ضجر الذئب / يوسف أبو لوز

1
بَنيتُ له كهوفهَ، ومغائره..
ومددتُ له حبل العواءِ من الجرفِ الأعزلِ،
وحتى ضفاف النَّجم.
كل ليلة..
أجرُّ ورائي فريسةٍ أو فريستين،
من أجله، من أجلي.
يدبُّ فيَّ دبيب الرعد في الأودية.
مَلِكٌ على هذه الشاعرية، وصاحِبٌ
قَِلق، مُهَدَّمٌ، وَخَشوع.
مبعوثي إلى صَليل الرائحة التي تقطرُ
من الآباطِ والأثداء.
ورئيسي المُتَوَّج
ذلك،
الذئب


2


تلالٌ من القرفةِ، والخبز المحموسِ، تلالٌ رآها جَدّي ذو الرِمّة وقالَ مصعوقاً: هذه غيمةُ الجَدْبِ، وبقي عصوراً وهو يتبعها بناقته، ولثام وجهه النّاحل مثلُ أعواد الذَرة، تلالٌ تأوي إلى قمصان الخدر الذي يشبه الموت، ولا موت لك الآن، وأنت تفتْح هذه السّواحل البروزنية، مُتسلِّحاً بنبيذٍ يكفيك سبعَ ليالٍ. لو تحلُّ فيك روحُ غابةٍ، أو رَنينُ جبلٍ، لو تندفع بجسد ثورٍ إسبانيٍّ لا يقتل أحَدَ أصدقاء لوركا.. لو تزيح هذه التلال أو تمضي إلى حتفكَ، وهناك على طرف السّاحل تتمدّد، بكامِلِ دمك الشبقيِّ، وقد طلعت من رأسك
زهرةٌ بريةٌ،
لا
تذبلْ


3

شجرٌ هَرِمٌ ينحني على الوقت
يقطفُ عقربَ المساء.
ما الذي أمامك أيتها الغابة؟
ما الذي خلفكِ؟
بكلِّ ما ورثتْهُ من رعونةٍ ورواياتٍ، أحملُ صُرَّه ثيابي
كما تفعل الأمهات القديماتُ لحظةَ الفراقِ أو الحزن،
أُخبئُ دَمي وصوتي، وأُهاجرُ إلى غابة ما…
في عصرٍ ما
على إقليم ما
تحتَ رأسي نِعالي الكتّانيِ، وَأُغطي النومَ بلحافٍ من
الأغصان ثم أجهش بالحلم…


4

لا حيوانات بوسعها أن تُسْكِتَ ثرثرةَ الأنهار
لا جبال بوسعها أن تصبر على تدحرجِ الدمعِ المنفلتِ
من القبلةِ المنتظرة…
لا لغة أصعب من اللونِ الملموم على سّره الأول
*
ما أصعب البداية دائماً، خاصّة في تناول يدٍ ملساء كأنَّها حصاةُ نهر عذري، ما أصعب الكتابة إلى امرأة تُقيم في القواقع البعيدة، ومع ذلك، يَتَنزّهُ واحِدٌ من الغجر، هذا اليوم، حيث يتذكّر قول الشاعر السومريّ:
“الشمس ذاهبة إلى بيتها ووجهها محتقنٌ دماً”.
يَخُبُّ في اللفيف الشجريّ، ويجترح ما هو بعد الكتابة وما هو بعد المرأة..
هل هو اللون؟


5

رَجُلُ ماديٌّ،
يقيمُ في شعر امرأة رماديّ.
ويهبطُ نبيذاً، كأنَّ النبيذَ جَسَدْ.
أو كأنَّ ثمرة النّهد فاكهة واحدة، وتكفي البحر الجائع
من أية شفرةٍ أمسك سمكةَ النّارِ،
من أي سيفٍ ناري أقبلها
أنا الجائع إلى كُلِّ هذه السيوف
والجائع إلى القبابِ والأقواسِ والممالك


6

تركني أُخوتي الرُّعاةُ، أعْزَلَ منهم، ومن زادي ومائي،
تركني الأوغادُ في المرعى الذي حصدته العصافيرُ،
جائعاً تحت السَّماء.
أحسب النجمَ صدرَ امرأةٍ تنثر عليَّ زينتَها
وأحسب البجع المهاجرَ موسيقى عابرة من تحت لساني
إلى قارّات جافّة.
تركني الولدُ الطيّبُ بلا متاع،
لا أحد في الأرضِ سِوايْ
أميرٌ على ممتلكاتي ونشيدي
ها أَنَذَا أبدأُ العمل:
أُلَمْلِمُ فُتاتَ الخيلِ،!
لِيَخْضَرَّ المَرْعى…


7

نقطة دم صَغيرة، بحجم الطُّوفان،
تسقط على طائر يمدُّ جذورَه إلى سرّةِ الموج،
يُضيءُ، ويفتت الضوءَ، ينثرهُ في العصورِ والأمكنة.
بينما هناك في الرؤية الأرجوانية.
يتحدُ الهيجانُ بالهدوءِ الرئاسيّ،
وتنفتح الذاكرةُ على خرافاتٍ مُدوّنةٍ على هياكلَ بيضاء،
وتقوم طيورٌ وثنيةٌ على رعاية الجبال،
تخبطُ، وَتَصيحُ، وتستحمُّ بالرّماد.

… من يقف هذه الأشواك، ويهيئ الليلة.
وليمةً من القمحِ والنبيذ لبرابرةٍ عابرين….؟


8

فراشةٌ سوداءُ في رقبته، عادةً، في المساءٍ، وابتسامة مغسولة بالحليب، رئيسُ الليل، وسيّد الخشب البنيّ المقتطع من إفريقيا…
ساكتٌ على رعوناتي وفوضاي،
وساكتٌ على النبيذ،
لكنه، من وقت إلى آخر، يَغْطُسُ في الإناءِ، ويخرجُ، وقد تَبَلَّلَ يشه الأشهب، ينفضُ القطرات –صاحبي- عن ريشه،
ويتأهب للتحليق…
*
البيتُ بعيدٌ يا صاحبي، وحزنُكَ الجنوبيُّ امتدادُ شعرِ امرأةٍ في الرّيح، لكن كل شيء في متناول القلب، يحدث ذلك في الليل، عندما تترك عملك في الطّابق التاسع وتذهب إلى سريرٍ بوسادةٍ واحدة. على الجدار، فوق الوسادة صورة لنساءِ بيكاسو. على فجأةٍ تتناثر النساءُ من الصورة:
فوقَ الشراشفِ،
على النافذة،
قربَ البابِ، أمامَ المِرآةِ.
وسط العتمة تُضيءُ جَزيرة النساء، وَتُضيءُ الصّورة
وأنتَ مستلقٍ بعد ليلةِ عمل.. لا تدخّن ولا تسكر،
هذه الليلة… على الأقل…
تحدّق فقط..
وثمة سهم أزرق يخترق البابَ، باتجاه البحر


9

في اسمها موسيقى، وعلى ركبتها البيضاء نقطة حبر أحمر، سقطت من عنق عصفور، مشغولة بالقهوةِ والعشب، لا تكتب الشعر ولكنها، دونَ أن تعلم، تنثره في الشارع عندما تذهبُ إلى جارتها في بنايةٍ أُخرى، والشاعرُ يَقْتَفي أَثَرَ فيفيان ويشمُّ خطاها مثل ذئب جائع، ويلتقط الشعر المنشور، يخبئه في سلّة مربوطة في عنقه، وهي ذاهبة إلى جارتها في بنايةِ أخرى، لم تَرَ الذئب خلفها، ولم تَرَ ركبتها البيضاء, ولم تَرَ أنّها جميلة، فيفيان مشغولة بالقهوة وحسب، والشاعر الذئب ممتلئ بها. الليلة، هي الفريسة، أخذها إلى الجبل، أوْقَدَ ناراً، أولمَ لها قلبه، قدَّم لها نبيذاً مدفوناً منذُ ثمانين سنة.
يآ…
ما أطولَ حلمَ الذئب
وما أسرعَ فيفيان!


10

امرأة خلاسية أو خبز عل وشك الاحتراق، وحيدة، وعلى حوافّ الثلاثين، ذات صباح، بجانب البحر، لم تكن تفعل شيئاً سوى أن تتفرّس في الماء.
على بُعد منها…
رجلٌ يقرأ الصّباح: بحر وامرأة تتفرّس في البحر.
مرّت ساعة على ذلك، نظر الرجل إلى البحر، لم يكن هناك ماء.
ذاب فجأة ذلك السلطان الأزرق الكبير.. يابسة طريّة
ولا شيء غير ذلك…
صارت المرأة كلها زرقاء.. جسدها أزرق، أظافرها زرقاء، شعرها أزرق، وصوتها أزرق.
***
إمرأة في الزرقة،
وحيدة وعلى حوافّ الثلاثين، ذات صباح، هاجرَ البحرُ إليها، سكن فيها، نامَ ثلاثين سنة في جسدها، وعندما صارت بحاجةٍ إلى عصا، تتوكأ عليها، وتهشُّ بها على اليأس، انفلت البحرُ من جسدها، وعادَ إلى أخدوده المهجور، بانتظار صيد آخر…
بانتظار..
خلاسية أخرى،
مثل الخبز،
الذي على وشك الاحتراق


11

الهواء..
أستاذُ الجرأة
والوجبة الدّائمة للأشجار
ذلك القميص الفضفاض
الذي يلبس العالم
وحدَه، من بوسعه
أن يقابل امرأة لا يعرفها
ويرتفع تنورتها، وهُي مُذْعِنة، وضاحكة.
يفتحُ النافذة في الصباح، يدخلُ على رؤوس أصابعه، يغسلُ الآنية، والغرفة، يغسلُ الماءَ المختبئَ في الصنوبر، الماء الذي يحتاجُ إذناً لكي يندفع.. يرتب السرير، ويقدّم الإفطارَ لي ولزوجتي، مهذَّباً وسلساً، يخرجُ الهواءُ على رؤوسِ أصابعه، يكملُ مهماته، كأستاذ كبير للجرأة.

مرّات…
آخذه من يده [له أصابع من فضّة…]، نتسكّع، نرقص، وإذا كان لديه مزيدٌ من الوقت يسمحُ لي أن أطلب له كأساً. مرّات يخبئي فيه، يهرّبني من بلد إلى بلد، فيصيرُ بوسعي أن أكون وجبة لشجرةٍ، أو، ألبس العالم، والأهم أن أقابل امرأة لا أعرفها، وأكمل الباقي، كما يفعل عادة…
الهواءُ يخبرُ الأشجارَ عنّي بشيءٍ من النميمة قائلاً:
كان معي أمس
هو المرئي الكبير
والرّائي الأكبر
هو الرؤية المكابرة

 

من مجموعة “ضجر الذئب”
يوسف أبو لو
ز –
شاعر من الأردن
Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail