حوار مع محمد بنيس

 

يصعب الحديث مع الشاعر محمد بنيس في غياب الشعر. لذا نأمل منكم بداية معرفة: ما علاقة محمد بنيس بالشعر؟ وكيف صنع بنيس لنفسه هوية شعرية – دون غيرها – للنظر إلى الحياة والإنسان والمجتمع؟

علاقتي بالشعر هي علاقتي بالحياة وبالمقاومة من أجل الحياة. ابتدأت هذه العلاقة منذ السنوات الأولى من التحاقي بالإعدادية، إذ أنني عندما قرأت الشاعر أبو القاسم الشابي وجبران أحسست بأن كتابتهما لصيقة بحياتي. ومن خلال شعرهما تعرفت على شعراء آخرين، فأصبحت مشدوداً إلى الشعر، ملازماً له. كنت أقرأ دون أن يكون في حسباني أني سأكتب الشعر ذات يوم، لأني كنت محباً للرياضيات، وكنت متفوقاً فيها. ثم الحياة لها دروبها المفاجئة. فكتبت القصيدة الأولى. لحظة من الدهشة واللذة الخالصتين. شيئاً فشيئاً أصبحت القصيدة أرفع ما أطمح إليه. وفيها عثرت على طريقي إلى اللقاء النقي والخالص بالإنسان وبالكون. لأجل ذلك أخذت أتعلم أبجدية الكتابة الشعرية، أعطيها كل الوقت، ولا أتسامح مع نفسي. تعلم جاء مع أسئلتي عن الشعر المغربي الحديث والثقافة المغربية الحديثة ومع السؤال عن المغرب وكيف يمكن الانخراط في حياة حديثة. آنذاك أدركت أن كتابة الشعر جدية وتتطلب الالتزام والتركيز والتثقيف والتفرغ والحرية الفردية والمغامرة، خارج أي شروط قسرية، أكانت اجتماعية أو أخلاقية أو دينية أو سياسية. أدركت أن الشعر مركزي في الحياة، وليس إضافة إلى شيء آخر، كالانتماء إلى حزب سياسي مثلا. القصيدة، من هنا، تكتفي بنفسها.
أعتقد أن مزيج ذلك هو ما دفعني لا إلى الكتابة والاكتفاء بها، بل جعلني دائم القلق والبحث عن معنى قصيدة يكتبها مغربي. فكتابة القصيدة، آنذاك في الستينيات، كانت تعني مجموعة من الأفعال التي ينتظرها كل مغربي متعلم في عمري. وفي كل مرحلة كان السؤال يزداد حدة بقدر تنوع معارفي. لكن هذا المنحى الخاص بالسؤال عن ما هو مغربي تلازم وسؤالي عن الشعر الحديث في العالم وعن الصلة بين الشعر والحداثة، أو بين الشعر والفكر، أو الشعر والفنون، أو الشعر والمجتمع والحرية. لا فصل بين هذا وذاك. من تعلم الشعر والمعارف والالتصاق بالحياة المغربية والإنسانية نشأت قصيدتي في فضاء يتجدد على الدوام.

هل تعتقدون أن الشعر، كأفق وموقف، قادر على مواجهة الحياة المعيشية بصعوباتها المادية؟ بمعنى آخر: كيف للشعر أن يكون ملجأ ومطلبا وحلما للمواطن البسيط المهموم بقضايا الأكل والشرب والسكن؟

لكل إنسان شعره الذي لا يفارقه. فالإنسان البسيط في مجتمعنا التقليدي شديد الصلة بالشعر. عندما نتأمل حياة الناس، أكانت في المدينة أم في القرية، نجد الشعر حاضراً بقوة في التحية وفي الحديث وفي تدبير شؤون الفرد والعائلة والجماعة. لكننا اليوم نعيش في مجتمع تنقطع فيه الصلة مع ذلك المجتمع التقليدي، حتى داخل القرية نفسها. قيم جديدة تغزو عالم الإنسان. وثقافة الإعلام تستحوذ على الخطابات. لذلك فإن وضعية الشعر صعبة في مجتمعنا الحديث. لا يتعلق الأمر بالإنسان البسيط وحده، بل بكل إنسان. إن هذا مشكل حقيقي يمس واقع الثقافة في حياتنا الاجتماعية، ويمكن أن نلاحظ ذلك في جميع الأوساط، حتى أوساط رجال التعليم. وأنا من الذين يؤمنون بأن الشعر مفيد للحياة الإنسانية بمعان متعددة، لا يختلف فيها فرد عن فرد آخر، مهما كانت الفروقات الاجتماعية أو الثقافية. ومن المؤسف أننا لا نستطيع اليوم توضيح أهمية الشعر في حياتنا لأن حياة الاستهلاك وثقافة الإعلام تجعل المهمة صعبة جدا، بخلاف ما كان عليه الأمر في مجتمعنا التقليدي، الذي لم يكن يفصل بين الحياة والشعر.

للسؤال السابق شق آخر، هو: كيف للشعر أن يقيم دولة الحق والقانون؟ بمعنى كيف يمكن للشعر أن يسيج فضاءنا اليومي والمستقبلي بقيم التعددية والاختلاف والتداول على السلطة؟

لنا أن نفكر في الشعر من داخل الشعر نفسه. هذا المبدأ سيساعدنا في معرفة معنى الشعر وماذا يمكن أن يفعل. إن الشعر، بطبيعة لغته، ينقل الكلام من مستوى المعنى الجماعي إلى المعنى الفردي، أي من المعنى الواحد إلى المعنى المتعدد. وأرى أن مجتمع الحق والقانون هو الذي يقر بتعدد المعنى وبتعدد الحقيقة. عندما ندرك هذا البعد الخاص للشعر نفهم جانبا من جوانب الشعر وكيف يمكنه أن يدلنا على علاقة حرة، تقوم على الاختلاف والتعدد بين أفراد المجتمع أو بين مجتمعات مختلفة. إذن، ما نحتاج إليه هو الانتقال من القراءة المباشرة للشعر، انطلاقا من المجتمع أو التاريخ أو العلم أو السياسة أو الدين إلى العكس، أي أن يكون الشعر نفسه منطلقاً في قراءتنا لجميع مظاهر حياة الإنسان مع الإنسان أو مع الأشياء أو مع الكون. بهذا القلب في القراءة سنكتشف عالماً جديداً كلية، ومن خلاله سنتعرف على فاعلية الشعر في نسج فضائنا المشترك بطريقة مختلفة تماماً. ولنا، هنا، أن نفيد من تاريخ البشرية ومن وضعية الشعر فيها. عودتنا إلى القديم أو إلى المجتمعات التي سبقتنا في التحديث، ستفتح نوافذ مجهولة في التعرف على ما يمكن للشعر أن يقدم لإنسانيتنا في هذا الزمن، لأنه لن يكون خطاباً على خطاب، ولا مضافاً إلى خطاب، بل تربية جديدة للحواس على إدراك الحق في التعدد والاختلاف والتداول على السلطة.

الاعتراف الثقافي بين المشرق والمغرب العربيين تميز دائما بكثير من الغبن وعدم الإنصاف. ذلك أنه بالرغم من كون المغرب العربي أنجب قرائح شعرية متميزة ومعطاءة إلا أنها أقل حضورا في الآلة الإعلامية المشرقية وفي نصوص نقادها التحليلية والنقدية. كيف تفسرون هذا الأمر؟ وهل نحن في حاجة مرة أخري إلى من يؤلف كتابا جديدا عن النبوغ المغاربي في الشعر والقصة والرواية والمسرح؟

كنت، وأنا شاب، أطرح على نفسي السؤال عن معنى غياب الثقافة المغربية في خطاب المشرق العربي. كان ذلك قبل 1967. لم أكن أفهم ما يحدث وما مصدر ما تعيشه الثقافة العربية من غربة بين مشرقها ومغربها. ثم أخذت أتعرف على أعمال مغربية تتناول الموضوع، وفي مقدمتها كتاب «النبوغ المغربي». لكن عبد الله العروي هو أول من أتى بتحليل جديد، لا يستند إلى موقف نفسي أو أخلاقي، بل اعتمد موقفاً معرفياً، هو ما صاغه في إشكالية التخلف المضاعف للثقافة المغربية بالمقارنة مع الثقافة الأروبية الحديثة. هذا التحليل نقل القراءة من حقل الثقافة المغربية إلى حقل الثقافة العربية من ناحية، وواجه وضعية أمر الثقافة المغربية، التي لم تكن إلا صدى للثقافة المشرقية، وهي بدورها متخلفة عن الثقافة الأروبية، من ناحية ثانية.
كان لهذا التحليل أثر كبير في تغيير موقع قراءة مكانة الثقافة المغربية. وهو من بين ما أفادني في صياغة مفهوم المركز والمحيط، والنظر إلى الثقافة المغربية كمحيط. نحن الآن بعيدون عن هذه الخطاطة، لأن أوضاعاً عديدة تغيرت في كل من المشرق والمغرب العربيين. ولم يعد هناك شيء اسمه مركز الثقافة العربية. هذا ما علينا أن نستوعبه. وأظن أن ما تعيشه الثقافة المغربية، منذ السبعينيات، ساهم في ظهور ثقافة مغاربية حديثة لها حضور قوي في الساحة الثقافية العربية. ولا جدال في التأثير الفاعل الذي تركته أعمال مغربية في الثقافة المشرقية. نعم، ثمة انغلاقات لا تزال مهيمنة في المشرق، لكنها تتضاءل شيئاً فشيئاً. فحضور الثقافة المغربية عربيا وعالميا يسهم بشكل فعال في إبدال الخطابات. وأظن أننا كمغاربة نحتاج أكثر إلى اعترافنا نحن بثقافتنا. وأرى أن السياسي في المغرب عائق حقيقي في إبدال النظرة المغربية إلى الثقافة المغربية والمثقفين المغاربة من نظرة سلبية إلى نظرة موضوعية. ذلك هو درس عبد الله كنون الذي يلزمنا قراءته من هذا المنظور. ونحن بطبيعة الحال نحتاج إلى كتاب جديد عن النبوغ المغربي، يستوعب الزمن ويستوعب الأسئلة الجديدة.

نعود معكم مرة ثانية إلى الشعر ونستحضر رسالتكم الأخيرة والمثيرة، الموجهة إلى نجيب خداري، الرئيس الحالي، حول خيانة فكرة «بيت الشعر». لا نحدث عن أسباب نزولها لأنها واضحة وساطعة ودقيقة. لكن نريد أن نعرف منك أكثر كيف تنظر إلى موقف الشعر من السياسة؟ وما مدى خيانة الشاعر للشعر عندما ينتمي إلى جماعة سياسية أو حزب سياسي؟

كان الشعراء المغاربة في العشرينيات من القرن الماضي أدركوا الفرق بين الفقيه والشاعر، ودعوا إلى الاعتراف بالوضعية الخاصة للشاعر. هذا ما ننساه لأننا لا نقرأ تاريخ الشعر المغربي الحديث. وما حدث من تبعية الشعري للسياسي بدأ مع نشوء الحركة الوطنية المغربية.
أضع كل هذا جانباً، لأنه سيأخذنا إلى حديث طويل. أريد الآن أن أوضح، مرة أخرى، أن هناك فرقاً بين السياسة والسياسي، الذي له معان متعددة من بينها معنى الحزبي. هذا ما كنت تناولته أول مرة في «بيان الكتابة»، الصادر في العدد 19 من مجلة «الثقافة الجديدة» سنة 1981. ثم عدت إليه على نحو تطبيقي في قراءتي للتراجعات التي شهدها المؤتمر السابع لاتحاد كتاب المغرب، سنة 1981، حيث اتضح لي أن السياسي، بمعناه الحزبي، لا يريد أن يعترف بخصوصية الممارسة الثقافية والخطاب الثقافي، ومنه الشعري. فالأولوية، في هذا الخطاب للحزبي، لأعضاء الحزب، ولا مجال من خارج الحزب للاعتراف بإبداعية شاعر ولا بمكانة كاتب. كن حزبيا أولاً، ثم مبدعا أو كاتبا ثانيا.
هذا شيء غريب، سواء في تاريخ الثقافة العربية أو الإنسانية. فنحن بهذا نقول، مثلا، للمتبني إن شاعريتك أقل درجة من شاعرية شاعر حزبي. أو نقول، في زمننا، لمحمد شكري إن قيمتك الروائية أقل من قيمة روائي حزبي. وهو ما كان سيسخر منه محمد شكري. عندما عبرت عن هذا الرأي اصطدمت بجدار عال جدا، جدار يمنع التعبير عن الرأي. وبدلاً من أن يفتح التعبير الحر نقاشاً نظرياً وتحليلياً، يساهم في توضيح ما هو صحيح مما هو خاطئ في هذا الرأي، توالى الإنكار من طرف حزبيين، من الاتحاد الاشتراكي على الخصوص، وتوالت أشكال التعنيف به. وهو ما لم يساعد على استجابة الحزبي للأوضاع الثقافية الجديدة في المغرب، بل لم يساعد على إبدال موقف الحزبي منذ الأربعينيات من القرن الماضي تجاه كتاب ومبدعين تم إبعادهم من الحياة الثقافية. أعطي نموذج محمد داوود، الذي كان رائدا متفردا في وضع منظور جديد للتحديث الثقافي في المغرب الحديث، وهو ما يصدق على العديد من الأدباء والشعراء.
لذلك أضيف بكل وضوح إن من حق الشاعر أن يكون حزبياً، وهو حق كامل، ومن حقوق الإنسان التي لا يمكن المساس بها. ولكن على الشاعر الحزبي أن يتعرف بالحدود الموجود بين الشعري فيه وبين الحزبي. فأن يكون حزبياً لا يعني على الإطلاق أنه أكبر شاعر أو أنه الشاعر الوحيد وغيره غير موجود. يمكن لشاعر كبير ألا يكون حزبياً أو أن يكون من حزب ليست له سلطة الحزب الكبير، على غرار ما عرفه المغرب بين حزب الشورى وحزب الاستقلال. فكثير من الأدباء الشوريين تم تهميشهم تماماً لمجرد أنهم ليسوا استقلاليين. كذلك الأمر بين الاتحاديين والاستقلاليين أو بين هؤلاء جميعاً وبين شعراء وأدباء بعيدين عن الحزبين معا. أعطي نموذجاً قريبا العهد، هو ما نشر في العدد 8200 من جريدة «الاتحاد الاشتراكي» في تاريخ 21 مارس 2006 (وللتوقيت دلالته)، حيث قامت الجريدة في صفحتها الأخيرة بوضع لائحة الشعراء في المغرب. عندما نتأمل هذه اللائحة نجد أن الذين تعتبرهم الجريدة شعراء المغرب الكبار، أو الممثلين للشعر المغربي الحديث، هم جميعاً منتمون لحزب الاتحاد الاشتراكي أو أكثر من قريبين منه. لو كتبت الجريدة أن هؤلاء شعراء الحزب لما اعترض أحد على ذلك. فتلك هي الحقيقة. ولكن أن يكونوا هم الوحيدون شعراء المغرب، فهذه صيغة من صيغ تبعية الثقافي للسياسي. وهو ما لا يشرف كلا من الحزب والشعراء المختارين على السواء.
والملاحظة التي علينا تأملها هي أن هذا الوضع خاص بكتاب العربية، لأن الكتاب المغاربة بالفرنسية كانوا متحررين من قسرية هذا المنظور القاصر. فهم وجدوا في الثقافة الفرنسية تاريخاً تم فيه الفصل بين الممارستين، دون أن يمنع ذلك حزبياً من أن يكون شاعراً كبيراً أو شاعراً غير حزبي من أن يكون بدوره كبيراً. أمثل بنموذج فرنسي هو الروائي سيلين والشاعر بول إيلوار. هما مختلفان سياسياً، ولكن لكل منهما مكانته الخاصة في الأدب الفرنسي وفي الأدب العالمي. الشيء نفسه يمكن أن نطبقه، في أمريكا اللاتينية، على الشاعر بابلو نيرودا، الشيوعي، والشاعر بورخيس المناهض للشيوعية. الأمثلة في العالم عديدة، وهي متوفرة بكثرة في المشرق العربي. وكلها تؤيد ما أذهب إليه. وإني أحيي موقف محمود درويش الذي كان له الموقف نفسه، وكنا معا ننظر إلى أوضاعنا بعين نقدية.
لا أظن أن متتبعا للوضع الثقافي العربي لا يفهم هذا الذي أدافع عنه. ومن ثم فأنا أدعو للتخلي عن الرؤية الأحادية ومنطق الإلغاء من أجل حياة ثقافية جديدة، حرة ومبدعة. وهي التي حاولت المساهمة فيها من خلال «الثقافة الجديدة» أو دار توبقال للنشر أو «بيت الشعر» عند تأسيسه وفي السنوات التي كنت فيها رئيساً له. وأحيي هنا، مرة أخرى، عبد الرحمن اليوسفي، الذي كان، وهو رئيس الوزراء، استقبلني بصفتي شاعراً ورئيساً لمؤسسة شعرية وغير حزبية. تبادلنا حديثاً رفيعاً عن الشعر ووضعية الشعر في المغرب وأهمية الشعر للمغاربة ودوره في تحديث المجتمع المغربي. لم تصدر عنه كلمة واحدة عن الحزب ولا عن السياسة ولا عن السياسي. وجميع الكلمات التي كان يشارك بها في مهرجان الشعر العالمي بالدار البيضاء كان لها هذا المعنى العميق للعلاقة الجديدة والصحيحة التي يجب أن تسود بين السياسي والشعري. ثم إنه دعم الدعوة التي كنت وجهتها إلى المدير العام لليونسكو، ما دامت مؤسسة تمثل الدول. لا أنسى هذين الموقفين الاستثانئيين في تغيير العلاقة السائدة بين السياسي والشعري (والثقافي). ولأجل ذلك كنت مبادراً إلى اقتراح تكريمه على هيئة البيت فرحب أصدقائي بالاقتراح. وابتهج عبد الرحمن اليوسفي، من جهته، بهذا التكريم الذي أتي من الشعراء، بوصفهم شعراء. رؤيتي لا تلغي السياسي، ولكنها تبدل العلاقة بينهما من تبعية، تعوق الفعل الثقافي، إلى علاقة حوار وتفاعل يغنيان ثقافتنا وحياة مجتمعنا ومستقبلنا الجماعي.

تحمل بعض المثقفين المغاربة لحقائب وزارية في العقدين الأخيرين من تحولات المغرب السياسية.. هل ساهم في نظركم في تطوير المشهد الثقافي؟

كانت مرحلة محمد بنعيسى أكثر انفتاحاً على الحركية الثقافية في مغرب الثمانينيات. وأرى أنه مثل السياسي الذي كان له مشروع ثقافي، وكان مقتنعاً أنه يحتاج إلى السلطة، ولكنه لا يمكن أن يحققه من داخل الدائرة الحزبية التي ينتمي إليها أو من داخل دائرة السلطة التي كان يرى أنها الوحيدة القادرة على إحداث تغيير في الثقافة المغربية. وجهة نظر فيها اجتهاد وقابلة للنقاش. ورغم أنني كنت أختلف مع اختياراته السياسية فأنا حافظت على احترامي له ولمشروعه الثقافي. دليل ذلك أنه نجح في أن يجعل من مهرجان أصيلة مكان اللقاء بين مبدعين وكتاب وسياسيين من مختلف التيارات، ويستمر في إحياء المهرجان لمدة تزيد عن ثلاثين سنة. وقد كان محمد الأشعري بدوره يحاول أن ينفتح، وقام بأعمال سأظل أذكرها بتقدير، منها تطوير معرض الكتاب، ودعم الكتاب المغربي وعمل الجمعيات. على أنه ظل محصوراً في إعطاء الأولوية للحزبي، ضمن خريطة الكتلة، وخاصة بين الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال. وهذا واضح، مثلا، من خلال لائحة الأعمال الكاملة التي أصدرها لكتاب مغاربة.
معنى هذا أن تولي وزارة الثقافة من طرف مثقفين ومبدعين أعطى دماً جديداً للعمل الثقافي في المغرب، ولكنه لم يرق بعد إلى النظر إلى الثقافة المغربية في كليتها وضرورتها وإلى الإبداع المغربي في كليته وضرورته. عمل صعب، أعترف بذلك. لكنه هو المطلوب لتحرير الثقافة المغربية والسير بها إلى المكانة العليا التي نحلم بها ويحلم بها كل مغربي معني بمسألة تحديث الثقافة وتحديث المجتمع. فالمسألة الثقافية أبعد من كونها مسألة أفراد ومجموعات. إنها تمس التوجه العام للمجتمع. وهو ما فهمته الثقافات الحديثة في العالم.

لننتقل إلى الحديث عن محمد بنيس الإنسان، من أي معطف شعري خرج محمد بنيس؟ ولمن يقرأ من الشعراء المغاربة؟ والمشارقة؟ والغربيين؟

خرج شعري من قراءاتي ومن جسدي الشخصي، الذي لا يتكرر في جسد آخر. أقصد جسد شخص مغربي، محب لمغربيته، متشبع بثقافته المغربية وبتاريخه، القريب والبعيد، وبتعدده الثقافي. خرج من تعلمي الدائم من الشعراء الكتاب ومن الفنانين والمفكرين، عبر التاريخ البشري. فأنا لا أعرف الحدود بين الثقافات والحضارات. لكن لي في الوقت نفسه اختيارات في الحياة وفي الثقافة، يضيئها إيماني (في معناه الصوفي إن شئت) بالحرية. إنها أبجدية الكتابة والإبداع. وأنا أعلم أن الحرية قاسية جداً. لكنني لن أتخلى عنها. حياتي مهما طالت قصيرة. وما يعنيني هو أن أكتب وفق حريتي، من أجل الإنسان ومن أجل أن أكون مع الإنسان، في كل مكان في العالم.
قراءاتي للشعراء المغاربة تعود إلى شبابي، ولم تتوقف. فأنا قرأت للحديثين كما قرأت للقدماء بالعربية والدارجة معاً. ومن المعاصرين تتبعت ما كان يكتبه محمد الخمار الكنوني وأحمد المجاطي ومصطفى النيسابوري ومحمد السرغيني ومحمد خير الدين وعبد الكريم الطبال وعبد اللطيف اللعبي ومحمد الميموني وعبد الكبير الخطيبي وعبد المجيد بنجلون. ثم للمجايلين لي محمد بنطلحة وعبد الله راجع وأحمد بلبداوي وعبد الله زريقة والمهدي أخريف ومحمد الأشعري، واللاحقين مبارك وساط وأحمد بركات وإدريس عيسى ووفاء العمراني والزهرة المنصوري وحسن نجمي وجلال الحكماوي وعبد الإله الصالحي ومحمود عبد الغني وياسين عدنان ولطيفة المسكيني ونبيل منصر. كل هؤلاء أقرأ لهم بمحبة وتقدير. فلكل واحد ما أفيده من قصيدته وما أتحاور معه، في الصمت وفي الكتابة. وقد كتبت مرات عن هذا الشعر (أو بعضه) دراسات أو تقديمات لأنطولوجيات وملفات نشرت في لغات أروبية. وأعتبر شعرهم يضيف للشعرية العربية والإنسانية فيما هو يفتح التجربة الشعرية المغربية على تخوم لم نقرأها بعد بما يكفي من العناية والإبداعية، أي بما أسميته القراءة العاشقة.
اكتفي بهذه الكوكبة المغربية. ربما كانت هي الأهم، في سياق الحديث عن الشعر في المغرب. أما العرب، فأنا ابن لامرئ القيس وأبي نواس وأبي تمام والمتنبي، في القديم، وجبران والشابي وبدر شاكر السياب وأدونيس، في الحديث. أفتخر بذلك. وغير العرب، مثل دانتي ورامبو وملارمي، أوهلدرلين وريلكه، أو لي بو وباشو، حاضرون في تكويني وقراءاتي المتواصلة. لا أفرق بين القدماء والحديثين. في الذهاب والإياب بين الأعمال أكتشف ما لم أكن انتبهت إليه أو أستمتع بهذا الكون الشعري الذي يغني دخيلتي ويتركني في حالة العطش. تلك حكمة الشعر التي نتعلمها ثم لا نفارقها عندما ندرك أن الشعر لا يقرأ مرة واحدة، أو يقف عند اسم واحد. على أنني أخص الكبار بمكانة لأنهم الدليل في ليل الكتابة عندما اليد تأخذني إلى حيث لا أدري.

متى تقرأ الشعر؟ و متى تكتبه؟ وعلى أي نوع من الورق؟ وما هي طبيعة الأجواء التي تصاحبك عندما تكتب؟ وهل تكتب القصيدة مرة و دفعة واحدة أو على فترات زمنية؟

أتخير وقت الصمت لقراءة الشعر. في البيت، أو في القطار، أو في مقهى خال من الرواد. أحياناً أقرأ ديوانا كاملا طيلة يوم أو يومين، أو لمدة أسابيع، أقرأ وأعيد، أقرأ وأتأمل. أقرأ وأنصت إلى الصوت والصمت في القصيدة. وليست الكتابة غريبة عن أمكنة القراءة. أحيانا تداهمني القصيدة حيث لا أنتظرها، مكاناً أو وقتاً. على أنني أرتاح أكثر إلى الكتابة على مادة خشبية، ذات سطح فارغ، كالمكتب، لأن يدي تتحرك بيسر أكبر. وأحب الأوراق المخططة بالمربعات الصغيرة في دفتر، حتى أقيس مسافات البيت أو الكتلة الخطية. ربما كتبت القصيدة القصيرة في وقت وجيز، وربما احتجت إلى وقت أطول أو إلى أكثر من يوم. ثم إن القصائد الطويلة تحتاج مني إلى شهور أو إلى سنة، ومرات إلى مدة تفوق ذلك. أترك القصيدة تقرر بنفسها. لا أفرض وقتاً محدداً. وفي الصباحات أكون أقرب إلى القصيدة. أختلي بنفسي من صباح إلى صباح. قد أكتب أو لا أكتب. أكتب أبياتاً قليلة ثم أعود. لا أستعجل. البطء في الكتابة حبيب إلى نفسي. ونادراً ما أنشر قصائدي فور كتابتها. تحتاج مني القصيدة إلى إعادة القراءة. ومرات إلى إعادة الكتابة. لا النشر يغريني ولا الانتهاء من الكتابة. قصائد. لكنها حياة في الكتابة.

نرجو منكم الإجابة بجملة واحدة على ما يلي:
– الكتابة؟
مسؤولية كبرى تجاه ما كتبه الآخرون وتجاه ما كتبت وما لم أكتب.
– الموت؟
أعيشه في الكتابة نفسها.
– الإنسان؟
يتجسد في كل فرد، له كل الحالات، له الخفي، ومن أجله يجب أن نظل يقظين.
– العالمية؟
هي أن نكون أبناء زمننا.
– جائزة نوبل؟
تكاد تكون جائزة سياسية، لذلك فهي ليست منصفة دائماً بحق الأدباء الكبار.
– الأدب الإسلامي؟
دعوة إيديولوجية، عمياء، ومتعارضة مع جوهر الأدب.

 

عن طنجة الأدبية

 

 

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail