صائدُ الشّفاه / محمد الهجابي

http://www.laghoo.com:2095/cpsess1140602501/3rdparty/roundcube/index.php?_task=mail&_action=get&_mbox=INBOX&_uid=100&_part=3صدر مؤخراً للروائي والقاص المغربي محمد الهجابي عن “مطبعة عكاظ الجديدة بالرباط”، وفي إطار “منشورات اتحاد كتاب المغرب” برسم سنة 2013، مجموعة قصصية جديدة موسومة ب”قليلٌ، أو كثيرٌ، أو لا شيءٌ”، وهو الإصدار القصصي الثالث له بعد “كأنّما غفوتُ” (قصص 2007)، و”على ما يبدو” (قصص 2013). ومعلوم أنّ من بين الأعمال الإبداعية لمحمد الهجابي، بالإضافة إلى ذلك، أربع روايات هي كالآتي: “بوحُ القصبة” (2004)، و”زمانٌ كأهله” (2004)، و”موتُ الفواتِ” (2005)، و”إناثُ الدّارِ” (2011).

نقتطف من المجموعة القصصية الجديدة “قليلٌ، أو كثيرٌ، أو لا شيءٌ”، النص التالي:

 

صائدُ الشّفاهِ

قلتُ له: ما لا أفهمُه هو لمَ هي دائمةُ التبسّم. لكأنّها مبرمجةٌ على الابتسام. ثمّ لمَ تسارع إلى وضع أصابع الكفّ على فمها كلّما ضحكت؟ قالَ لي: كلّ النساء يفعلنَ، وليسَ امرأة الباتيسري لوحدها فقط. اُنظرْ إلى ثغرهنّ ملياً تراهُ بشوشاً. المرأةُ صنوُ التبسّم، يا صاحبي. ثمّ سألتُه: لكن ماذا دهى امرأتي لا تفعلُ؟
انزلقتُ منَ الشّقة إلى المصعد في احتراسٍ كبيرٍ، وخرجتُ. لكنّ الحديث الذي دارَ بيْني وبيْن الشّخصِ في صندوق بالي ظلّ يتلامعُ أمام عينيّ وأنا أخبّ الرصيفَ. في الشارع، صرتُ أحدّق في وجه النساءِ. ليسَ الوجه تحديداً، وإنّما الفمُ. ليسَ الفمَ بالذات، وإنّما الشّفتيْن والأسنان، وتلك الومضة التي تنجمُ عنْ هذا الجماع؛ ومضةٌ نطلقُ عليها، في الغالب الأعمّ، نعت: ابتسامة. يا لروعتها في مبْسم الإناث!
بارحتُ الشارع الفرعيّ هذا، ودلفتُ إلى شارع محمد الخامس. ثمّ انتبذتُ طاولةً في ركن بمقهى تاغزوت، وجهّزتُ عدّتي، وأخرجتُها خلسةً، ثمّ رميتُ بها إلى بحر الرصيف. وخاطبتُني في السرّ، كما لم أخاطبني منْ قبلُ: ما أسعدكَ يا السي محمد! أنتَ هذا النهار ستصطادُ ما لا يحصى منْ ابتسامات النساء العابرات، فيما هنّ يرفلنَ ويتغندرنَ ويفختنَ مزهوات كالفراشات الحائمات. يا لحظّك يا السي محمد بهذا الصّيد المرتقب الثمين!
أعترفُ أنّ القعدةَ لم تكنْ بالمريحة، ولا تخنسُ بي عنِ الفضوليينَ والأشخاصِ الحشريينَ. وكانَ عليّ أنْ أستظلّ بشمسيّةٍ، وأُجنّب بصري المناكبَ والأعناقَ والرؤوسَ حتّى أؤمّنَ طريقي إلى شفاه السوابل منَ الإناثِ. وكان عليّ أنْ أُفكّرَ في تحضيرِ أجوبةٍ مقنعةٍ لمنْ يتعرّفُ عليّ منَ المارّينَ والمرتادينَ. وقطعاً، لنْ أقولَ إنّني أتصيّدُ الابتساماتِ. كلامٌ منْ هذا القبيلِ، حتماً، سيجعلني محلّ هزأةٍ. وفنجانُ قهوة واحد لا يكفي. وربّما قعدةٌ يتيمةٌ بالمقهى لنْ تفي بالقصدِ كذلكَ.
وإذن، لا بدّ منْ قعداتٍ. هلْ أقدرُ؟ ربّما أقدرُ، لو فقط شحذتُ عزيمتي، وهيّأتُ الغمّازتينِ لتومضا آنَ إشراقةِ المباسمِ إذْ تمضي في خلافِ قعْدتي المتوثّبةِ. اللّحظات تلك، إذا ما فلتت أفقدتِ القعدةَ بهاءَها ومشروعيتَها حتّى.
منْ طلّتي ببالكون الشقة، أفهمُ إنْ كان الشارعُ يعجّ بمباسمِ الإناثِ الوارفةِ. أنسلكُ على الفور في لباسي، وأرومُ المقهى متذرّعاً لامرأتي بسخرةٍ في الخارج. أكذبُ، وأبارحُ. أقدّرُ أنّها تحدسُ، لكنّها تتغابى، أو تتغافلُ بالأحكمِ. ساعاتُ المساءِ تكونُ مناسبةً. العشايا تكونُ الأنسبَ. تغادرُ المباسمُ المكاتبَ والمطارحَ، وأزايلُ أنا العمارةَ ألوبُ على عدّتي محاذراً أن يتعرّف عليّ أحدُهم أثناء الطريقِ، فيفسد عليّ خرجَتي هذه. في العادة، أسارعُ الخطوَ حتّى أظفرَ بكرسيّي الحميمِ في الرّكن المقدَّرِ. إذا ما لفيتُه مشغولاً، أجلسُ كيفما اتفق. في الحقيقة، أحاولُ أنْ أعوّض بطاولةٍ مؤقتةٍ، ريثما تشغرُ طاولتي، فأنتقلُ إليها كالسّهم الساردِ. أجلسُ إلى الطاولة المؤقتّةِ، فيما بصري منفلتٌ منّي يبحثُ عنِ المقعدِ الاستراتيجي، الذي يفتحُ على الشارع، منْ غيرِ أنْ يعرضَ أمري للافتضاح؛ كرسيٌّ استراتيجيٌّ، لكنّه مستورٌ. هل هو كرسيٌّ مقاتلٌ حتّى أفكرَ في استخدامِ ألفاظ حربٍ لتحديدِ طبيعة القعدة إيّاها؟ أزعمُ أنّني في كلّ قعدةٍ لي بمقهى تاغزوت، إنّما هي حالة حربٍ. ولأقلْ، بالأولى، إنّها حالةٌ لا تخلو منْ طقوسِ الحربِ. ثمّة طريدةٌ أترصّدُ لها. وثمّة قاعدونَ قدّامي، بهم أتمترسُ، وأنْخنِسُ. وإلى ذلك، ثمّة عينانِ، هما عينايَ، أصوّبُ فتحتَهما بحذقٍ نحو الشّفاهِ المترعةِ، كيْ أنالَ حظّي منْها بالدقّةِ المطلوبةِ والمهارةِ المتوخّاةِ. هو وضعُ حربٍ، إذنْ، ذاكَ الذي أنشدُه كلّما يمّمتُ المقهى. أنا أحدسُ أنّ الكثيرينَ منَ القاعدينَ في لاتيراس لا يحتسونَ مشروباتهم فقطُّ، ولكنّهم في حالٍ أشبه بحالي. يكرعونَ، ويَبصّونَ. شخصياً، لا أنوي التحرّشَ. لا أغمزُ، ولا ألمزُ. لستُ بغمّازٍ، ولستُ بلمّازٍ. صائدُ الابتساماتِ النّاعمةِ، مثلي، ليسَ كذلك. لا يجدرُ به أنْ يأتي صنيعاً دنيئاً.
شخصُ صندوقِ البالِ تكافحتُ معه في الحمّام مراراً، بيدَ أنّه، هذه المرّةِ، نظرَ إليّ طويلاً، ثمّ قالَ لي: لمَ لا تحتفظ بابتسامة امرأتكَ، وهي حليلتُك، على ما هي عليه منْ تقادمٍ وإضواءٍ؟ شطّبتُ بيدي في الهواءِ، ودخلتُ المطبخَ. أينَ امرأتي؟ أغلقتُ الباب خلفي، ومشيتُ. شخصُ الصندوق اهتبلَ مرآة المصعدِ، وسألَ أيضاً: بمَ تفسّر هذا التّصرّف؟ وأنا لا أفسّرُ. ولستُ معنٍ بتفسيرٍ. ليفسّرْ هوَ. أمّا أنا، فحسبي أنْ أمرقَ اللّحظة منْ بابِ العمارة دون أنْ ألفتَ انتباه أحدٍ، ولا حارسها، ثمّ أقذف بخطوي في اتجاه المقهى.
وفي المقهى، آخذُ مكاني وأقرنْصعُ، ثمّ أشرعُ في استنْفاجِ الابْتساماتِ بيْن الشّفاهِ. تمرُّ الوضيئةُ والغنْدورةُ والعيطبولُ والرعبوبةُ والبرمادةُ والسهلبةُ والرتكةُ؛ ضروبٌ منَ الإناثِ تمرّ أمامي. ومنْ موضعي المتميّزِ، يكونُ عليّ أنْ أتحيّنَ اقترابَ الواحدةِ منهنّ. وقبلَ أنْ تعبرَني، وتدْبرَ، أكونُ أنا قدْ هيّأتُ فرضةَ التسديدِ في اتجاهِ الثّغر، وفي لمحةٍ هيَ أسرعُ منْ خطفِ الرّمش، أضغطُ على الزنادِ، فأصيبُ أو أخطئُ. أكثر المرّاتِ أخطئُ. وأكرّرُ المسعى لكمْ مرّةٍ. ولا أكلُّ، ولا أتعبُ. ولكم يحلو لي أنْ أتعيّن الحرثمةَ والترفةَ إذْ تضيقُ الشفتانِ أو تنفرجانِ. ومنْ هذه الطلعاتِ كذلكَ، تجمّع لديّ ما لا يُحصى منَ الابتساماتِ. منْها الغليظةُ، والرقيقةُ الضمياءُ أو الخمّوشةُ، والصغيرةُ الحُوّةُ، والواسعةُ، ومنْها الرقيقةُ المرتفعةُ الصامغين إلى أعلى، ومنْها ذات الصامغينِ المنخفضينِ، ومنْها الغليظة المستديرةُ البعثاءُ، ومنْها الكبيرةُ الممتلئةُ والمتطابقةُ، ومنْها المتقبّضةُ، ومنْها البارزةُ، ومنْها ذات الشفة العليا البارزة، مقابل ذات الشفة السفلى الفارزةُ. ضروبٌ من الابتسامات أحصدُها منْ خرجاتي. ويا لَسعدكَ السي محمد! أخاطبني، ويا لَحظّكَ أيها الرّجلُ!
امرأتي، التي هي حليلَتي شرعاً منذُ عقودٍ ثلاثةٍ منَ السنين، لاحظت في وجهي هذه الغبطة بما أغنمُه في كلّ عَودٍ لي إلى الشقّة، فلم تستخبر، ولم تعلّق بلفظٍ. لربّما استراحت لهذه الخرجاتِ المتواترةِ، حتّى وهي لا تحزر دواعيها الكابسةِ. هي لمْ تفاتحني في الموضوعِ، وأنا لمْ أظهر رغبة في الكلام. لكن يحدثُ لي أنْ أتملّى فمَها الهدَلِ والأضجَمِ والشّتيتِ والقَلَحِ، وأخمّنُ ماذا لو كانَ فماً وَتْلاً وشَنَباً، تبرقُ أسنانُه الظلْمُ (آهٍ، لكم أحلم!)، وأفكّرُ في ماذا لو اقترحتُ عليها فماً وابتسامةً ممّا تحصّلتُه منْ طلعاتي الرابحةِ إلى مقهى تاغزوت. هل تقبل؟ الابتساماتُ اليانعاتُ السّوانحُ هذهِ، لا أكفّ عنْ استدعائها، فيما امرأتي لصقي فوقَ الفراش متحمّصةً تشخرُ. أعرفُ أنّها تتنظّرني في الشقّة منْ طرفٍ خفيٍّ. وتشيّعني أحياناً، وأنا أغادرُ العمارةَ، منَ البالكون بعقلٍ سادرٍ. وربّما حدستُ ما تفكّرُ فيه هيَ بعد هذا العمرِ، كلّ هذا العمرِ.

 

يونيو 2009

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail