تشارلز بوكوفسكي «الحب كلب من الجحيم» / اسكندر حبش

«الحب كلب من الجحيم» عنوان المختارات الشعرية للشاعر الأميركي تشارلز بوكوفسكي التي يقدمها بالعربية سامر أبو هواش، الصادرة حديثا في نشر مشترك بين «كلمة» في الإمارات ومنشورات «الجمل». والمختارات هذه تحمل عنوان إحدى مجموعات بوكوفسكي التي كانت صدرت في العام 1977. حول الشاعر، الذي لم يعد غريبا عن المكتبة العربية، هذه المقالة.

«أكتب لا لأنقذ البشرية وإنما لأنقذ نفسي». هذا ما كان يردده الشاعر الأميركي تشارلز بوكوفسكي، حول السؤال الدائم، الذي غالبا ما يلاحق به الكتاب. لكن ربما كان علينا أن نضيف سؤالا آخر: من ماذا؟ والجواب الأقرب الذي يبدو صالحا: ربما من الحياة نفسها. لذلك التجأ إلى الكحول، عدوه اللدود، لكنها كانت أيضا «النبع الذي غرف منه وحيه»، فعلى الرغم من أمراضه الكثيرة لم يتوقف لا عن التدخين ولا عن الشراب، ليستمر في هذه الرحلة حتى نهايتها، ليغيب في العام 1994 عن عمر يناهز الثالثة والسبعين، بسبب سرطان الدم، ليجد يومها، مأوى أخيرا، وهو الذي تشرد طويلا في شوارع الولايات المتحدة وبعد أن نام على أرصفتها وبعد أن أزهق نصف عمره بين حاناتها وخماراتها الخلفية بين «سيقان العاهرات السمينات»، إذ لم يجد يوما من يحبه ومن أحبه.
تشارلز بوكوفسكي الشاعر «المجنون»، وشاعر المجون أيضا. شاعر الأحياء الفقيرة والمهمشين والهامشيين، شاعر العبارة الصارمة والصادمة وشاعر القلب الإنساني المعذب المدافع عن حقه في الحياة. يمكننا أن نضيف أيضا ما قاله يوما أحد النقاد عنه: «استمر بوكوفسكي، عبر حياته الخاصة، كما لو كنا أمام فصل من كتب ديفيد غوديز أو أمام مشهد من حكايات هوارد هوكس، فهو دائما متبرم وسكران وكئيب ومتهكم وساخر كأنه يمشي متثاقلا في الجنة».
«متثاقلا في الجنة»، ربما تصلح هذه العبارة اليوم لنصف حياة صاحب كتاب «حكايات الجنون العادي» و«مذكرات مقرف عجوز»، إذ كان تشارلز بوكوفسكي أو «هانك» (وحتى باك) ـ مثلما كان يسميه أصدقاؤه ـ بوجهه المجدور، الأحمر من شدة الكحول، المتكلم بفظاظة وجلف، كان يجسد «ذيل» الأدب الأميركي. قال عنه النقاد إنه قريب من جاك كرواك وويليام بوروز أو حتى ألن غينسبيرغ ـ الذين كانوا قادة «جيل البيت» ـ لكنه بدلا من أن يحرث في أرض «المخدرات الخفيفة» أو في «روحانية الزن» فضّل بوكوفسكي أن «يصوب» طلقاته على «علب تنك» البيرة مثل أولئك «الزعران» الذين يدورون في أرجاء أميركا فوق دراجاتهم النارية.
بشكل أو بآخر كان بوكوفسكي أحد آخر رعاة البقر في هذه الأميركا المجنونة. كان رمزا صاخبا لهذه الإدارة، وإن كان يصل أحيانا إلى حدود الكاريكاتورية، إذ كان يجيد أدوار السكيرين والمهرجين حين يتطلب منه دور الحياة القيام بذلك. لكنه بقي دائما على هذه الحالة. هل الحياة لا تستحق منا أن نعي ماذا يحصل؟
تشارلز بوكوفسكي، ذلك الفظ التي تصل فظاظته في كثير من الأحيان إلى حد الوقاحة. وقاحة علنية غالب الوقت. من ينسى مثلا في العام 1978 ما حصل خلال إحدى حلقات البرنامج الثقافي الفرنسي الشهير «أبوستروف» الذي كان يقدمه برنار بيفو. كان بوكوفسكي قد صمم أن «يغرس وجوده» في أول ظهور تلفزيوني فرنسي له وأمام حشد من الجماهير التي كانت حاضرة في الاستوديو، كما الحاضرة من على الشاشات في بيوتها. لم يمض ظهوره طبيعيا، وربما لم تنس الروائية كاترين بايزن الحادثة لغاية اليوم. هل لأنها لم تستسغ ذلك؟
حين جلس بوكوفسكي أمام بيفو كان في يده ليتر من النبيذ الأبيض. شربه بجرعة واحدة. كأنه كان واحدا من أولئك المشردين الذين تضج بهم العاصمة الفرنسية. وحين أنهاه أخرج من حقيبته ليترا آخر، فبدأت بايزن بالتململ فما كان من بوكوفسكي إلا أن تحرش بها، محاولا تقبيلها، مادا يده بين سيقانها. فتدخل بيفو على الفور طالبا منه الرحيل. فنظر إليه وتبول على «البلاتوه». ربما كانت ليلة لم ينسها الفرنسيون، ومذ ذاك الوقت، لم يعد «أبوستروف» يقدم مباشرة على الهواء، بل عمد المشرفون عليه لتسجيل الحلقات تجنبا لأي مفاجأة.

ولد بوكوفسكي العام 1920 في «أندرناخ» في ألمانيا، وجاء مع ذويه إلى الولايات المتحدة الأميركية «بحثا عن الثروة». وهو في الثانية من عمره. ولم ينج الكاتب من تأثير النظام العائلي الصارم، إذ سرعان ما رفضه، مغادرا المنزل، رافضا وكارها كل سلطة أبوية. حتى في اليوم الذي أصابه نزف حاد (في الخمسينيات) جاء أبوه ليتبرع له بالدم، وحين أفاق الشاعر من غيبوبته، قام وضرب والده. حادثة اهتزت لها أميركا، اهتزت من «هذا الضمير الأخلاقي الغائب»، وإبان هذا، وجد بوكوفسكي ـ وسريعا جدا ـ في الكحول والجنس مذاقا مختلفا، مذاقا خفف من غضب هذا الثائر الصغير. ربما وجد اكتفاء مثل اكتفاء «رامبو» (الشاعر بالتأكيد) خلال هروبه وخلال مغامرات روحه الفتية المدهشة.
بوكوفسكي هاوي «الرجال الذئاب» والفتيات السمينات ويضيف بنفسه إلى هذا «الديكور القذر»، جمله الغنائية، الوجدانية، الشبيهة بالمذنبات السماوية. فنجمه كشاعر لا يبرق إلا في الأماكن الصغيرة التي لم يتوقف عن معاشرة «حثالاتها» بهامشية عظيمة.
أدب بوكوفسكي أدب معجون بكتابات همنغواي وجون فانت. نشر وهو في الرابعة والعشرين روايته الأولى «ساعي البريد» (وهي إحدى المهن الكثيرة التي مارسها) وشيئا فشيئا بدأت شهرته ككاتب ـ وعلى الرغم من وجود هذه الانتلجنسيا المدهوشة بتربيته السيئة ـ «تنطفئ» خارج لوس أنجلس، وفي خارج الحدود. ربما ساهمت هذه الانتلجنسيا في ذلك، إذا كان من الصعب جدا قبوله بين قمم «أمجادها». ومع ذلك هناك أسطورة حاضرة تدعى أسطورة بوكوفسكي، ساهمت فيها السينما بشكل فعال وبخاصة فيلم ماركو فيريري «حكايات الجنون العادي» (المأخوذ عن رواية له بالعنوان عينه، ومن تمثيل بن غازارا وأورنيلا موتي) وفيلم باربيت شرودر «بار فلاي» (مع ميكي رورك وفاي داناواي) فبكونه أحد نجوم هوليوود لم يكن «هانك» يستطيع الهرب من مصيره الوحيد إلا من خلال زجاجة البيرة، بالدرجة الأولى، التي كانت تضعه داخل «قيمته الحقيقية».
في فيلم فيريري تفتتح المشاهد على صوت شخص يلقي قصائده في حديقة عامة. هكذا كان بوكوفسكي، يجتمع مع الهامشيين والمشردين، يلقي عليهم قصائده، بانتظار التبرعات المالية. ينام مع صديقة وحيدة هي زجاجة الكحول. ربما كان يرغب، في تصرفاته هذه، في أن يغتصب العالم. ألم يقل ذلك في أحد مشاهد الفيلم / الرواية. كان «البطل» يمارس الجنس مع فتاة هوى، فطلب منها أن تستدير إلى النافذة المفتوحة. وصار ينظر إلى الخارج. وحين سألته عن غايته في ذلك أجاب «أرغب في أن أنكح العالم الخارجي».
ربما أيضا هي هذه الرغبة التي جعلته يكتب، إذ قد نستطيع مع بعض التأويل القول إن الكتابة نبعت من عدم قدرته على تحقيق رغبته الأساسية في العودة إلى رحم أمه. ألم يقل في فيلم (الرواية) فيريري أيضا وهو يضع رأسه بين ساقي امرأة عجوز سمينة وهو يشد باتجاه الأعلى، «إنني ابحث عن رحم أمي». بحث عن هذا الرحم ولم يجده في رحم الحياة، ربما وجده في رحم الكتابة.
الافتراق
قلت إن النقاد كانوا يضعون بوكوفسكي في خانة «جيل البيت»، وهذا ما يشير إليه أيضا أبو هواش في مقدمته للمختارات، إذ يجد أن هذا «التصنيف يغفل كونه لم يكن في واقع الأمر جزءا من هذه الحركة ولا قريبا من روادها…». إشارة جوهرية هي تلك التي يذهب إليها المترجم، من هنا قد يكون من المفيد، لمعرفة هذه العلاقة، العودة إلى كتاب الصحافي الفرنسي جان فرانسوا دوفال «باك والبيت» متبوعا بـ «ذات مساء عند باك» الصادر عن منشورات «ميشالون» والذي هو في الأساس حوار طويل أجراه الصحافي الفرنسي مع الكاتب الأميركي في ملجئه في كاليفورنيا.
في هذا الكتاب لخض بوكوفسكي خلاصة تجربته في الكتابة، إذ يخبرنا: «لا أكتب بسبب البغض (…) من الصعب جدا أن أجد اسما لما يدفعني للكتابة… ربما كان ذلك بسبب أمرين: القرف والفرح. صحيح أنني لا أشعر بهما في الوقت عينه، بيد انهما يشكلان حقل تماريني..».
يسبق هذا الحوار، بحث طويل نسبيا، يحاول فيه دوفال أن يجد علاقات وروابط، كانت تجمع ما بين بوكوفسكي وأعضاء «جيل البيت»، وهي علاقات غيرة وكبت. فبالنسبة إلى باك الذي بدأ في معرفة النجاح والشهرة مع فترة السبعينيات، بينما بدأ الكتابة منذ العام 1953 كان يجد أن الفترة التي استغرقها ليعرف النجاح كانت طويلة. فكي «يعيش» عمل في العديد من المهن الصغيرة، التي ارتهن لها، كما جعلته «مسطولاً»: عمل في محطات وقود، في مسلخ بهائم، في معامل، وساعي بريد. وكي لا ينتحر، شرب وقرأ. أعجب بسيلين وفانت ودوستويفسكي وهمنغواي وباوند. وما بين سكرتين قويتين، لم يرَ وصول «حركة البيت» إلى مجدها، وعلى رأسها «الثالوث المقدس» وليم يوروز وجاك كرواك وألن غينسبرغ، كذلك لم يرَ جميع دعاتها: كورسو وسيندر وكاسادي وماك كلور وويلين، وهنك وأورلوفسكي ولامانتيا… وهو، في اليوم الذي نشر فيه كتابه الأول أي في العام 1959 وكان ديوان شعر يتضمن «قصائده المهلوسة»، كان بوروز قد نشر «جنكي» و«الوليمة العارية» وغينسبرغ «عواء» و«قاديش» وكرواك «البلدة والمدينة» و«على الطريق» (ترجم أبو هواش هذه الرواية وصدرت ايضا عن منشورات الجمل). أي وجد نفسه في محيط يدفع المرء، حقاً، إلى الشعور بالانهيار الكامل، وانه لم ينجز شيئا إزاء هؤلاء.
بيد أن بوكوفسكي عبر مراسلاته، كما عبر كتابيه «نساء» و«يوميات مقرف عجوز»، وهما ليسا سوى مختارات من تعليقاته الأسبوعية التي كان ينشرها في مجلة «أوبن سيتي» (وهي من مجلات «الأندر غراوند») يترك الكلام «للبارود». فبالنسبة إليه، فإن المرعب بوروز ليس سوى «لوطي مخنث (..) وكاتب يدفع للنوم بشكل خاص». ويضيف باك «لولا دعم علاقاته في العالم، ولولا دعم أدب «البوب» له، لما كان يساوي أكثر من مسمار..».
أما غينسبرغ، فيجد باك، انه «يكتب من سيّئ إلى أسوأ في الفترة الأخيرة. ما يكتبه ليس سوى غبار.. وقيء». فما إن يسمع بوكوفسكي، كلمة ثورة، حتى يخرج قلمه المسوس، ليبوخ هذه الحشود «المستمرة في جرجرة أقدامها، في الحدائق، مع صورة تشي وبورتريه كاسترو من أجل طرد الفأل السيّئ، وهم يهتفون حين يأمرهم بوروز وجان جينيه وألن غينسبرغ. لقد انتهى أمر هؤلاء الكتّاب، لقد غرقوا في التخنث والتكرار والتفاهة. إنهم حمقى».
بلغ غضب بوكوفسكي أوجه، خلال تظاهرة ضخمة أقيمت على هامش تجمع الحزب الديموقراطي في آب 1968: «لقد انتهى الأمر بأن أصبح المناصرون عاهرات. انظروا إلى مايلر وجينيه وبوروز وغينسبرغ (..) وكل أولئك الذين يستعرضون في تظاهرة الهيبي الكبيرة في شيكاغو. أهم فعلا عمالقة بشرية؟ براز! ليسوا سوى عمالقة الدعاية». إزاء ذلك، سرعان ما أعلن اختلافه عنهم بصوت مرتفع: «ما من أمر يناسب الكاتب سوى وحدته أمام الآلة الكاتبة (..) فالنزول إلى الشارع، لنملك كلمة لا، معناه أننا اخترنا الطريقة الأسهل».
بيد أن باك، بين ثورتي غضب، يعود ليجد هدوءه ووعيه ونفاذ بصيرته. يقول: «إن غينسبرغ من أكثر وأكبر المجددين في الشعر الأميركي منذ أيام والت ويتمان». في واقع الأمر، ان مشكلة بوكوفسكي الحقيقية، تكمن في أنه لم ينجح في إيجاد مكانته في تلك الحقبة. فهو لم يستطع أن ينكر أن تلك الحركة كانت السبب في نشوء «الثقافة المضادة»، وإن لم ينتسب إليها. ولأنه بدون شك كان يرغب في «ألا يفقد هويته الخاصة». فبعيدا عن الثورة ذاتها ضد جميع أشكال السلطة، نجد أنه ليس لبوكوفسكي و«جيل البيت» أي نقاط مشتركة. صحيح أن الجميع من الشعراء، لكن باك كان يتحدث عن البؤس الذي تجاهلوه كليا.. لقد كان «سجين» المعامل، يعمل مثل محكوم عليه. بينما هم يعيشون «على الطريق، في رحلات أشبه برحلات «إيزي رايدر». كان بوكوفسكي يعشق النساء، جميع نساء الأرض، بينما هم أعضاء جيل البيت (في غالبيتهم)، من المثليين جنسيا. قد يبدو ذلك أمرا لا يصدق، لكنه أمر حقيقي: فبجانب هذا الفريق، يبدو باك كأنه أحد أطفال الكورس! بالتأكيد، انه شخص هامشي، وذو فم كبير، لكنه كان «وحش عاطفة وحنان»، بينما «جيل البيت» ليسوا سوى قساة، من الصعب الولوج إلى دواخلهم. بطلهم المطلق، الأسطورة التي يبجلونها كلهم. فنيل كاسادي، كان سارق سيارات، على «عداده»، نجد أكثر من 500 سيارة قبل أن يبلغ العشرين من عمره. بوروز؟ قتل زوجته، في المكسيك برصاصة في الرأس. لوسيان دار؟ أمضى سنتين في السجن بسبب قتله أستاذا «سابقا»، لصوقا، لم يرغب في مغادرته. وشريكه في الجريمة! كان كرواك، الذي نجا بأعجوبة.
لم يكن بوكوفسكي ينتمي إلى هذا العالم. لكن بما انه كان يسير باتجاه سير التاريخ، قبل مرة أن يضع «المياه في نبيذه» أي أن يساوم، أن ينحرف؛ في العام 1967. فبفضل شاعر «البيت» هارولد فوروزي، صديق بوروز وغينسبرغ، نشرت قصائده في دار بنغوين، ثم لاحظه لورنس فيرلنغيتي، شيخ «السيتي لايتس»، تلك المكتبة المنارة، ودار النشر الواقعة في سان فرانسيسكو، التي نشرت أعمال «جيل البيت». وشيئا فشيئا، بدأ بوكوفسكي يحفر مكانه. مع نهاية الستينيات، نجح باك في القيام بـ«ضربته الكبيرة» أي بلقائه بكل من كرواك وكاسادي، قبل موتهما.
مع الأول، ثمة نقاط عديدة مشتركة: الشراب الكحولي، الإعجاب بسيلين (الكاتب الفرنسي)، أحلام حلبة الملاكمة والضربات القاضية العظيمة، والاحتقار الكبير لبقية أفراد البيت والهيبيز والبيتنيك والماويين. فجملة كرواك «انني فنان وكاتب (..) ولست الناطق الرسمي باسم مليون أزعر» لا يمكن لها إلا أن تسعد باك.
التقى بوكوفسكي بنيل كاسادي، الذي كان شخصية دين موريارتي في كتاب «على الطريق» الإله الحي لذلك الجيل، في بداية العام 1968 في فريسكو. في احدى مقالاته في «الأوبن سيتي» يروي بوكوفسكي بالتفصيل، النهار الذي قضاه معه. تشكل مقالته هذه، احد النصوص الأنطولوجية، التي من الممكن أن تدخل التاريخ الأدبي، إذ نجد أن الإيقاع موجود منذ الكلمات الأولى: «التقيت صديق كرواك، نيل ك، قبل وقت قصير من ذهابه، ليتمدد بالعرض، فوق خط سكة الحديد، في المكسيك، كي يموت هناك». أما الباقي، فيأتي على مثال ذلك. إننا أمام نص بارع الأسلوب. فقد وجد باك في نيل أستاذه في الكحول، لذلك لم يستطع أن يطلق النار عليه.
نص جميل، ينهيه بالقول: «كتب كرواك كل فصول حياتها، أما أنا، فأعتقد فعلا، أنني كتبت لتوي الفصل الأخير». وبعد عدة أيام، يسقط نيل تحت وطأة جرعة زائدة. لقد تملّك بوكوفسكي جزءا من الأسطورة. في العام 1969 كتب كرواك «من بعدي الطوفان» وغاب بدوره، فأصبح الطريق سالكا أمامه. في السبعينيات، أي في السنة التي بلغ فيها بوكوفسكي الخمسين من عمره، نشر روايته الأولى «ساعي البريد» ومن ثم جاءت «يوميات مقرف عجوز» و«حكايات الجنون العادي».
في أي حال، لا يقدم لنا سامر أبو هواش إلا الجانب الشعري من شخصية بوكوفسكي، ومعه نكتشف ـ عبر هذه المختارات التي تمتد على أكثر من كتاب ومجموعة ـ هذا الصوت الحارق الذي وجد في الهامشيين والمبعـدين مناخـا لكتابة أميركا الخاصة به، هذه الأميركا الغارقة في بحر ظلماتها القاسية.

 

عن السفير

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail