ذات يوم / جمال القواسمي

قصة قصيرة

جمال القواسمي*

العامل الوحداني يعيش في ‘كونتينر’ ملحقة في ورشة بناء تتجول من مشروع لآخر. العامل الوحداني لأبيه لا يحتاج إلى جوال. أشترى جهاز جوال بأزرار وشاشة ملونة ذات يوم قبل سنوات كثيرة، ووزع رقمه الذي لا يحفظه على المقاولين والعمال ليضمن وجود فرص عمل يومية؛ منذ مدة سنة ونيف لم يشحن جواله ببطاقة، واكتشف بعد مدة ان رقمه التغى. لا يتصل على أحد ولا يتصل به أحد. والده في بيت للعجزة؛ أمه متوفاة. العامل الوحداني لأبيه لا يحتاج إلى جوال. العامل الوحداني ليس له أخوة ولا أخوات ولا حتى أصدقاء. جذع مقطوع من شجرة. وزملاؤه في العمل يتغيرون، وليس لدى معظمهم أجهزة.
ومع ذلك كم رغب أن يشتري جوالاً جديداً. يحب أن يتجول في الحوانيت ويشاهد عينات الأجهزة في الڤاترينات، ويحب أن يعرف عن خواص الأجهزة ومميزات كل واحد منها. العامل الوحداني يفضل التحديق بڤاترينة جوالات تبيع فيه فتاة محجبة عابسة، حالما يظهر، تعبس في وجهه، فيهرب منها. كلما حاول أن يتودَّد لها من خلف الڤاترينة، خرجت من تجاعيد وجهه ابتسامة عرجاء وتنكَّرت عيناه بنظرات مهرجين فاشلين في مهنتهم. أما هي فقد كان تحفُّزها وتوثبها لظهورها ككمين ظاهر للعيان ينتهي بإيماءة آمرة من يدها تطلب منه الانصراف. كم ود دائماً أن يسدي لها نصيحة لزيادة أرباحها من البيع، وهي أن تبتسم. وحين قرّر ذات يوم أن يدخل المحل، أحتار تماماً، وانزعج من نظرات البائعة وهي تقيسه وتقيس دفء جيبه بالنظر إليه من ناصيته حتى أخمصه.
تجاهل اسئلتها الوقحة: شو ميزانيتك!؟
وقال لها: بدي أشوف عروض أسعار!
فعادت وسألته بتلك النبرة المتعالي: شو ميزانيتك!؟
قال لها: لمس، بدي اللمس!!
قالت له: اللمس أغلى إيشي، شو ميزانيتك!؟
حتى دخلت للحانوت فتاة شابة تبحث عن بيت لجوالها، وانتبهت الى وجود شاب يحدِّق فيها. منظره أضحكها. هي لطيفة، ملابسها جميلة، خمَّن انها طالبة جامعية رغم عدم حملها للكتب أو موظفة أيامها في العمل قليلة وغضة.
سأل الفتاة الشابة: جهازك لمس!؟
فقالت له: لمس، لمس، نعم لمس.
ومدَّ يده نحوها ليلتقط الجهاز، وباستحياء مدَّت يدها ومعها الجوال، ودون قصد تلامست يداهما، فسرت في كليهما شحنة لا على البال ولا على الخاطر، فتورَّدت وجنتاهما وأزهرت عيناهما بحزن لا حدَّ له. وفنجرت عينا البائعة على عربدة الزبونين ووقاحتهما بالمغازلة عيني عينك، ونفخت زفيراً مهددةً بعدم تحملها لسلوكهما الذي اعتبرته إباحياً؛ أما العامل الوحداني فقد أخذ من يد الزبونة اللدنة جوالها، وبطرف أصبعه بدأ يزرع بذور لمسته الأولى في عالم الاتصالات الحديثة.
سألته: وانت، شو جوالك!؟
أخرج جهازه القديم فضحكت لمنظره، وتفحصته، وانتبهت انه يحتاج لشحن البطارية.
قال لها: لا يحتاج الى شحن بل يحتاج أصلاً لبطارية.
سألته: شو رقمك؟
قال لها: رقمي نسيته، وأنت شو رقمك!؟
ضحكت الزبونة الشابة، ازدادت البائعة عبوساً وسألت الزبونة: هل تريدين أن تشتري بيتاً لجوالك أم لا!؟ فهزَّت الصبية رأسها بالإيجاب وهي تكركر ضاحكة؛ وحين طلبت البائعة من العامل الوحداني أن يعطيها الجوال، رفض أن يتنازل عنه.
– أعطني لو سمحت..
– لا تصرخي في..
– أعطني الجهاز أقول لك، أعطني!!
– تكلمي بأدب، بأدب وذوق تكلمي!!
– أعطيني ولهْ!!
– تكلَّمي باحترام..
– هات يا حرامي!!
سألته الزبونة: ممكن!؟
قال: طبعاً.
قالت له وهي تعطيه جواله مبتسمةً: شكراً.
قال لها: هل تعرفين انني انا نفسي لمس!؟
سألته الشابة: أنت ماذا!؟
صرخت فيه البائعة: انصرف من المحل يا قليل الأدب!!
قال العامل الوحداني: لمس، أنا لمس، أنا نفسي لمس، زي جوالك!! يدي، جبيني، قلبي، عينيّ.. لمس، كلها لمس..
– أنصرف يا قليل الأدب!! أنصرف…
ورغم أن البائعة طردته من المحل وتجمع بعض الجيران والمارة يطردون العامل الوحداني، إلا ان الزبونة الشابة بقيت تضحك على خفة دمه وجرأته، واستظرفته ووجدت نفسها تودُّ لو تدافع عنه. لكنها لم تفعل. خشيت من لمة الناس وصراخهم، وتسحَّبت قليلاً قليلاً مبتعدة جانباً، وهي تتلفت وراءها وتلقي عليه نظرات كانت تحوطه وتقيه ممن حوله.. ثم استجمعت قوتها ونوت أن تقول لهم انها خطيبته وربما تقبض على يده وتسحبه بعيدا عنهم، لكنها لم تستطع أن تفعل شيئاً. تأوهت وفكرت بأنها ذات يوم ستكبر وتحب انساناً خفيف دم ومضحكاً وجميلاً ومثيراً بملابسه المجعلكة وشعره الطويل غير الممشط مثله، تماماً مثله.

 

15-01-2012

 

* جمال القواسمي قاص فلسطيني يعيش في القدس، من مواليد 1966، عمل سابقاً في الترجمة والتعليم؛ له ثلاث مجموعات قصصية: جاي معك 1990، شامة في السماء 1997، هزائم صغيرة، 1998. موقعه في الحوار المتمدن:
http://www.ahewar.org/m.asp?i=4435

 

اللوحة للفنان الياباني سايكو ياموكا
Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail