المعنى المختلف بين التبنّي والبنوّة / نصر جميل شعث

الشاعر ، ما إن حلّ به خرابٌ أو حلّ هو في العمران ؛ يَظلّ ” يَحمل فانوسًا ، يبحث عن شيء ما في الخرابة ، أو عن معنى ، أو عن حماية للمعنى وللنافذة من المناخات الزائلة التي لم يَعدّ صالحًا الانجراف معها ( لقد خرّبوا الأوزون ، تقول الجرائد من أجل هذه السيارات اللعينة ) .. ربما كان هو المعنى : أن تترك المحطات خالية وراءك . ربما كان هو المعنى : أن تتعلم كيف تحيا “.

 

هكذا يعبّر الشاعر العراقي سركون بولص ، عن الموقف في قصيدة : ” شارة الانبعاث ” . إذ أمامي ، الآن ، العدد 27 من فصلية مشارف الحيفاوية ، والتي استهلتها المحرّرة بأربعة عشر قصيدة ، كلها ، تُحرّضُ ، بدورها ، على الاستزادة عن المواقف الجمالية والشعرية والمعنوية لدى سركون ؛ الوفيّ والصائن لموهبته بفضحها ، بعفوية مَن سعى لحرّية القصيدة من الذهن ، ومن مظهر النظام . مفسحًا الذرى والتضاريس للصور الحسية الرشيقة ؛ التي يترافق مع وجودها الاعترافُ بقدرة الشاعر الرائعة على الإمساك بوجود الشعر في القصيدة .

فالحالات التي يكتب تحت تأثيرها الشاعر ، وينجح في الإمساك بوجود القصيدة على الورقة ؛ هي حالات شاعر يَتبنّى الجغرافيا في القصائد تبنّيًا يستدعي لقبًا آخر لصيقًا بالشاعر ، وهو : السائح أو الرحالة المقبل على المدن الغربية بنهم من هو هارب من خرابة الشرق والتاريخ ، وبإرادة من هو عائد إلى الشرق كلما خصّه ألم ، ودعاه عيد أحزانه لأن يعكس مرآة حنينه على المعنى . فيما يمكن أن نعتبره ، الآن ، افتراقًا ، ورفضاً للانجراف ، وطردًا لما يلوّث الروحَ العائدة إلى البلاد عودةً مجازية تتبّرأ من أزمنة الآخرين . في الوقت الذي ، تَطرد أزمنة الآخرين صوتَ أيامه وحواشيها . هذا ما يقوله سركون في قصيدة ” صوت أيامي ، أزمنة الآخرين ” :

” هكذا صارت حياتي أشبه بجغرافيا / لا يمكن تفسيرها / بالمواقع والأماكن ، وصوت أيامي / لم يعد قابلاً للتبنّي / من قبل أزمنة الآخرين . ”

فهنا ، نقبض على مسألة ” التبنّي ” واضحةً كونها شريكةً خلاقة لتداعيات العناوين والقصائد ، نلمح برفقتها ” الحاشية ” ؛ وكلها ستنجح في خلق المعنى في حضرة جدليات : المعمورة ، الخرابة . الشرق ، الغرب . المستقبل كوحوش منطلقة ، الماضي كجثة آمنة . إذ تتطوّر ، في التوتر الخلاق ، علاقةُ الموت بفوبيا الحاضر والمستقبل .

قصيدة : ” حديث مع رسام في نيويورك بعد سقوط الأبراج ” تمثّل لحظة الحاضر فـ :

” لكل شيء حدّ ، إذا تجاوزتَه انطلقتْ عاصفةُ الأخطاء . / إنها حاشية على صفحة الحاضر / خطوتها مهيأة لتبقى / حَفْرًا واضحًا في الحجر..”

بينما المستقبل هو ” بوابة الجحيم ” :

” أرى إصبع رودان في كل هذا / أراه واقفًا في بوابة الجحيم ، ويشير إلى / هوةٍ ستنطلق منها وحوش المستقبل ، هناك حيث انهار برجان ، وجنت أمريكا ” ..

حيث هناك إشارة يضعها سركون في حاشيةٍ أسفلَ القصيدة ؛ يَذكر فيها – ويحدد مكان وجود نسخة منها – ( بوابة الجحيم ، تشير إلى منحوتة كبيرة لرودان بعنوان ” بوابة الجحيم ” . توجد نسخة منها في متحف جامعة ستانفورد ، في مدينة بالو ألتو ، بولاية كاليفورنيا ) . وبدورها ، تشير مجلة مشارف إلى أنه ( شاعر عراقي مقيم في سان فرانسيسكو ، كاليفورنيا ، الولايات المتحدة ) .

إذاً ، ما دمنا نرى وجودَ كلمة ” حاشية ” في القصائد ، فيلزمنا الاهتمام بالحواشي التي يكتبها الشاعر والمجلة . فهي حواش تشير في النص – الحاضر – إلى ” المركز ” بتعيين أسماء المدن انتهاءً بأمريكا ! إذ ، سيطرد سركون (هذا) المستقبل من قصيدة ” صوت أيامي أزمنة الآخرين ” ، في طريقه إلى قبول الماضي ، كونه جثةً أمينة :

” لم نعد نحب ما كنا مولهين به .. / ما كان يسرّنا ، كالرماد ، على لساننا يَستقرّ . / لأنه الأمس / نعانق ما كان ولا نقشعرّ عندما / نعرف أنه الماضي ، تلك الجثة الأمينة ”

كذلك ، تظهر مسألة ” التبنّي ” من قبل جغرافيا الآخرين ، عندما نرى إلى ” الحاشية ” التي يضعها الشاعر نهاية قصيدة : ” يوميات من قلعة فيبر سدورف ” ؛ بوصفها شكلاً من أشكال قبول سركون للتبني من قبل جغرافيا الآمنة والأمينة ؛ حيث ( قلعة فيبر سدورف تقع في قرية ألمانية صغيرة قريبة من برلين – أي بعيدة عن حاشية العراق الحاضر – ، وهي مكرّسة للكتّاب والفنانين . وكان قضى فيها الشاعر خمسة أشهر متفرغًا للتأمل والكتابة .) إن جغرافيا الآخرين تهيئ الأمن والحماية من أشياء كثيرة ؛ من أزمنة الأنا ، وحواشيها المثقلة بتداعيات المعمورة ، الخرابة . كذلك هي تهدي الشاعر الطبيعةَ ، بمعزل عن المدن الكبيرة ليكتب . لكنه يكتب ، ليس عن الضجيج ، ولا كما في قصيدة ” سكة ” عن : ” نفس الفراغ الطالع من حضرة آخر الليل في أية مدينة : باريس ، برلين ، لندن ، نيويورك ..” ، وحسب . ولكن ، كتابة تعمد إلى نقل عنف أو ” ملحمة الطبيعة ” ، إلى ” ملحمة التراب ” داخل العراق الذي لا يغادر عزلته فيما هو في مأمنه الجغرافي : القلعة . ولئن كانت الأخيرة هي حماية ، فإنها حافّة شعرية ، وموعد مع القلق . فما يكتبه شاعر ، متأمل ومتوحد في الداخل ، في يوميات القلعة ، عن روح الطبيعة وعنفها الموسيقي في الخارج ؛ سرعان ما يؤخذ مأخذ الاستعارة والكناية على الأنا العراقية التي حلت في الخرابة .
فحين يتحدّث عن ريح شمالية من القطب ، نجده ينقلنا على الكناية إلى بلده ، فالريح :

” ينشطر الطين لها في الأرض المفخورة / تتقشف لها أيدي الفلاحين / تقلق منسوب الماء في الآبار / ومن رهبة هبوبها ، تبقى المحاريث عاطلة / في حافة الحقل ، والرفش سُبات / لو أن أحدًا تجرّأ على الخروج ، فالشتاء غراب / أسحم ، يهب في وجهه كعباءة أرملة ” .

وهو ما سوف يعني خروج الشاعر ، عن الجغرافيا التي تبنّته ، ليلامس ، بالكتابة ، جذر المصيبة التي تطارده عبر أيامه من بلده النائي . أو أن ينسى المضائق وينطلق صوب البحر . أي ، هنا ، يَحدث الافتراق بفضل المعنى المختلف بين التبني والبنوّة . وأيضًا تقوم ” الحديقة ” بوظيفة ” القلعة ” كحماية جمالية ، وحافة شعرية كذلك . إذ يكتب سركون ، في قصيدة ” لحظات في الحديقة ” :

” جنرالات أمريكا / يشحذون آلة الخراب / صامتًا ، وفي نيتي أن أصرخ … / لا هذه اللمحة التي / أقتنصها من ملحمة الطبيعة قسرًا / تقودني إلى سر أطمح في أن أستحليه بكل تلافيفه / المظلمة يومًا ، ولا ذلك المنحنى / في ذاكرتي يسمح لي / أن أرى القناع الهارب إلى الوراء دوما / في أزقة حياتي الماضية . ”

وقريباً من ذلك ، سيرى الشاعر أضواء ” طنجة ” ( من جهة أسبانيا ) دعوةً لشرقيّ ، غير مستقر ، مثقل بالتاريخ والمنفى . الحنين إلى الماضي ، إذاً ، يستهدف ” طنجة ” المجاز والجغرافيا والأزمنة الأمينة والآمنة في ذاكرة التاريخ .
فإذا كانت قلعة فيبر سدورف وحديقة الغرب تمثل الجغرافيا الآمنة ؛ فإنّ ” طنجة ” رمز جغرافي وتاريخي لأمن وسلامة الإنسانية والتقاء الشرق مع الغرب . ولكنها ، الآن ، نقطة تاريخية ، وحافة شعرية ، من حيث هي دعوة للحزن على الهوية الضائعة . وهكذا تكشف الحافة الشعرية عن حالاتٍ رومانسية مدعومة بطاقة نوستالجية في هيآت وتجليات حواسية كأضواء وروائح الأرض التي لها معنى أبعد من الجغرافيا في نفسه . إنه معنى ” البنوّة ” المجّسد أو المجغرف ، على نحو من الوصف والتفصيل الدال على التولّه والعطش ، فيما الابن على الحافة ، وفي نقطة الافتراق بين الأندلس وبغداد .

هذه الأنشودة المقطوعة من الجذر نسمعها في قصيدة ” لا شيء منذ آدم ” ، على نحو جنائزي وسوداوي :

” في غور البستان ، تتلعثم الظلمة / تعلوها سماء مستورة بصوف / من غزل النجوم فوق الشاعر المتعري من هذا / القميص ، ولست يوسف حتى . / تذهب الأغاني / وتجيء المراثي . / لا شيء منذ آدم غير ملحمة التراب ” . كما سنجد الأنشودة للشيء المفقود في قصيدة ” طنجة ” ، في هذا المعادل البصري والموضوعي ، حيث يقول الشاعر : روائح الأرض كلها أمامي / في صينية بائع الأفاويه / وبياع عرق السوس بالزنجبيل / يهز في وجهي سترته المجغرفة بأقداح الماء . / آنئذ أتذكر كم أنا عطشان ! / وأي صيف يستيقظ في كبدي / وأي طيف من الماضي ” .

والاهتمام بتفاصيل جغرافيا المغرب ، إنما يفصح عن قرابة صوفية وتاريخية بين المغرب وبغداد ؛ عندما في قصيدة ” عرافة أزمّور “:

” يلتقي نهر أم الربيع بالبحر / وسط محزمة البلاد . هناك / أبحر مولانا بو شعيب / ليلاً ، في السفينة الآتية بحبيبته عائشة البحرية من بغداد ” .

وعندما في قصيدة ” جبل القديس برونو ” كان يرى الجبل من نافذته الشرقية ( من جهة طنجة ) حوتًا من تراب :

” أراه من نافذتي / الشرقية ، حوتاً من تراب / ودْيانه الوردية عند الغروب تملأها الظلال حتى / يزحف الضباب من البحر ، ويخفيه / في غلائله البيضاء ، / مرّةً ، ذهبت أتسلقه ، وسرت على القمة . / واليوم أسير في البيت / جيئة وذهابًا ، كمن أضاع شيئًا / وكلما بلغت النافذة ، تطلعت شرقاً / وألقيت عليه خلسة ، نظرة . ”

في ” يوميات من قلعة فيبر سدورف ” أنت ، أيضًا ، تنقلك القصيدة لروح الغابة السوداء ، لعوالم شعرية تعود بك إلى ملوك الريف من شعراء ومفكرين ورومانطيقيين أثثوا قصائدهم بروح العالم والأشياء ، فيما كانوا ، في عزلاتهم القروية ، أبناء أصليين . ومع سركون ، هذا الشاعر ابن الشرق ، أصيلاً يظلّ في قرابته الروحية والشعرية مع العالم وشرق المعنى . وهذا هو سر أسرار إمساك القصيدة بوجودها. ألم يقلْ ، في أول قصائده المنشورة في فصلية مشارف ، تحت عنوان كوّة :

” إذا لم تفتح الكوّة / لن تطير إلى غرفتك الحمامة – وأنّ – القصيدة قد تضيع ، إذا لم تجد الخيط الخفيّ / والراوي لن يعرف القصة ” .

 

عن القدس العربي

الشاعر ، ما إن حلّ به خرابٌ أو حلّ هو في العمران ؛ يَظلّ ” يَحمل فانوسًا ، يبحث عن شيء ما في الخرابة ، أو عن معنى ، أو عن حماية للمعنى وللنافذة من المناخات الزائلة التي لم يَعدّ صالحًا الانجراف معها ( لقد خرّبوا الأوزون ، تقول الجرائد من أجل هذه السيارات اللعينة ) .. ربما كان هو المعنى : أن تترك المحطات خالية وراءك . ربما كان هو المعنى : أن تتعلم كيف تحيا “.

هكذا يعبّر الشاعر العراقي سركون بولص ، عن الموقف في قصيدة : ” شارة الانبعاث ” . إذ أمامي ، الآن ، العدد 27 من فصلية مشارف الحيفاوية ، والتي استهلتها المحرّرة بأربعة عشر قصيدة ، كلها ، تُحرّضُ ، بدورها ، على الاستزادة عن المواقف الجمالية والشعرية والمعنوية لدى سركون ؛ الوفيّ والصائن لموهبته بفضحها ، بعفوية مَن سعى لحرّية القصيدة من الذهن ، ومن مظهر النظام . مفسحًا الذرى والتضاريس للصور الحسية الرشيقة ؛ التي يترافق مع وجودها الاعترافُ بقدرة الشاعر الرائعة على الإمساك بوجود الشعر في القصيدة .

فالحالات التي يكتب تحت تأثيرها الشاعر ، وينجح في الإمساك بوجود القصيدة على الورقة ؛ هي حالات شاعر يَتبنّى الجغرافيا في القصائد تبنّيًا يستدعي لقبًا آخر لصيقًا بالشاعر ، وهو : السائح أو الرحالة المقبل على المدن الغربية بنهم من هو هارب من خرابة الشرق والتاريخ ، وبإرادة من هو عائد إلى الشرق كلما خصّه ألم ، ودعاه عيد أحزانه لأن يعكس مرآة حنينه على المعنى . فيما يمكن أن نعتبره ، الآن ، افتراقًا ، ورفضاً للانجراف ، وطردًا لما يلوّث الروحَ العائدة إلى البلاد عودةً مجازية تتبّرأ من أزمنة الآخرين . في الوقت الذي ، تَطرد أزمنة الآخرين صوتَ أيامه وحواشيها . هذا ما يقوله سركون في قصيدة ” صوت أيامي ، أزمنة الآخرين ” :

” هكذا صارت حياتي أشبه بجغرافيا / لا يمكن تفسيرها / بالمواقع والأماكن ، وصوت أيامي / لم يعد قابلاً للتبنّي / من قبل أزمنة الآخرين . ”

فهنا ، نقبض على مسألة ” التبنّي ” واضحةً كونها شريكةً خلاقة لتداعيات العناوين والقصائد ، نلمح برفقتها ” الحاشية ” ؛ وكلها ستنجح في خلق المعنى في حضرة جدليات : المعمورة ، الخرابة . الشرق ، الغرب . المستقبل كوحوش منطلقة ، الماضي كجثة آمنة . إذ تتطوّر ، في التوتر الخلاق ، علاقةُ الموت بفوبيا الحاضر والمستقبل .

قصيدة : ” حديث مع رسام في نيويورك بعد سقوط الأبراج ” تمثّل لحظة الحاضر فـ :

” لكل شيء حدّ ، إذا تجاوزتَه انطلقتْ عاصفةُ الأخطاء . / إنها حاشية على صفحة الحاضر / خطوتها مهيأة لتبقى / حَفْرًا واضحًا في الحجر..”

بينما المستقبل هو ” بوابة الجحيم ” :

” أرى إصبع رودان في كل هذا / أراه واقفًا في بوابة الجحيم ، ويشير إلى / هوةٍ ستنطلق منها وحوش المستقبل ، هناك حيث انهار برجان ، وجنت أمريكا ” ..

حيث هناك إشارة يضعها سركون في حاشيةٍ أسفلَ القصيدة ؛ يَذكر فيها – ويحدد مكان وجود نسخة منها – ( بوابة الجحيم ، تشير إلى منحوتة كبيرة لرودان بعنوان ” بوابة الجحيم ” . توجد نسخة منها في متحف جامعة ستانفورد ، في مدينة بالو ألتو ، بولاية كاليفورنيا ) . وبدورها ، تشير مجلة مشارف إلى أنه ( شاعر عراقي مقيم في سان فرانسيسكو ، كاليفورنيا ، الولايات المتحدة ) .

إذاً ، ما دمنا نرى وجودَ كلمة ” حاشية ” في القصائد ، فيلزمنا الاهتمام بالحواشي التي يكتبها الشاعر والمجلة . فهي حواش تشير في النص – الحاضر – إلى ” المركز ” بتعيين أسماء المدن انتهاءً بأمريكا ! إذ ، سيطرد سركون (هذا) المستقبل من قصيدة ” صوت أيامي أزمنة الآخرين ” ، في طريقه إلى قبول الماضي ، كونه جثةً أمينة :

” لم نعد نحب ما كنا مولهين به .. / ما كان يسرّنا ، كالرماد ، على لساننا يَستقرّ . / لأنه الأمس / نعانق ما كان ولا نقشعرّ عندما / نعرف أنه الماضي ، تلك الجثة الأمينة ”

كذلك ، تظهر مسألة ” التبنّي ” من قبل جغرافيا الآخرين ، عندما نرى إلى ” الحاشية ” التي يضعها الشاعر نهاية قصيدة : ” يوميات من قلعة فيبر سدورف ” ؛ بوصفها شكلاً من أشكال قبول سركون للتبني من قبل جغرافيا الآمنة والأمينة ؛ حيث ( قلعة فيبر سدورف تقع في قرية ألمانية صغيرة قريبة من برلين – أي بعيدة عن حاشية العراق الحاضر – ، وهي مكرّسة للكتّاب والفنانين . وكان قضى فيها الشاعر خمسة أشهر متفرغًا للتأمل والكتابة .) إن جغرافيا الآخرين تهيئ الأمن والحماية من أشياء كثيرة ؛ من أزمنة الأنا ، وحواشيها المثقلة بتداعيات المعمورة ، الخرابة . كذلك هي تهدي الشاعر الطبيعةَ ، بمعزل عن المدن الكبيرة ليكتب . لكنه يكتب ، ليس عن الضجيج ، ولا كما في قصيدة ” سكة ” عن : ” نفس الفراغ الطالع من حضرة آخر الليل في أية مدينة : باريس ، برلين ، لندن ، نيويورك ..” ، وحسب . ولكن ، كتابة تعمد إلى نقل عنف أو ” ملحمة الطبيعة ” ، إلى ” ملحمة التراب ” داخل العراق الذي لا يغادر عزلته فيما هو في مأمنه الجغرافي : القلعة . ولئن كانت الأخيرة هي حماية ، فإنها حافّة شعرية ، وموعد مع القلق . فما يكتبه شاعر ، متأمل ومتوحد في الداخل ، في يوميات القلعة ، عن روح الطبيعة وعنفها الموسيقي في الخارج ؛ سرعان ما يؤخذ مأخذ الاستعارة والكناية على الأنا العراقية التي حلت في الخرابة .
فحين يتحدّث عن ريح شمالية من القطب ، نجده ينقلنا على الكناية إلى بلده ، فالريح :

” ينشطر الطين لها في الأرض المفخورة / تتقشف لها أيدي الفلاحين / تقلق منسوب الماء في الآبار / ومن رهبة هبوبها ، تبقى المحاريث عاطلة / في حافة الحقل ، والرفش سُبات / لو أن أحدًا تجرّأ على الخروج ، فالشتاء غراب / أسحم ، يهب في وجهه كعباءة أرملة ” .

وهو ما سوف يعني خروج الشاعر ، عن الجغرافيا التي تبنّته ، ليلامس ، بالكتابة ، جذر المصيبة التي تطارده عبر أيامه من بلده النائي . أو أن ينسى المضائق وينطلق صوب البحر . أي ، هنا ، يَحدث الافتراق بفضل المعنى المختلف بين التبني والبنوّة . وأيضًا تقوم ” الحديقة ” بوظيفة ” القلعة ” كحماية جمالية ، وحافة شعرية كذلك . إذ يكتب سركون ، في قصيدة ” لحظات في الحديقة ” :

” جنرالات أمريكا / يشحذون آلة الخراب / صامتًا ، وفي نيتي أن أصرخ … / لا هذه اللمحة التي / أقتنصها من ملحمة الطبيعة قسرًا / تقودني إلى سر أطمح في أن أستحليه بكل تلافيفه / المظلمة يومًا ، ولا ذلك المنحنى / في ذاكرتي يسمح لي / أن أرى القناع الهارب إلى الوراء دوما / في أزقة حياتي الماضية . ”

وقريباً من ذلك ، سيرى الشاعر أضواء ” طنجة ” ( من جهة أسبانيا ) دعوةً لشرقيّ ، غير مستقر ، مثقل بالتاريخ والمنفى . الحنين إلى الماضي ، إذاً ، يستهدف ” طنجة ” المجاز والجغرافيا والأزمنة الأمينة والآمنة في ذاكرة التاريخ .
فإذا كانت قلعة فيبر سدورف وحديقة الغرب تمثل الجغرافيا الآمنة ؛ فإنّ ” طنجة ” رمز جغرافي وتاريخي لأمن وسلامة الإنسانية والتقاء الشرق مع الغرب . ولكنها ، الآن ، نقطة تاريخية ، وحافة شعرية ، من حيث هي دعوة للحزن على الهوية الضائعة . وهكذا تكشف الحافة الشعرية عن حالاتٍ رومانسية مدعومة بطاقة نوستالجية في هيآت وتجليات حواسية كأضواء وروائح الأرض التي لها معنى أبعد من الجغرافيا في نفسه . إنه معنى ” البنوّة ” المجّسد أو المجغرف ، على نحو من الوصف والتفصيل الدال على التولّه والعطش ، فيما الابن على الحافة ، وفي نقطة الافتراق بين الأندلس وبغداد .

هذه الأنشودة المقطوعة من الجذر نسمعها في قصيدة ” لا شيء منذ آدم ” ، على نحو جنائزي وسوداوي :

” في غور البستان ، تتلعثم الظلمة / تعلوها سماء مستورة بصوف / من غزل النجوم فوق الشاعر المتعري من هذا / القميص ، ولست يوسف حتى . / تذهب الأغاني / وتجيء المراثي . / لا شيء منذ آدم غير ملحمة التراب ” . كما سنجد الأنشودة للشيء المفقود في قصيدة ” طنجة ” ، في هذا المعادل البصري والموضوعي ، حيث يقول الشاعر : روائح الأرض كلها أمامي / في صينية بائع الأفاويه / وبياع عرق السوس بالزنجبيل / يهز في وجهي سترته المجغرفة بأقداح الماء . / آنئذ أتذكر كم أنا عطشان ! / وأي صيف يستيقظ في كبدي / وأي طيف من الماضي ” .

والاهتمام بتفاصيل جغرافيا المغرب ، إنما يفصح عن قرابة صوفية وتاريخية بين المغرب وبغداد ؛ عندما في قصيدة ” عرافة أزمّور “:

” يلتقي نهر أم الربيع بالبحر / وسط محزمة البلاد . هناك / أبحر مولانا بو شعيب / ليلاً ، في السفينة الآتية بحبيبته عائشة البحرية من بغداد ” .

وعندما في قصيدة ” جبل القديس برونو ” كان يرى الجبل من نافذته الشرقية ( من جهة طنجة ) حوتًا من تراب :

” أراه من نافذتي / الشرقية ، حوتاً من تراب / ودْيانه الوردية عند الغروب تملأها الظلال حتى / يزحف الضباب من البحر ، ويخفيه / في غلائله البيضاء ، / مرّةً ، ذهبت أتسلقه ، وسرت على القمة . / واليوم أسير في البيت / جيئة وذهابًا ، كمن أضاع شيئًا / وكلما بلغت النافذة ، تطلعت شرقاً / وألقيت عليه خلسة ، نظرة . ”

في ” يوميات من قلعة فيبر سدورف ” أنت ، أيضًا ، تنقلك القصيدة لروح الغابة السوداء ، لعوالم شعرية تعود بك إلى ملوك الريف من شعراء ومفكرين ورومانطيقيين أثثوا قصائدهم بروح العالم والأشياء ، فيما كانوا ، في عزلاتهم القروية ، أبناء أصليين . ومع سركون ، هذا الشاعر ابن الشرق ، أصيلاً يظلّ في قرابته الروحية والشعرية مع العالم وشرق المعنى . وهذا هو سر أسرار إمساك القصيدة بوجودها. ألم يقلْ ، في أول قصائده المنشورة في فصلية مشارف ، تحت عنوان كوّة :

” إذا لم تفتح الكوّة / لن تطير إلى غرفتك الحمامة – وأنّ – القصيدة قد تضيع ، إذا لم تجد الخيط الخفيّ / والراوي لن يعرف القصة ” .

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail