القارة المفقودة / رولان بارت

هؤلاء الرجال الطيبون، مع أنهم أنثروبولوجيون، لا يعيرون اهتماما للسياق التاريخي أو الاجتماعي. الولوج في الشرق لا يعني لهؤلاء غير نزهة في قارب، في بحر أزرق، في بلد مشمس. الشرق ذاته الذي أصبح اليوم مركزا سياسيا عالميا نراه في الفلم مسطحا، ناعما، وملونا بشكل فظ كبطاقة معايدة قديمة

R Bartheفلم القارة المفقودة (1955) يلقي ضوءا واضحا على الوضعية الميثولوجية للغرائبية. هو فلم وثائقي عن “الشرق” حجته رحلة استكشافية أثنولوجية زائفة، يقودها ثلاثة أو أربعة رحالة طليان ملتحين في منطقة الأرخبيل الماليزي. الفلم يحمل طابعا بهيجا، كل شيء فيه سهل وبريء. مستكشفونا رجال طيبون، يملأون وقتهم بمرح طفولي: يلعبون بدمية على شكل دب صغير “التعويذة رمز لا غنى عنه في الرحلات الاستكشافية، فلا رحلة الى المناطق القطبية بلا فقمة مروضة ولا فلم وثائقي عن المناطق الاستوائية بلا قرود”. ومن أشكال المرح أيضا أن يعبث الرحالة بطبق من السباغيتي على ظهر السفينة. هؤلاء الرجال الطيبون، مع أنهم أنثروبولوجيون، لا يعيرون اهتماما للسياق التاريخي أو الاجتماعي. الولوج في الشرق لا يعني لهؤلاء غير نزهة في قارب، في بحر أزرق، في بلد مشمس. الشرق ذاته الذي أصبح اليوم مركزا سياسيا عالميا نراه في الفلم مسطحا، ناعما، وملونا بشكل فظ كبطاقة معايدة قديمة.

الطريقة المتبعة لامسؤولة بشكل واضح، حيث تلوين العالم طريقة لنفيه بشكل دائم “وهذا يحيلنا الى تساؤل بحثي عن استخدام اللون في السينما”. خال من الجوهر، منساق الى اللون، منزوع الجسد بالاستخدام المغري للصور، يرقد الشرق بانتظار خلع روحه. الانثروبولوجيون خاصتنا بتعويذاتهم ولعبهم ليست لديهم أية مشكلة في افتراض شكل غرائبي للشرق، وبذات الوقت تصوير الشرق كشبيه للغرب، على الأقل بالبعد الروحي. الشرق يمتلك دياناته الخاصة؟. لا بأس، تلك الاختلافات قليلة جدا بالمقارنة مع الوحدة المركزية للمذاهب المثالية. كل طقس اذا يتحول الى وحدة مثالية بمشهدية لاذعة وبرمزية شبه مسيحية. حتى لو كانت البوذية مذهبا غير مسيحي، لم لا؟ فالبوذية لها راهبات أيضا، برؤوس حليقة “بذات الرمزية المسيحية عندما تخلع الراهبات مناديلهن”. والرهبان الذين يركعون ويعترفون لأسيادهم في المعبد. صحيح أن الشكل يوضح هوية الأديان، لكن هنا تأخذ الهوية شكلا كاثوليكيا عاليا بدلا من رفع القناع عنها.

في القرن السابع عشر، في ذات الشرق الذي يحاول الفلم أسقاط النزعات المسيحية عليه، يحاول اليسوعيون توحيد الأشكال الدينية، ليشكلوا فيما بعض طقوس الملبار “مزج الطقوس الكنسية مع بعض الطقوس الهندية القديمة”. ذلك الطراز من الطرح الذي يحاول الاثنولوجيون خاصتنا قوله: “كل الأشياء متشابهة”. الطرح الذي يقول: الشرق والغرب متشابهان، مع فارق بسيط في اللون، النواة واحدة لكليهما، ذلك هو الواجب الأبدي أتجاه الرب، حيث المسيحية تحمل المفتاح العابر للجغرافيا. حتى الفولكلور البدائي يتم تمثيله كتعبير عن “الطبيعة”: الطقوس والحقائق الثقافية لا يتم الحاقهما الى نظام تاريخي معين أو نظام اقتصادي واجتماعي محدد، أنما الى الأشكال المحايدة لنظم كونية “كالفصول والعواصف والموت وغير ذلك”.

على سبيل المثال، اذا كان هناك اهتمام ما بصيادي السمك، فذلك الاهتمام لا علاقة له بتقنيات الصيد، لكن بأبدية مشهد الشمس في الأفق، والجوهر الرومانسي لفكرة الصياد. كل هذا يظهر بمعزل عن طبيعة مهنة الصيد وعلاقتها بالمجتمع، لكن كثيمة أبدية لرجل يلقى المشقة في عرض البحر وامرأة تبكي وتصلي في البيت. ذات الصورة يعرضها الفلم للاجئين، ينزلون عن الجبل في بداية الفلم. التعريف بهم غير ضروري بالطبع، فهم جوهر أبدي للاجئين، ومن الطبيعي للشرق أن ينتج هذه الصورة.

بالإضافة الى كل الذي قيل، تشير الغرائبية هنا الى حجتها الأصلية وهي نفي أي تحديد تاريخي للهوية. ومع أعطاء الوقائع الشرقية صفات ايجابية ضمن معنى “السكان الأصليين”، يتم تجنيب سكانه أية محتوى من المسؤولية. وضع كل ذلك في سياق سطحي يجنب التطرق الى الموضوع بشكل عميق. في مواجهة أي شيء أجنبي يعرف النظام المؤسس سلوكين أثنين: أما تعريفه كمسرح للدمى أو تصويره كانعكاس عن الغرب. في الحالتين، يتم افراغ الشرق من سياقه التاريخي. لذلك، فإن “الصور الجميلة” للقارة المفقودة غير بريئة: لا يمكن أن يتم فقدان القارة التي وجدت نفسها مرة أخرى في باندونغ.

 

القارة المفقودة – ميثولوجيات / رولان بارت

Mythologies 1972 – Roland Barthes
ترجمة : أشرف الزغل

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail