. نحن نكتب وحسب، أي نقوم بعملنا فقط. أما الآخرون فينبغي أن يقوموا بعملهم أولا يقوموا به. نحن نكتب ونرضي أنفسنا وأشواقنا الحلمية والجمالية والفكرية بغض النظر عن أي شيء. ومع ذلك فربما يكون ما رصدته أنت عائدا إلى ضعف شعرنا، ليست لدي في ذلك مشكلة، أو عائدا إلى عدم سيولة التواصل الثقافي العربي العربي، أو عائدا إلى موقف من الشعر النثري، أو عائدا إلى تخلف الجامعات العربية. فمنذ متى كانت الجامعات العربية معيارا ودليلا على شيء. تلك الجامعات التي لم تدرس ابن الروندي أو الحلاج، وطردت طه حسين ونصر حامد أبوزيد وقس على ذلك. أريد أن أقول إن تقرير أو عدم تقرير نصوص أدبية في مناهجنا التعليمية العربية الثانوية والجامعية ليس دليلا على شيء. ومع ذلك فأظن أن ملاحظتك غير دقيقة في ما يخص الجامعات المصرية على الأقل. ففي السنوات الأخيرة ثمة دراسات كثيرة للماجستير والدكتوراة عن شعر السبعينات في الجامعات المصرية. كما أن هناك بعض النصوص المقررة في مناهج كليات الآداب. والفكرة الجوهرية هنا، هي أن هناك موقفا سياسيا في الجامعات العربية من الأدب الجديد والمعارض والخادش للاستبداد والعقلية الجمعية وسائر الطابوهات. وربما هناك استثناءات لبعض الشعراء والمبدعين الكبار الذين لسنا منهم

 

عن القدس العربي / حاوره رشيد يحياوي

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail