فكرة الهوية والانتماء

 

 

 

 

حوار مع الروائي أمين معلوف – بتصرف عن الحياة اللندنية

 

الأصول والجذور

في كتاباتك الأخيرة تنحاز الى كلمة «أصول» مميّزاً بينها وبين كلمة «جذور»، معتبراً ان البشر لا يحتاجون الى الجذور مقدار حاجتهم الى الأصول. وترى في الشجرة مثالاً حياً على هذه الفكرة. كيف توضح هذه الفكرة التي ظلّت مبهمة، خصوصاً أن كلمة أصول في العربية ذات دلالات بعيدة، ومنها اشتقت كلمة «أصولية»؟
– التمييز الذي قمت به يتعلّق باللغة الفرنسية. عندما تُرجم الكتاب الى العربية تكلّمت مع المترجمة نهلة بيضون التي اقترحت كلمة «بدايات»، فكلمة «أصول» تملك معاني مختلفة، اضافة الى كلمة «أصولية» التي هي خاصّة جداً. والأصول في ذاكرتي تملك دلالات أخرى، مثل أصول القواعد، أي أنها مبادئ. الفكرة هي فكرة تاريخية، فأنا أميّز بين كلمة origines وكلمة Racines، لأن الأخيرة توحي لي التركيز على نقطة الانطلاق ولكن على حساب الطريق الذي ينطلق من هذه النقطة. تاريخ اللبنانيين هو تاريخ الطرق التي سلكها اللبنانيون، ولا أقصد هنا عائلتي بل الجميع. ولدى العائلات عندنا أناس ذهبوا نحو أميركا الشمالية أو الجنوبية أو استراليا أو أفريقيا أو أوروبا… لا يستطيع أحد أن يروي تاريخه من دون أن يروي حكاية الطريق التي سلكها هؤلاء الناس. وعندما أروي تاريخ عائلتي، صحيح أنني أحكي عن عين القبو وصنين، ولكن عملياً أجد نفسي أحكي أكثر عن جد أمي الذي كان قاضياً في اسطنبول والذي كان انتقل اليها من صيدا، ثم انتقل في أول القرن العشرين من اسطنبول الى طنطا وولدت أمي في طنطا ثم انتقلت العائلة الى القاهرة وفيها تزوج أبي وأمي. وهناك عمّي الكبير فخري الذي هاجر الى الولايات المتحدة الأميركية والذي كان اسمه حاضراً دائماً في العائلة. وكان يمثل لي لغزاً كبيراً عندما كنت طفلاً. انه العمّ الذي لم نعد نسمع أخباره طوال سنوات، وكبرت على هذه القصة. وأول مرة وصلت أخباره، وكان أمراً مهماً في العائلة، عندما اتصل بنا، وكان لي من العمر ست عشرة سنة، وسافرت جدّتي مستقلة الطائرة للمرة الأولى في حياتها وكانت في السبعين من عمرها، لترى ابنها الذي كان هاجر في العام 1930.
القصة التي اكتشفتها متأخراً هي قصة العائلة في كوبا وقد أخبرني عنها عمّي نصري المعلوف. أخبرني عن عمّه جبرايل الذي هاجر الى كوبا والذي مات في ظروف غامضة، قتلاً أو في حادث ما. اكتشفت قصة العائلة في كوبا متأخراً، وبدت مهمة لي وأصبحت جزءاً من هذا التاريخ. ووجدت في منزل جدّتي رسائل متبادلة بين جدي بطرس وأخيه الذي في كوبا واكتشفت أن بطرس فكّر جديّاً في الهجرة الى أميركا… كلّ هذه القصص تجعلني أقول إن الأهم في تاريخنا هي الطرق. انها أهم من نقطة الانطلاق التي تبدأ منها الطرق عادة.
من هنا جاءت فكرة «أصول»؟
– أجل من هنا جاءت هذه الفكرة.
ولكن كيف تميّز بين «أصول» و «جذور» لغوياً؟
– كلمة «أصول» أو origines عملياً تمثل المنطلق. أي حين نقول origine d’une route أو «أصل الطريق» نعني النقطة التي تبدأ الطريق منها. أما كلمة جذور أو Racines فهي تعني ما يُغرز في الأرض وينمو فيها. «أصول» هي النقطة التي ننطلق منها نحو أمكنة أخرى.
في روايتك الأخيرة نلاحظ أن هناك جدّين: جبرايل وبطرس، وهما يمثلان جدلية البقاء والانطلاق، أي جدلية الجذور والأصول.
– صحيح.
لكن بطرس الذي رفض أن يهاجر هل تعتقد أنه شخص ذو جذور
– طبعاً له جذور، وهذا التمييز لا يعني أنني ضدّ مفهوم الجذور. الأمر الوحيد هو أنني أضع نقطة الانطلاق التي هي الأصول في نطاق أوسع الذي هو الطرق. وأقول ان تاريخنا هو نقطة الانطلاق والطريق التي سلكناها والتي، عملياً، تغطي العالم كلّه.
نعود الى قضية اللغة، إذا كانت العربية كما تقول هي لغتك الأم، فهل الفرنسية هي لغتك الأم بالتبنيّ؟
– الفرنسية لغتي بالتبني، نعم، ولكن ليست لغة أماً. وأعترف بأنه أصبحت لديّ علاقة حميمة بالفرنسية. فخلال ثلاثين سنة في باريس وعلى رغم أنّ لدي الكثير من الأصدقاء اللبنانيين والعرب، إن اللغة التي استخدمها أكثر هي الفرنسية، خصوصاً في الحياة العامة. صارت الفرنسية هي اللغة التي أستطيع أن أعبّر عن أفكاري بها في شكل أسهل وتلقائي. ولكن عندما أقيم فترة في بلد عربيّ ولا سيما لبنان، لأنني في المغرب مثلاً أشعر بأنني ملزم باستخدام الفرنسية، عندما أقيم في لبنان، ترجع التعابير العربية اليّ تلقائياً. لكنني أعبّر بالفرنسية أفضل. فالكلمات التي يستخدمها المرء باستمرار في لغة معينة تأتيه بسرعة أكثر مما في لغة لا يستعملها كثيراً، وان كان يلمّ بها جيداً. اللغة التي يستخدمها الانسان يومياً تمدّه سريعاً وتلقائياً بالمفردات. صارت لدي علاقة حميمة جداً باللغة الفرنسية. وقد تعلّمت صغيراً في مدرسة كانت الفرنسية فيها مهمة جداً. في البيت كانت اللغة هي العربية. وفي عائلتنا تقاليد لغوية عربية ولهذا كنت مرتاحاً في عربيتي. ولكن في المدرسة كانت الفرنسية هي اللغة الأساسية. وبالتالي كانت اللغتان في المستوى نفسه. الانكليزية هي اللغة الثالثة، مع أن لغة الوالد الثانية هي الانكليزية والعائلة في معظمها كانت تنتمي الى جوّ الجامعة الأميركية. ولكن، كما تعرف، الذين تكون لغتهم الثانية انكليزية في لبنان تكون لغتهم العربية قوية وحاضرة، على عكس الذين يجيدون الفرنسية كلغة ثانية، فهم غالباً ما يتحدّثون بها. أنا في لبنان لا أحب أن أحكي بالفرنسية، الا عند الضرورة. وفي العائلة لم نتحدّث أبداً بالفرنسية. وأعترف أنني ما زلت حتى الآن غريباً عمّا يُسمى هنا في فرنسا العامية أو «الآرغو». الفرنسية بالنسبة إليّ، هي لغة تعلّمتها في الكتب. وبالتالي فإنني عندما أحكي بها يفاجأ بعض الفرنسيين، لأن الطريقة التي أحكي فيها هي الطريقة التي تعلّمتها في الكتب وليس عبر الحكي. طبعاً، مع الوقت تتغير الأمور، خصوصاً عبر الصحف والتلفزيون. لكن لغتي أساساً هي لغة الكتب.

هل يزعجك أن تسمّى كاتباً فرنكوفونياً؟
– كلمة فرنكوفونية لا أحبّها. والأهمّ في نظري هو المضمون الذي يأتي به الكاتب. إنني أتصور أن استعمال كلمة فرنكوفونية ليس واضحاً. وعندما يقال لي انني كاتب فرنكوفوني لا أنفعل، لا أقول لا ولا أقول نعم. هذا التعبير لا أستخدمه ولا يأتيني تلقائياً. في اللغة الانكليزية مثلاً، اذا كان الكاتب من نيجيريا أو استراليا أو الهند لا يسمّى انغلوفونياً. والأمر نفسه في اللغة الاسبانية، سواء كان الكاتب من كولومبيا أو اسبانيا أو الأرجنتين وسواها. في اللغة الفرنسية صفة كاتب «فرنكوفوني» أجدها تؤدّي الى نتيجة تخالف النتيجة المقصودة منها، وهي أن تميّز بين كاتب فرنسي وكاتب غير فرنسي باللغة الفرنسية. وعوض أن يجمعوا الكتاب الذين يعبّرون بالفرنسية، يفصلون بينهم. ولهذا أعتبر أن تعبير «الفرنكوفونية» غير موفّق.
شاعر كبير بالفرنسية مثل جورج شحادة منحوه في آخر حياته جائزة الفرنكوفونية!
– صحيح. اعتقد ان الفرنسيين مخطئون بهذا التعبير.
كيف ترى الى تراجع الفرنكوفونية في العالم خصوصاً أمام اللغة الانكليزية؟
– عندما كنت صغيراً، نشأت بين ثقافتين، اضافة الى الثقافة العربية. عائلة أبي تغلب عليها الثقافة الانكليزية، وعائلة أمي تغلب عليها الثقافة الفرنسية، وتعلمت في مدرسة فرنسية. وأتذكّر في تلك الفترة ان اللغتين كانتا في المستوى نفسه تقريباً عالمياً. ولا شك أنّ في العقود الأخيرة حصل تغيّر هائل. وهذا ما ألاحظه دوماً في أسفاري، عندما تصدر ترجمات لكتبي. قبل خمس وعشرين سنة مثلاً كنت أجري مقابلات في اسبانيا مع صحافيين يجيدون في معظمهم الفرنسية. اليوم عندما أذهب الى اسبانيا اكتشف أن ليس هناك أكثر من عشرة في المئة يتحدّثون الفرنسية فيما البقية يتحدّثون بالانكليزية أو بالاسبانية مع مترجم. وهذا ما يحصل في معظم الدول الغربية. ونادراً ما تلتقي شخصاً تحت الخمسين يلمّ بالفرنسية.

الفرنسيون أنفسهم باتوا يستخدمون مفردات انكليزية!
– صحيح، لكنّ هذه الظاهرة طبيعية ولو كان بعض الفرنسيين ينزعج منها. أنا لا أتضايق من هذه الظاهرة. فإذا كان الانسان قادراً على أن يجد مفردات وتعابير تغني عن استخدام كلمات أجنبية فليكن. ولكن ليس من ضرر أن تستعين لغة بلغة أخرى. فالانكليز مثلاً يستخدمون كلمات فرنسية وهذا جميل. ولكن هناك تراجع في حضور اللغة الفرنسية عالمياً. وأتصوّر ان هذا التراجع لا يمكن تفاديه. فاللغة الانكليزية تتطوّر كثيراً كلغة تعامل دولية، ويصعب فعلاً مواجهة هذا التطوّر. وأعتقد أن اللغة التي يمكنها اليوم أن تنافس الانكليزية في بعض مناطق العالم هي الاسبانية. فهناك كل أميركا اللاتينية، ما عدا البرازيل، وهناك وجود لها حتى في الولايات المتحدة، معقل الانكليزية. لكنّ الاسبانية نفسها لا تستطيع أن تلعب الدور العالمي الذي تلعبه الانكليزية. فعندما تذهب الى المانيا أو هولندا أو البلدان الاسكندينافية تستطيع أن تتكلم الانكليزية أمام الجمهور من دون مترجم، لأن الناس صاروا يعرفون الانكليزية. حتى ان بعض الناشرين يحاولون أن يصدروا كتبهم قبل صدورها بالانكليزية، لأن صدورها بالانكليزية يجذب قسماً كبيراً من القراء.

الهوية والانتماء


تقول عن «الهوية» بأنها من الكلمات المضلّلة لأنها من الكلمات الأكثر شفافية والأكثر خيانة! أين تكمن خيانة الهوية؟
– الحقيقة، الناحية المضلّلة في الهوية، هي ان الانسان في أوقات كثيرة، يستعيض عن الهوية بعنصر ما من الهوية، ويعتبر ان هذا العنصر، سواء كان دينياً أو قومياً، يختصر أو يختزل كلّ الهوية، بينما الهوية مركّبة من عناصر عدّة. اليوم نحن في عصر يشهد هذا الاختزال. في عالمنا اليوم ثمة اتجاه لاعتبار ان الهوية يمكن أن تختصر في العنصر الديني أو القومي. ولذلك ميّزت في كتابي «هويات قاتلة» بين الهوية والانتماء. الهوية استخدمها بالمفرد، والانتماء بالجمع أي انتماءات. ومقولة «انتماءات» هي أدقّ في نظري، لأن هناك انتماءات عدة، ولكن ليست لها كلها الأهمية نفسها. بل لها درجات من الأهمية. والانتماء الذي اعتبره الأهمّ في مرحلة معيّنة قد يصبح أقل أهمية بعد مرحلة تالية. هناك أناس يعتبرون أن انتماءهم الاجتماعي قبل عشرين سنة كان أهمّ من انتمائهم الطائفي. اليوم ثمة أناس يعتبرون ان انتماءهم الى وطن معيّن أهمّ من انتمائهم الى طائفة ما. وثمة أشخاص يبدّلون قـناعـاتهم ازاء انتماءاتهم المختلفـة. بلد مثل العراق تختلف فيه مشاعر الناس في مرحلة معيّنة، كمرحلة الحرب بين العراق وايران، عن مشاعرهم اليوم. ثمة انتماء أخذ أهميّة هائلة ربما قبل عشر أو خمس عشرة سنة ولكنه لم يبق الآن على الأهمية نفسها. واذا أراد الانسان أن يكون صادقاً مع نفسه، يقول ان انتماءاته هي كذا وكذا وكذا… لكنّ هذا التعدّد يدخل في المجال العقلاني أكثر مما يدخل في المجال العفوي. وأنا أقول مثلاً إنّ كل ما يشكل جزءاً من لبنان انتمي اليه من خلال انتمائي الى لبنان.
لا يستطيع قارئك أن ينكر أنّ عالمية أمين معلوف أصبحت أوسع من هويته المحدّدة. فأنت الآن مترجم الى الكثير من اللغات العالمية، ولم تعد من مشكلة لديك في أن تكون لبنانياً أو فرنسياً، بعدما أصبحت كاتباً من العالم! ما تعني لك هذه الصفة؟
– فعلاً، لدي شعور بالانتماء الى العالم، لكن هذا الانتماء هو أحد الانتماءات ولا ينفي الانتماءات الأخرى. انه لا ينفي انتمائي الى لبنان مثلاً ولا انتمائي الى فرنسا. اننا الآن في وضع يحتم علينا أن نشعر ازاء أمور كثيرة بالانتماء العالمي. اذا أخذنا مسألة التحوّل في المناخ مثلاً، نجد أن الانسان مضطر الى أن يتعامل معها لكونه ينتمي الى الأرض. وما يحصل في أي بقعة منها يهمّه ويهمّه كثيراً. هناك أيضاً مسألة حقوق الانسان… أمور كهذه تجعل الانسان مواطناً من العالم. ولكن لا يمنع أن يتعامل مع أمور أخرى انطلاقاً من انتمائه الى وطنه. اذا حصلت أحداث في لبنان، لا أستطيع أن أقول انني مواطن من العالم ولا علاقة لي بها. طبعاً لي علاقة بها. وعلاقتي بهذه الأحداث ليست مثل علاقتي بأحداث الفيليبين التي تعنيني أيضاً ولكن في طريقة مختلفة. وأخيراً اعتقد اننا في حاجة الى اعادة بناء فكرة الهوية والانتماء. يفترض بالهوية أن تكون ذات مستويات مختلفة وكل هذه المستويات مهمة.
هل فعلاً لم تعد تشعر بأنك «غريب» أينما كنت نظراً الى انك انسان أولاً ومتوسّطي ثانياً؟
– عندما أقول مثل هذا الكلام، أكون أتمنى ألا أشعر بأنني غريب حيث أكون، وأتمنى أيضاً ألا يحس أي انسان هذا الاحساس بالغربة أينما كان على وجه الأرض. لكنّ الحقيقة مختلفة، فحيثما كنت، أشعر بأن هناك أموراً لست غريباً عنها البتة، وهناك أمور أحس بغربتي حيالها، سواء كنت في فرنسا أو لبنان وسواهما. هناك لحظات أشعر فيها بأنني منتمٍ، ولحظات بأنني غريب.
الى أي قارئ تشعر بأنك تتوجّه عندما تكتب؟ الى القارئ اللبناني أم الفرنسي أم «العالمي»؟
– أفكر بالقارئ في شكل عام، لكنني لست من الكتّاب الذين يقولون نحن نكتب وليتدبّر القارئ أمره. يهمني القارئ، يهمني أن يواكبني في كل خطوة أقوم بها. لا أتركه وأقول له: ان كنت قادراً على أن ترافقني فرافقني… لا. لكنني لا أفكر بقارئ من انتماء واحد. أولاً لأنني منذ أن بدأت الكتابة، لا أحبّ أن أحصر قرائي في فئة معيّنة. حتى اذا كنت في لبنان فلن أكتب الى قارئ معيّن بل الى قراء لهم ذائقات مختلفة، وانتماءات مختلفة، ولهم كذلك مشاعر مختلفة. وعلاقتهم بالحدث هي مختلفة أيضاً. انني أكتب مدركاً تماماً انني لا أكتب الى قراء لديهم المشاعر نفسها. عندما انتقلت الى باريس عملت في مجلة «جون أفريك» (أفريقيا الشابة). هذه المجلة توزع في عشرات الدول، وعندما كنت أكتب مقالاً فيها كنت أعرف أنّ ثمة من يقرأني في المغرب أو في جنوب أفريقيا أو في باريس أو السنغال… وبالتالي كان علي أن أكتب مقالاً، أياً كان موضوعه، مدركاً أنني أكتب لقراء يختلفون من بلد الى آخر، ويجب عليهم أن يواكبوني في ما أكتب. عندما أكتب رواية أدرك أنها ستقرأ بالفرنسية والاسبانية والعربية والتركية وسواها، وبالتالي لا أتوجّه الى فئة معيّنة ولا الى أناس يملكون لغة معيّنة. وهذا أمر يحصل تلقائياً.
هل خطرت في بالك فكرة أن تكتب روايتك بلغتين، الفرنسية والعربية، مثلما كان يفعل صموئيل بيكيت عندما يكتب أعماله بالفرنسية والانكليزية؟
– فكّرت بالأمر. لكني لا أستطيع أن أترجم أعمالي. ربما أستطيع أن أكتب, باللغتين. بيكيت، صحيح، لم يكن يترجم أعماله بل كان يكتبها باللغتين. ميلان كونديرا كان يترجم كتبه من اللغة التشيكية الى الفرنسية، لكنه عندما بدأ يكتب بالفرنسية شعر بأنّ ترجمات كتبه بالفرنسية لم تكن جيّدة، فأعاد هو ترجمتها بنفسه. هذا أمر لا أستطيع أن أقوم به. وعلاقتي بالنص أصلاً لا تسمح لي بمثل هذا الأمر. عندما صدر أول كتبي، «الحروب الصليبية كما رآها العرب» طلبت مني مجلة، أن أترجمه الى العربية وأنشره على حلقات. قلت انها فكرة جميلة، بدأت ومنذ الصفحات الأولى وجدت نفسي عاجزاً. لماذا؟ لأن الشرط الأساسي في الترجمة هو احترام النصّ. واحترام النصّ يطرح على المترجم سؤالاً: ماذا يريد الكاتب أن يقول وكيف يكون بالتالي نقل ما يريد الكاتب أن يقوله؟ كنت أيام الدراسة أحب الترجمة، وكانت الترجمة من أجمل الموادّ. لكنني لا أتعامل مع نصّ لي في الطريقة نفسها مع نصوص الآخرين. هكذا وجدت نفسي كأنني أكتب كتاباً آخر ومختلفاً. كلّ جملة ترجمتها لم أقل فيها ما يريد الكاتب، الذي هو أنا، أن يقوله ولا كيف عليّ أن أكتبها. بعد ترجمة بضع صفحات وجدت أنني أكتب نصّاً ثانياً، فتوقفت للفور. اذا كتبت بالعربية أكتب أشياء مختلفة عمّا كتبت بالفرنسية. وهذه الفكرة تلحّ عليّ دوماً ولا أعرف ان كنت سأنفّذها في يوم ما. الفكرة موجودة منذ أربع أو خمس سنوات. قد أكتب ولكن لا أعرف متى.
ألا تشعر بأنك في حاجة الى موقع ما أو الى سياق تُدرج ضمنه أو الى حركة تنتمي اليها؟
– ربما لأنني خرجت من البلد الذي ولدت فيه ونشأت، أتصوّر أنني قبلت في أن أكون خارج أي اطار. عندما تركت المجتمع الذي نشأت فيه، لم تبق لدي المرتكزات نفسها في هذا المجتمع. ولم أتبنَّ أي مرتكزات في أي مجتمع آخر. وبالتالي فأن نزعة الانزواء التي كانت موجودة فيّ منذ صغري، وقد عرفت بها كثيراً، ما زالت موجودة فيّ حتى الآن. كنت في مرحلتي الأولى أدخل غرفتي ولا أخرج منها، أتمدّد على السرير وبين يدي كتاب، واذا انتهيت منه آخذ غيره. وكنت قليل الكلام، أفضل الاصغاء على الحكي. يسألني بعض الأصدقاء كيف تتحمل حال الاعتزال طوال أشهر، فأقول لهم: انها الكتابة تحملني على العزلة التي أحبها أصلاً. ويمكنني أن أبقى مدّة طويلة في مثل هذه العزلة خصوصاً عندما استسلم لها وأنسى كلّ شيء. لا تزعجني العزلة البتة. ربما لذلك لا أسعى الى أن أنتمي الى تيار معين أو مدرسة. هذه الأمور هي تصنيفات آنية تساعد الكاتب والقارئ بدوره على ادراك موقع هذا الكاتب في المشهد الأدبي. وأرى أن على الكاتب أن يكتب من دون أن يبحث عن موقعه، وما دام قادراً على الكتابة، فليكتب، وهذا هو المهم. والمهم أن يتقدم ويتطور من كتاب الى آخر.
اذا سألتك عن أسلافك كروائي فمن تراهم يكونون؟ بمن تأثرت عربياً وأجنبياً؟
– هناك كتّاب أشعر بقرابة معيّنة معهم، وفي الوقت نفسه، أعلم أن ما أكتبه له علاقة بما كتبوا هم. هناك كتّاب أثروا فيّ بل شجعوني على الكتابة أو خلقوا فيّ الرغبة في الكتابة. ولكن لا أعتقد أن هناك رواية من الروايات التي كتبتها لها علاقة مباشرة بأدبهم. مثلاً، عندما كنت صغيراً، أعتقد ان الكتاب الذي فتح لي آفاقاً هو «رحلات غيليفر» وقرأته بالعربية في سلسلة كان يصدرها كامل كيلاني بعنوان «أولادنا». في هذا الكتاب اكتشفت امكانيات الكتابة الروائية. لكنني أعرف أن ما من رواية كتبتها مستوحاة من هذه «الرحلات»، لكنها ولّدت لديّ رغبة كبيرة في الكتابة الروائية. وهذه الكتابة ليست من تقاليد عائلتنا. فالعائلة كانت تضمّ شعراء وصحافيين وأدباء وليس روائيين. والدي كان يسرد علينا الكثير من الأخبار والمرويّات، لكنّه عندما يكتب لم يكن يكتب قصّة، كان يكتب الشعر والمقالات والنقد، أما الرواية فلا. ما من مرّة خطر له أن يكتب قصّة قصيرة أو رواية. قراءاتي جعلتني أرغب في الكتابة وفي الكتابة المتخيلة. ومن الذين قرأتهم: شارل ديكنز، مارك توين… في فترة لاحقة قرأت: ستيفان زيفيغ، توماس مان، تولستوي وهو بالنسبة إليّ أعظم العظماء…
ودوستويفسكي؟
– أكيد، وأكن له احتراماً كبيراً، لكنه يأتي بعد تولستوي. تولستوي يهفّ له قلبي أكثر. واذا سألني أحد أن أذكر له كتاباً في شكل تلقائي، أقول «موت ايفان» لتولستوي. في هذا الكتاب نوع من الكمال.

 

الرواية التاريخية

هل قرأت جرجي زيدان مثلاً في الفترة الأولى وهو أبو الرواية التاريخية عربياً؟
– من زمان. وما زلت أذكر بضع روايات مثل «فتاة غسان» و «المملوك الشارد»… ولكن لا أستطيع أن أقول إنه أثر فيّ مباشرة. ربما أثّر، لا أستطيع أن أجزم. حتى عندما أقول «رحلات غيليفر» لا أستطيع أن أجزم أنّه أثر فيّ ذلك الحين. الآن اكتشف أثر «غيليفر» ولكن في الفترة الأولى لم أكن أعرف ذلك. ولكن أتذكّر اللذة التي تركها فيّ ذلك الكتاب عندما قرأته.
هل أفهم من كلامك أنك لم تقرأ كثيراً أدباً تاريخياً؟
– لا، ليس كثيراً. الحقيقة، لم أكن يوماً هاوياً للروايات التاريخية. انني هاوٍ للرواية وهاوٍ للتاريخ. وبالتالي أمزج التاريخ في الرواية. لم تكن هذه فكرتي في الأساس ولا كان هذا مشروعي. ولكن لديّ شغف بالتاريخ يقابله شغف بالرواية، والتقى هذا الشغفان بعضهما ببعض.
قلت مرّة: «ليس من الجيّد تحريف التاريخ حتى وان اعتقدت بأنك تحرّفه في طريقة جيدة». هل يستطيع الروائي في رأيك ألا يتحايل على التاريخ وألاّ يحرّفه لمصلحة الرواية؟
– الحقيقة، ما أقصد قوله بالتحديد هو: اذا قلت أنك تتعاطى مع التاريخ، حينذاك يجب أن تتعاطى مع التاريخ بدقّة وصدق. سواء كنت مؤرخاً أم غير مؤرّخ. لديّ مثل في هذا الخصوص: هناك فيلم أخرجه أوليفر ستون عن اغتيال كندي، عندما شاهدته تضايقت، لماذا؟ لأنّه في لقطات معيّنة يبرز شخص (ربما هو جونسون) ويقول كلاماً خطراً يعطي انطباعاً أنّ له علاقة بالاغتيال. تسأل المشاهدين عن الأمر، فيقولون: هذا سرد أو هذا خيال. لا أدري كيف يمكنك أن تعتمد السرد وتأتي بشخص تاريخي يقول: أنا قتلت فلاناً. السرد الروائي هو سرد، تستطيع أن تبني قصّة تكون قصّة في اطار تاريخي. ولكنك لا تستطيع أن تمزج بين التاريخ والرواية فلا يعود القارئ، أو المشاهد، قادراً على أن يميّز بين الحقيقة والخيال. هذا ما قصدت اليه في كلامي عن تحريف التاريخ. عندما تقول انك تتعاطى مع التاريخ، يجب أن تتعاطى مع التاريخ. تستطيع أن تحوّر في مسار التاريخ أو معطياته ولكن يجب أن تقول إن هذا سرد روائي. وحينذاك لا تأخذ شخصاً ما زال حياً أو مات قبل فترة وتنسب اليه أفعالاً لم يقم بها. تستطيع أن تفعل هذا، اذا كنت تملك وثائق تدلّ على الأحداث. حينذاك تستطيع أن تعمل انطلاقاً من الوثيقة. هذا ما أقصده تماماً. عندما يبتعد، كاتب الرواية، أربعمئة سنة أو خمسمئة يستطيع أن يبتدع ويخترع. ولكن حتى هذا الأمر يظل موضع نقاش. أتذكر فيلماً أميركياً نسيت اسمه، من شخصياته الرئيسة لويس الرابع عشر في شبابه. صوّر الفيلم في قصر فرنسي يعود الى تلك الفترة. كان على الجدار لوحة تمثل لويس الرابع عشر عجوزاً، ولم ينتبه المخرج لهذه اللوحة فصوّر لويس الرابع عشر شاباً أمامها. اذا كانت اللقطة مقصودة فهي جميلة حقاً. ولكن اذا لم تكن مقصودة فهذا خطأ فادح، وهذا ما أقصده. اذا أردنا التعامل مع التاريخ يجب أن نتعامل معه بدقة. والهدف من تناول التاريخ هو أن تنقل شيئاً صحيحاً، أن تنقل معلومات صحيحة.
كيف تتحوّل المادّة التاريخية مادّة روائية أو كيف تتداخل هاتان المادتان الواحدة بعد الأخرى؟
– لأقل شيئاً: إنني في رواياتي في شكل عام، عندما آخذ شخصية تاريخية معيّنة، تكون الأمور المعروفة عنها تاريخياً محدودة. هذا ما فعلته مع ليون الأفريقي ومع عمر الخيام أو ماني. آخذ الأشياء الثابتة تاريخياً وهي غالباً يمكن ايجازها في عشرين صفحة. لكنني أجرّب أن أقرأ كل ما أستطيع أن أجده عن تلك المرحلة، تاريخياً واجتماعياً وسياسياً… وعندما أحكي عن هذه الشخصية أحاول قدر الامكان أن أحترم الأمور المعروفة عنها. وعندما أتكلم عن المرحلة أحترم أيضاً الأمور التي حصلت فعلاً في تلك المرحلة. مثلاً لا آتي ببطل من الهند وأجعله يحتل طهران. هناك أسطورة قديمة تقول ان عمر الخيام وحسن الصباح ونظام المُلك درسوا على المعلّم نفسه. هذه اسطورة قديمة، وواضح انها غير صحيحة لأن نظام الملك كان أكبر منهما بعشرين أو ثلاثين سنة. وعلى رغم هذا، انتشرت هذه الأسطورة وصار لها أساس ولو في ذاكرة الناس. حاولت أن أتحقق إن وجد هؤلاء الأشخاص الثلاثة في مرحلة معيّنة في المكان نفسه، ووجدت أن هناك مرحلة واحدة، جمعتهم ثلاثتهم في أصفهان. في هذا الاطار بنيت الرواية. وأكيد ان ما سردته في «سمرقند» هو رواية. لكنني ضمن اطار الرواية هذه حاولت الى أقصى حد، ألا أرتكب أي خطأ من الناحية التاريخية.

وماذا عن باخرة «التيتانيك»؟
– التيتانيك! مَن كان موجوداً على متنها؟ كانت هناك طبعة «رباعيات» الخيام، ولكن ليست الأصلية، فالأصلية غير موجودة. لكن أحد الأثرياء الأميركيين كان يحمل معه على الباخرة نسخة من ترجمة المستشرق فيتزجرالد لـ «الرباعيات»، وهي مرصّعة بالذهب واللالئ. غرقت السفينة ولم توجد هذه النسخة حتى الآن، وكان يقال ان هذه النسخة ثمينة جداً. وانطلاقاً من هذا الحدث التاريخي بنيت حكاية أخرى، هي حكاية الكتاب الأسطوري.
ختاماً أحب أن أقول انني هكذا أتعامل مع التاريخ ومع الرواية. وهكذا أشعر بأنني مرتاح في هذا التعامل معهما. لكنني لا أقول إن كلّ شخص يريد أن يتعامل مع التاريخ والرواية يجب أن يراعي الأصول. أنا هاوٍ للتاريخ ولديّ شغف به ولدي شغف بالرواية، وأحاول أن أزاوج بينهما على طريقتي، ولكن لا أقول ان هذه هي الطريقة الوحيدة.
يقول الناقد جورج لوكاش ان الرواية التاريخية تجد ذريعتها في الواقع أو الحاضر المأزوم الذي يدفع الروائي الى استعادة الماضي ليلقي في ضوئه نظرة على الحاضر! ما رأيك في هذا القول؟ وهل يعنيك؟
– صحيح كلّياً. لكنني أقول ان هذا القول لا ينطبق فقط على الرواية التاريخية. كتابتنا للتاريخ هي مقاربة لفهمنا للتاريخ اليوم وكما نحتاج اليه اليوم. التاريخ بحدّ ذاته غير موجود. هناك كمية لا نهاية لها من الأحداث. اننا ننتقي من كلّ مرحلة تاريخية ما نعتبر أنه يملك معنى. وهو معنى يختلف عن المعنى الذي كان يقال به قبل مئة سنة أو مئتين. ثم نعطيه تفسيراً وسياقاً يعنيان لنا شيئاً ما. فنحن في الحاضر، اليوم واهتماماتنا مختلفة. وكلما نظرنا الى التاريخ ننظر اليه في طريقة تجعله يصل الينا نحن المعاصرين. لذلك حين نتحدث عن الرومان اليوم يختلف كلامنا عن كلام الذين تحدثوا عن الرومان في القرن السادس عشر وما قبل. الأحداث نفسها يصبح لها على مرّ الزمن، معنى آخر. وهذا صحيح للرواية التاريخية مثلما هو صحيح للتاريخ أيضاً.
ألا تعتقد أن المسافة تتسع اليوم بين الرواية والتاريخ ولكن من دون أن تنقطع الأواصر بينهما، خصوصاً بعد تطوّر الرواية نفسها وكذلك الكتابة التاريخية نفسها؟
– أرى ان العلاقة بين الخيال والتاريخ قديمة جداً. منذ بدايات الأدب كانت هناك علاقة بين التاريخ والأسطورة والخيال. اذا أخذنا «الإلياذة» مثلاً نجدها مزيجاً من العناصر الثلاثة. وكذلك اذا أخذنا شكسبير. أتصوّر أنّ هذه العلاقة موجودة منذ بداية الأدب في العالم. عندما يكتب المرء رواية أتصوّر أن واجبه الأول ليس تجاه التاريخ، بل تجاه المقاييس الفنية والجمالية. ليس هناك واجب علمي بل هناك واجب فني أو جمالي. التساؤل لا يكون حول الطريقة التي أُدخل فيها التاريخ الى الرواية بل كيف عليّ أن أدخله ووفق أي فن. واذا للتاريخ محلّ في سياق الرواية أو حيّز معيّن فأهلاً به، واذا لم يكن له محلّ أو حيّز فليس من الضروري أن يدخل. شخصياً أحبّ التاريخ كثيراً، وأحبه كهاوٍ، ولهذا تجده حاضراً في رواياتي، ولكنني في الوقت نفسه أجعله في بعض الروايات كخلفية بعيدة.
كتابك الأول «الحروب الصليبية…» يغلب عليه الطابع التاريخي الصـرف علماً أنه لا يخلو من السرد!
– في هذا الكتاب نوع من الالتباس، فهو ليس رواية، مع أن المقدمة تقول انه رواية حقيقية. ثمة سرد في هذا الكتاب، ولكن ليس فيه أي عنصر روائي أو خيالي ولا شخصيات روائية أيضاً. بعضهم يقولون لي انه رواية، هكذا يظنونه ربما لأنني أصدرت بعده روايات عدّة. وبات الكثيرون يظنّونه رواية، لكنه ليس رواية أبداً. جاء في المقدّمة أن هذا الكتاب ينطلق من فكرة بسيطة هي سرد قصة الحروب الصليبية كما نظر اليها وعاشها وروى تفاصيلها الجانب العربي. لعل هذا الكلام هو الذي جعل الالتباس يقوم في شأن هذا الكتاب.
التاريخ لديك واسع ومتعدّد، وكل رواية تتناول تاريخاً معيناً. لماذا لم تركّز مثلاً على تاريخ واحد مثلما فعل بعض الروائيين؟ لماذا هذا التعدّد؟
– ربما لو كنت مؤرخاً لكنت اهتممت بمرحلة معينة، ولحصرت اختصاصي بها وتعمقت فيها. أنا هاوي تاريخ، وعندما أركز على مرحلة أدرسها جيداً وأقرأ عنها. مثلاً عندما بدأت العمل على الحروب الصليبية لم أكن أعرفها تمام المعرفة، فرحت أقرأ وأبحث وتفرّغت سنتين لجمع المادّة. وشيئاً فشيئاً تكوّن الكتاب. عندما أدخل مرحلة من هذا النوع أقضي فيها ثلاث سنوات، ثم تلحّ عليّ رغبة في الخروج منها الى مرحلة أخرى والى قرن آخر. ومن أصعب الأمور لديّ أن أكتب مجدّداً عن حدث حصل في المرحلة نفسها والمكان نفسه. لذلك أنتقل من تاريخ الى آخر.
وأجمل المراحل في الكتابة هي المرحلة التي يكتشف الكاتب فيها حضارة معينة أو قرناً معيناً. وليس لديّ أيّ ادعاء في أنني سأصبح اختصاصياً بهذا القرن أو ذاك. بل على العكس أحب أن أظلّ هاوياً في مادّة التاريخ، أهتم بشخصية معيّنة أو حقبة معيّنة وأحاول أن أعرف عنهما قدر ما أمكنني وأكتب رواية في هذا الجوّ الرحب: ايران وآسيا الوسطى ولبنان. عندما أكون منكباً على كتابة رواية تكون هذه الرواية كاملة في ذهني تقريباً، وأعرف حتى أدقّ التفاصيل فيها. ولكن عندما تصدر الرواية في شكل كتاب، تسعون في المئة من المادة أنساها. وأبدأ الاهتمام بالأشياء التي لها علاقة بالكتاب المقبل.

 

شرق وغرب

..
كتابك «حدائق النور» الذي تناول شخصية ماني، اكتفيت فيه بهذه الشخصية الملتبسة وتحاشيت الخوض في العقيدة المانوية؟ لماذا لم تتطرّق الى هذا الدين؟
– الحق معك. الأمر الذي استهواني أولاً هو الجوّ الذي عاش فيه ماني والمرحلة، ثم علاقته بالدين مطلقاً وبالأديان الأخرى. لكن مضمون دينه الخاص لم يستهوني. التقليد الثنائي القائم على الصراع بين عنصرين، الظلمة والنور مثلاً، لم يجذبني لأتوقف عنده. لو شئت أن أتكلم عن هذا الدين من الداخل لكان عليّ أن أفرضه على نفسي. فالمانوية ليست عقيدتي ولا اعتبرها انجازاً أساسياً. الانجاز كان أن ينشئ ماني ديناً لا يتناقض مع الأديان الأخرى بل يواكبها. لكنّ التقليد الثنائي الذي يمثله ماني والذي تواصل لاحقاً من طريق الكاتار والبوغوميل، لا أشعر بأنني على علاقة به. ثمة نوع من المزايدة الزهدية على الأديان الأخرى. لكنّ لديّ عطفاً كبيراً على المانويين بعدما عانوا الكثير من الاضطهاد والقمع والقتل. الا ان نظرتهم الى الدين كانت عقيمة الى حد ما، وأنا أفضل الأديرة الغربية التي كانت تحصل فيها كل الارتكابات الدنيويّة وكانت فيها حياة وكانت فيها ثقافة تنتقل من دير الى دير. ولا ننسى ان المانوية كانت ضدّ العلاقة الجنسية الى درجة التزمت حتى بدوا كأنهم ضدّ استمرار النسل. هذا هو منطقهم. هذا الجانب لا يستهويني بتاتاً.
يبدو لي أن سرّ العمل الروائي لديك يكمن في قدرته على المزج بين روح الحكاية الشرقية والفن الروائي الغربي: كيف تفسّر هذه المعادلة؟
– أتصوّر أن هذه المعادلة ليست ناجمة عن سيرورة واعية. أكيد أن مشاعري منطلقة من الشرق، أي عملياً من كل القصص والحكايات التي سمعتها في طفولتي والتي سردها علينا والدي خصوصاً قصص الشعر والشعراء مثل امرئ القيس والمتنبي وسواهما، اضافة الى قصص الحكام والخيال والطبيعة، وهذه تعود الى تراثنا الشرقي الذي نعرف منه الكثير. وفي الوقت نفسه تبدو طريقة كتابتي عقلانية. ولا أخفيك أن عقلي منهجي أو ديكارتي فيما مشاعري آتية من تاريخنا. لا أحاول أن أجمع بين هذين القطبين جمعاً مصطنعاً ولكنهما يجتمعان في شكل طبيعي. فعندما أكتب يكون التأثير الأساس في شكل الكتابة هو تأثير قراءاتي الروائية الغربية. مع أن قراءاتي الأولى للآداب العالمية كانت في ترجمات عربية بديعة. وهذا أثّر فيّ كثيراً. كانت تلك الروايات مترجمة الى العربية لكنّ بناءها هو بناء أوروبي كما تجلّى خصوصاً في القرن التاسع عشر. أكيد أن كتابتي الروائية متأثرة بهذه الروايات لكنّ المضمون هو شرقي. هذا التزاوج كان طبيعياً وعفوياً منذ أن بدأت الكتابة.
يشعر القارئ بأنك في بعض رواياتك تستعيد «الدهاء» الحكائي الذي عُرِفت به «ألف ليلة وليلة». هل توافقني على كلمة «الدهاء» الحكائي الذي يعتبره جورج لوكاش من خصوصيات الفن الروائي؟ ثم هل أثرت بك «ألف ليلة وليلة»؟
– قلت ان والدي لم يكن يكتب روايات وقصصاً، ولكن كانت لديه قدرة على أن يروي شفوياً قصص الضيعة والشعراء. ومن الأكيد أنني استوحيت طريقة السرد لديّ من الحكايات التي كان يرويها لنا. عندما أكتب أضع نفسي في محل القارئ. أنا انسان يملّ بسرعة، واذا كنت أكتب وشعرت بشيء من الملل لا أقول إن على القارئ أن يتحمّل بل على العكس، اذا أنا أدخلته في نفق فهذا يعني أنني أنا لا أعرف كيف أقوده الى الطريق الصحيح. إنني أحاول أن أرافق القارئ وأسرد له الحكاية مثلما أحب أنا أن أسمعها. ولا أعتقد أنني تأثرت بـ «ألف ليلة وليلة» وبشهرزاد تحديداً. قرأت «ألف ليلة…» ولكن لم يتشكل لدي شعور بأنها أثرت فيّ. وما حققته شهرزاد في مقاومة الموت عبر فعل القصّ، وفي إحداث التشويق عبر قطعها سياق الحكايات، مثل هذه الأمور أحببتها ولكن لم تنعكس على روايتي. أتصوّر أنّ من أساس الفن الروائي أنّ القارئ عندما يصل الى نهاية فصل، يجب أن يكون قد دخل الفصل التالي. لذلك عندما أنهي فصلاً معيّناً لا أتوقف عند نهايته بل أتوقف في أول مقطع من الفصل الذي يليه. فالتوقف في نهاية الفصل أصعب، لأنّ مواصلة الكتابة حينذاك تحتاج الى مزيد من الجهد. وحينذاك يواصل الكاتب سرده منطلقاً من بداية الفصل الجديد. وهذا الأمر يأتي تلقائياً. ما من مرّة أقول إنّ عليّ أن أُدخل عنصراً معيّناً في طريقة مصطنعة. انني أسرد القصص مثلما أحبّ أن أسمعها وشعوري أنّ من علّمني أن أسردها، هو أبي من جهة، ومن جهة ثانية هي القراءات.
يطغى حضور الراوي في أعمالك ويحلّ هذا الراوي أحياناً محل الكاتب كما في «سلالم المشرق». انها لعبة «المراوغة» السردية بحسب العبارة النقدية، كأن تقول: «لا تحمل هذه الرواية شيئاً منّي». البطل يروي والراوي يكتب. كيف تشرح ظاهرة «الراوي» في أعمالك الروائية؟
– صحيح، هناك مراوغة. وصحيح أن لديّ راوياً وأحياناً تكون لديّ رغبة في خلق شخصية الراوي. انه يغويني. وأتصوّر السبب الرئيس هو أنني لا أحبّ أن أقول أنا. عندما أقول أنا أحب أن يتبيّن أنَّ ليس المقصود أناي الذاتية بل أنا آخر. الراوي يعطيني إمكاناً ليس فقط لأزيح قليلاً عن شخصي بل هو يسمح لي أيضاً أن أروي ما حدث وأن ابتعد عن الذي حدث، وأقدم صورة أوسع عنه. دور الراوي إذاً أحتاج اليه دوماً، فهو يتيح لي أن أبتعد عن الشخصيات لأقول أشياء لا تستطيع الشخصيات نفسها أن تقولها. وهكذا أقول هذه الأشياء في طريقة ليست شخصية تماماً ولا غير شخصية تماماً. هناك روائيون يضعون أنفسهم محلّ بعض الشخصيات، وروائيون يضعون أنفسهم محلّ الرواة، فيسيطرون على وجهة نظر الشخصيات وعلى سير السرد الروائي. أما المؤلف فهو شخص ليست له مكانة داخل الرواية. الراوي في نظري هو وسيط يملك القدرة على أن يقول شيئاً ما، من دون أن يملك السلطة التامة للروائي أو المبدع.
تمثل أعمالك في معظمها نموذجاً للتسامح واحترام ثقافة الآخر والتلاقي والحوار، لا سيما بين ثقافات المتوسّط! ماذا يعني لك هذا «التوصيف» لأعمالك؟ علماً أنّه أقرب الى التوصيف الأخلاقي أو «الاتك» ولا علاقة له بالفن الروائي. هل وظيفة العمل الروائي أن يصالح ويتسامح؟
– اعتقد أن وظيفة العمل الروائي هي أن يبني عالماً آخر، وأن يساهم في التقارب بين الناس والتلاقي والحوار، وليس في زرع الشقاق بينهم… طبعاً هذا لا يكفي، فإلى جانب الأخلاقي أو «الاتيكي» هناك الجانب الاستيتيكي أو الجمالي. وحين يصطدم الجانب الأخلاقي بالجانب الجمالي، وهذا يحدث، يبقى الانسان حائراً. هناك كتّاب كبار تقود كتاباتهم في اتجاه تدميري، وهذا لا يعني أن أدبهم يجب أن يُرفض أو يمنع. شخصياً، وبحكم منشأي وبحكم مسؤوليتي كإنسان لبناني لا يمكنني أن أكتب ما يؤدّي الى الكراهية والحقد. وهذا بالنسبة إليّ أساسيّ وإن كان لا يكفي كما قلت. أما عن أملي بالتعايش والتسامح فهناك دائماً فرق بين ما أتمناه وما أراه ويحصل. ولسوء الحظ، اذا نظرنا الى ما يحصل الآن في العالم يتبيّن لنا بوضوح أن الأمور لا تتجه نحو المزيد من التسامح والتعايش. واعتقد أن من واجب الكاتب أن يقول الحقيقة. وما أتمناه أيضاً هو ألا يحدث صراع حضارات. وعلى الكاتب أن يعترف أحياناً بأن التاريخ يتجه اتجاهاً آخر، وعليه أن يعترف أيضاً بأنه من الخاسرين. في عالم اليوم لا أشعر بأنني في معسكر المنتصرين، بل في معسكر المهزومين الذين خابت آمالهم. وشعوري بأن العالم الذي حلمت وأحلم به ليس هو العالم الذي أراه الآن. ولسوء الحظ أيضاً أنني لا أرى أنّه العالم الذي سيعيش فيه أبنائي وأحفادي.

 

بتصرف عن “الحياة اللندنية”
Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail