أبو قش / نعيم الخطيب

abu qash laghooكانت إحدى المرات الّتي دفعتُ فيها جسدي إلى حدوده، تاركاً روحي هائمةً محلّقةً.

تمدّدنا عصر ذلك اليوم على سريرين متقابلين في محاولةٍ يائسةٍ لتعويض ما فاتنا من نومٍ ليلة أمس، ولمقاومة الجوع والعطش والتعب. فيما كانت شوارع أبو قش وبيوتها ـ بالضرورة ـ خاليةً.

تسلّينا بألعابٍ فكريّةٍ عديدةٍ، كانت إحداها تسمية مفكّرين إسلاميين أخرجتهم حركة الإخوان من رحمتها. وتجاذبنا أطراف أحاديثٍ ممنوعةٍ أو مؤجّلةٍ: أسررت له أنّ إحدى قريباته كانت توقف مدرستنا الإعداديّة على قدمٍ واحدةٍ، وأنّ الجميع تمنّوا دخول جنّتها، أسرّ لي أنها قد أحالت حياة زوجها التاجر الشاب إلى جحيمٍ لا يحتمل.  أخبرني أمجد يومها أنه يرى نفسه قادماً إلى هنا مرّةً أخرى ليستأجر شاحنة نقلٍ يجمع فيها متعلقات زملائنا ويعود بها إلى غزة؛ طال إغلاق الجامعة هذه المرّة بسبب الإنتفاضة، وقد قرر جميل السفر إلى الباكستان، وأيمن إلى ليبيا، وهو نفسه إلى تركيا، وأنا إلى مصر.

كنّا قد استقللنا سيّارة أجرةٍ من شارع رُكب صباح اليوم في طريقنا إلى القدس لصلاة الجمعة اليتيمة، حين اندلق فوقنا شابٌ بعد رشقه دوريّة الجيش بحجرين، وجاء دورنا ليرشقنا بتنظير لا ينتهي: أنّه كان في حراسة دعاء والدته. انطلق السائق مجنوناً كسهم حينها؛ لم يكن مؤمناً بأنّ دعاء نصف نساء مخيم الأمعري كافٍ لتخليصنا من أيدي الجيش. نفر آلاف المصلّين خفافاً وثقالاً لرشق الجيش بالحجارة وممارسة عادة شم الغاز ورياضة جري المسافات الملتوية في ساحات المسجد الأقصى.

أمّا ليلة أمس فقد همنا على وجوهنا وأكفّنا وركبنا وأقدامنا، في جماعاتٍ خلف جماعاتٍ لا نعرفها، عندما اعتكفنا ليلة القدر في المسجد الأقصى. تذكّرتُ حكايا أمّي عن موسم النبي روبين قبل الهجرة. طالت الليلة، واكتشفتُ فيها مقدرتي على أن أصبح طيراً؛ أتبادل الوقوف على ساقٍ واحدةٍ خلف الشيخ محمد أبو طير [قبل أن تحمر لحيته]، حين قرأ سورة البقرة على نفسٍ واحدٍ في ركعتين خفيفتين.

كان برنامجنا لباقي اليوم والليلة معدّاً مسبقاً: الاعتكاف في مسجد علي بي أبي طالب في البيرة، في رفقة الشيخ حسن يوسف، مما يضمن وجبتي الإفطار والسحور لوحيديْن في قريةٍ خاويةٍ على طلاّبها.

عندما أذكر شيخنا اليوم، أذكر صديقتي دالية في الثامنة من عمرها بعد عودتها وأهلها من أمريكا، كان الشيخ أستاذاً للتربية الإسلاميّة في مدرستها الخاصّة. عادت دالية لبيتها باكيةً ذات يومٍ على إثر صراخ الأستاذ في وجهها: “حد ما بيعرف حالو مسلم ولاّ مسيحي!”. لا أعتقد أنّ الشيخ ـ ولا في أحلك كوابيسه ـ قد تخيّل (أعزّ) أبنائه يوماً في مقام صديقتي.

طالت الليلة أيضاً في رفقة شيخنا وكذلك الركوع في صلاة التهجد خلفه، مما دفعني لحد الهذيان. ترى هل سيطل علينا الشيخ حسن من الدور الثاني للمسجد بعد تفقده لمعدّي طعام السحور مستهجناً: “هيه، شباب الله يسامحكو انتو لسّة راكعين! طب… سمع الله لمن حمده”.

بعد صلاة الفجر كان قد رحل الليل وجاء وقت النوم. أغمضت عينيّ لدقيقتين قبل أن أوقظ صديقي مذعوراً: “قوم قبل ما حد يصحى… بحكيلك بعدين”. وافترقنا يومها.

وبعد خمسة عشر عاماً تقاطع طريقانا إلى القاهرة. قابلت أمجد صدفةً في إحدى الإستراحات الرخيصة في سيناء، كتلك الّتي يجبرك سائق التاكسي على ارتيادها، طمعاً في نفس نرجيلة وكوب شايٍ مجانيين، وفق تواطؤٍ مسبقٍ مع صاحب المكان. كنّا جائعين، وبدا السمك المقلي مقدّداً يومها.

شبعنا ضحكاً عندما ذكّرني بواقعةٍ لا تنسى: “لسّاتك بتستحلم في المسجد؟”.

13 تمّوز 2010

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail