محمد أركون‏..‏ ناقدا النزعة السياسية للعقل الديني

د. محمد حسين أبو العلا

FRANCE-EDITION-MAGHREBلعل جوهر أزمتنا الحضارية الصارخة يكمن في طبيعة الوعي المتراجع المتلفع بزخرف الماضي والوعي السائد الذي أنجز وأبدع مؤكدا أهليته للقيادة الكونية المعاصرة‏.‏

ولقد كانت ولاتزال أرقي وأسمي المعالجات- أكاديميا وفكريا- فيما يرتبط بتشريح العقل الإسلامي هي للدكتور محمد أركون بكل تجلياته وملكاته الفائقة في تفتيت الإشكاليات وغربلة القضايا وتحليل المضمونات وتطويع المناهج والأدوات والإستدلال بالمرجعيات الكبري في التأصيل بما يضع المحيط العربي والإسلامي بأسره أمام مآزقه الفعلية وتوعكاته الحائلة نحو إطلالة جديدة علي العالم تخففا من صدمة المستقبل.
والمتأمل في كتاب أركون أو وثيقته الفكرية المسماة’ قضايا في نقد العقل الديني.. كيف نفهم الإسلام اليوم’ يطالع سؤاله المحوري عن كيفية تحرير العقل النقدي من القيود الإبستمولوجية التي فرضها العقل الأصولي علي جميع الممارسات الثقافية والتي حول خلالها ما كان يمكن التفكير فيه إلا مالا يمكن التفكير فيه بحيث صار منظومة معرفية ذات مرجعية مشتركة لما يسمي ب’ اللاهوت السياسي’ المرتبط بالموروث أكثر من إرتباطه بطبيعة العقل الاستطلاعي المستقبلي الطامح للتعرف علي ما منع التفكير فيه, فأبعد عن دائرة الإستكشاف لكي تبقي مشروعية أنواع السلطة والحاكمية مؤثرة في المخيال الديني والسياسي تأثيرا ميثولوجيا تقديسيا مهما كانت الظروف التاريخية والأطر الثقافية والبيئات الإجتماعية والأوضاع الإقتصادية, من ثم تتجسد فكرة التواصل المستحيل بين العقلين!!
هذا التواصل المستحيل العائد إلي تلك الخصومة التاريخية بين الإسلام والغرب قد تمت صياغته في نوع من التضاد اللاهوتي والسياسي والثقافي والنفسي, لذا استهدفت أطروحة أركون تفكيك مناخين من الفكر لتجاوز المنهجية الوصفية السردية التبجيلية إلي المنهجية التفكيكية, وهو ما إنعكس بالفعل علي أبعاد مشكلة القطيعة المعرفية بين نظام الفكر العربي الإسلامي الكلاسيكي المنغلق وبين الحداثة الفكرية التي لم يتم هضمها أو إستيعابها في إطار برامج التعليم العربية أو الإسلامية, وعلي ذلك تتجسد جدلية المفكر فيه واللا مفكر فيه. فالسياجات المشكلة من العقائد الإيمانية والتي أبقيت بعيدا عن كل تفحص نقدي أو علمي بسبب إستخدام إستراتيجية رفض العلم بحجة أنه إختزالي والتأكيد علي الطابع الذي لايختزل للروحانيات ثم رفض الحق في الإختلاف الديني وتغليب الوحي علي كل معرفة بشرية, وعلي ذلك فالإيمان بالمعني التقليدي أو التسليمي غير الإيمان بالمعني الحديث, فإيمان ما قبل النقد التاريخي هو غير إيمان ما بعد النقد التاريخي وهو بالمعني الحديث يعني التعقل قبل الإيمان أو الإيمان بعد التعقل.
لكن الخطيئة الفكرية الكبري في رؤية أركون إنما تتمثل في أن الإسلام قد عايش الحداثة بإعتبارها غزوا فكريا عدوانيا ولم يعشها بصفتها ظاهرة تاريخية محلية وكونية في آن, ظاهرة تطمح إلي تعميم ذاتها ومبادئها علي الشعوب كافة وهو ما ينبغي معه معرفة أسباب توقف الحيوية الفكرية في المناطق التي انتشر فيها الإسلام بين القرنين السابع والثالث عشر الميلاديين؟ ولماذا أقلعت تلك الحيوية الفكرية والعلمية والفلسفية في أوروبا بعد القرن الثالث عشر بالذات؟ ولماذا غاب العالم العربي والإسلامي عن هذه المغامرة التاريخية الكبري للحداثة؟ ثم لماذا تظهر فيه حتي في أواخر القرن العشرين قوي إرتدادية هائلة ترفض الغرب وحداثته بكل قوة وعنف؟ فهذه القوي الإنتكاسية قد أصبحت أحد الأقطاب السياسية في العالم المعاصر, بل أصبحت تدخل في حسابات الإستراتيجيين وباتت هي القطب المضاد للغرب وعولمته وحداثته بعد إنهيار الشيوعية. من هنا فالفكر الإسلامي المعاصر يتجه نحو عملية نزع الصبغة التاريخية عن ماضيه علي مستوي النصوص التأسيسية والشخصيات الكبري للإسلام فهناك تلاعبات أيديولوجية بالقرآن والحديث والسيرة النبوية وسير الصحابة ومفهوم الشريعة والفقه وهي تتضافر لكي تمحو التاريخ الواقعي المحسوس والسياق الإجتماعي والانثروبولوجي, كل ذلك أملا في إنتصار المخيال السياسي والممارسات الجماعية للدين الطقسي الشعائري, وهو ما يبلور الهوة العميقة بين ما يفرضه العقل الدوغمائي وما يفتحه الخطاب القرآني من آفاق متعددة للتفكير والتأويل والمعاني الاحتمالية والإبداعات الرمزية, فالتفاوت التاريخي المريع الكائن بين المجتمعات الإسلامية والغربية في كيفية ممارسة الفكر في السياق الإسلامي وفي ذلك التقدم الهائل أثر المعرفة العلمية وتطبيقاتها التكنولوجية, ولن تتقلص مساحته إلا بوجود فكر جديد قادر علي هضم المكتسبات الإيجابية للحداثة دون التنكر للمكتسبات الإيجابية للتراث لاسيما في فترته الإبداعية وبكل خطوطه وإتجاهاته.
ويميل أركون للتفرقة الحادة بين الإسلام المعاصر والحركات الأصولية التي لم تعد تهتم بتطوير الفعالية الفكرية والتفسيرية كما كان في الإسلام الكلاسيكي.. إسلام الإنتاج والإبداع والإزدهار, وإنما إنشغلت بضرورة الإنخراط السياسي وتغليبه علي الإبداع الفكري للممارسة الدينية وحتي أيضا علي أولوية البعد الروحي, إذ لم تعد تفكر إلا في بلوغ مرامي السلطة ومعطيات القوة, من ثم كانت التناقضية والقطيعة مع الإسلام الكلاسيكي الذي شهد تعددية عقائدية مدهشة بين شتي المذاهب الإسلامية بجانب تميزه بالإنفتاح الفكري والعقلي وإهتمامه بالتجربة الصوفية.
لذا فإن الآلية الفاعلة إنما تكمن في ضرورة إدراك أنه ينبغي أن تتم السيطرة علي أطر وأدوات الفكر الذي تستخدمه القوي العظمي المهيمنة, فهي التي تحدد كل محاور المصير التاريخي للبشرية, لأن المنهجيات الفكرية والتوجهات المعرفية هي التي تتحكم في أنماط تفسير كل تراثات الماضي لاسيما التراث العربي الإسلامي, من ثم لابد من المراقبة العليا لهذه المنهجيات كي لاتنتج معارف خاطئة ووعيا خاطئا كذلك ولكيلا تولد كائنات ذهنية أو مفاهيم تجريدية وتقيم بينها من التضاد الكامل مالا يجعل لها معادل علي أرض الواقع.

 

عن الأهرام

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail