المسكون بالحنين أنطونيو تابوكي (1943-2012)

صباح الأحد 25 آذار 2012, غيّب الموت الكاتب الإيطالي أنطونيو تابوكي، الذي يعد من أهم الرموز الأدبية والأكاديمية في أوروبا

 

جمانة حداد*

 

أنطونيو تابوكي رجل يؤمن بالمصادفات، في الكتابة والحياة على السواء، وما قصّة لقائنا سوى لحظة قدرية تكاد لا تصدّق، لكأنها فصل من كتاب لم يكتبه بعد، وربما سيكتبه في احد الأيام.

لم “يتدلل” الكاتب الايطالي الكبير على فكرة الحوار. منذ محاولتي الأولى للاتصال به أرسل إليّ فاكسا يعبّر فيه عن موافقته على المشروع، فضلا عن امتنانه لاهتمامنا بأعماله. كان يومذاك يقضي عطلة صيف العام الفائت في البرتغال، وطنه الثاني، كعادته كل سنة، وكان ينوي، فور انتهاء العطلة في أيلول، أن يدرّس شهرين في جامعة سيينا في إيطاليا، قبل أن يسافر في أوائل تشرين الثاني الى الولايات المتحدة، لكي يحاضر فصلا كاملا في إحدى جامعاتها. ولمّا لم يكن السفر الى صيف البرتغال وخريف إيطاليا وشتاء أميركا ممكنا بسبب اعتبارات عملية، اتفقنا على اللقاء في ربيع هذه السنة في باريس، التي كان تابوكي مصمما على أن يمضي فيها بعض الوقت إثر عودته من الولايات المتحدة. أعطاني الكاتب أرقام ها! تفه في كل من لشبونة وسيينا وباريس، واتفقنا على ان اتصل بوكيلته في أوائل العام الجديد، درءا لأي تغييرات قد تطرأ على جدول مواعيده لسنة 2005.

في الثامن من شهر تشرين الثاني 2004، عند حوالي الساعة الثامنة والنصف مساء، فتح انطونيو تابوكي باب شقته الباريسية في منطقة السان جرمان، ودخل. كان متعبا ومنقطع الأنفاس لأنه اضطر الى صعود السلالم مشياً، وشقّته تقع في الطابق الثالث. همّ بوضع حقيبته الصغيرة على الأرض ليكبس ازرار الكهرباء، عندما رنّ فجأة جرس الهاتف في صمت المكان المعتم. تعجّب تابوكي، فهو لم يقل لأي من أصدقائه الباريسيين إنه آت، وزوجته خابرته للتو على هاتفه الخلوي. فمن يكون المتصل؟ في الثامن من شهر تشرين الثاني 2004، عند حوالي الساعة الثامنة ونصف مساء، كنتُ في أحد التاكسيات في شوارع باريس المزدحمة، عائدة من لقاء عمل، أشغل الوقت بالاتصال بأصدقائي واحدا تلو آخر لكي أعلمهم بوصولي الى المدينة. لا اعرف لماذا خطر أنطونيو تابوكي على بالي في تلك اللحظة. هل أتصلُ بمنزله؟ فكّرت أنه في الولايات المتحدة، فما فائدة الاتصال وفرص تواجده في باريس معدومة تماما؟ ترددتُ لبضع دقائق، ثم قلتُ في سري: ماذ! ا اخسر؟ فلأحاول!

الرنة الأولى، ثم الثانية، فالثالثة. أسخر من نفسي بسبب دبّوس الخيبة الصغير الذي يوخز قلبي. ماذا كنتُ أتوقع؟ لا بد أن تابوكي يلقي الآن إحدى محاضراته في بلاد العم سام أمام طلاب أميركيين مجتهدين ونشيطين. الرنة الرابعة: أهمّ بإنهاء الاتصال، وإذ بصوت رجل يلهث على الطرف الثاني من الخطّ.

آلو؟
آلو؟ من فضلك هل هذا منزل الأستاذ تابوكي؟
نعم. أنا أنطونيو تابوكي. من المتكلم؟
أستاذ تابوكي! يا للمفاجأة! أنا جمانة حداد، الصحافية اللبنانية. كنا اتفقنا على إجراء حوار في آذار، هل تذكر؟
آه، أهلا أهلا! لقد وصلتُ الى باريس للتو ودخلتُ شقتي في هذه اللحظة بالذات. كيف علمتِ أني هنا؟
لم أعلم. شيءٌ ما دفعني الى الاتصال بمنزلك رغم معرفتي بأنك في أميركا. ولكن، لم لستَ في أميركا؟
القصة طويلة… يا لها مصادفة غريبة! عندما تأتين أخبرك. أنا باق ليومين فقط. هل تحضرين غدا؟

كانت المصادفة غريبة فعلا. فقبل أيام من لقائنا غير المخطَّط له، كان أنطونيو تابوكي في أحد المطارات الايطالية، جالسا يقرأ الجريدة منتظرا إقلاع طائرته الى الولايات المتحدة، تماما مثلما كان مقرّرا. في لحظة ما نظر قربه، فلم يجد حقيبة يده: جواز سفره، بطاقة السفر، دفتر شيكاته، أمواله النقدية، نصوص المحاضرات التي من المفترض ان يلقيها في أميركا، لائحة أرقامه وعناوينه المهمة، وأيضا وخصوصا، مفاتيح منازله في كل من سيينا ولشبونة وباريس، كلّها سرقت. شعر تابوكي، الذي يثق بالإشارات التي ترسلها الحياة، بأنه من غير المقدّر له أن يسافر الى أميركا ساعتذاك، فعزف نهائيا عن الذهاب، وعاد الى بيته في ايطاليا. أول ما فعله كان ان غيّر مفتاح منزله في سيينا، وطلب من أحد أقربائه في لشبونة أن يقوم بالشيء نفسه بمقرّه البرتغالي. ولكن بقي خطر السرقة محدقا بمسكنه الباريسي العزيز جدا على قلبه، فقرر تابوكي على الفور القيام برحلة لمدة يومين الى باريس بهدف تغيير مفتاح هذا أيضا. تقاطع هذان اليومان بالذات مع تاريخ سفري الى العاصمة الفرنسية للقاء الكاتب بيتر هاندكه وآخرين، وتقاطعت لحظة وص! ول الروائي الايطالي الى بيته مع لحظة اتصالي به، فلعبت المصادفات لعبتها، والتقينا.

في الواقع، لم تخلُ حياة أنطونيو تابوكي من الإشارات والمصادفات على مرّ السنين. الإشارة الأولى كانت هبة ترعرعه وسط جمال الطبيعة التوسكانية، إذ ولد صاحب “بيريرا يزعم” و”التباسات صغيرة غير مهمّة” و”حلم الأحلام” و”الملاك الأسود” في مدينة بيزا في 24 أيلول 1943، بينما كانت المدينة تتعرض للقصف على أيدي الحلفاء. الإشارة الثانية، وربما الأقوى والأشد تأثيرا فيه، كانت لقاءه الغامض والصاعق بفرناندو بيسوا، الذي غيّر مسار حياته في شكل جذري. أما الإشارة الثالثة فهي اطلاع الكاتب العظيم إيتالو كالفينو على بعض نصوصه الأولى بالمصادفة، وإعجابه بها حدّ توليه نشرها. وهكذا دواليك، انتقلت حياة تابوكي من غمزة قدرية الى اخرى، حتى ليخال المرء انها حياة-استعارة، تنتمي الى نسيج الخيال أكثر مما تنتمي الى صخور الواقع. ولكن أليس هو القائل إن الحياة تفوق المخيّلة خيالا وغرابة، إذا ما انتبه المرء الى علاماتها ورموزها؟ يمثل أنطونيو تابوكي اليوم احد ابرز أصوات الأدب المعاصر ايطالياً، وأهمها أوروبيا أيضا. كتب في الرواية والقصة والمسرح والسيناريو والمقال، وترجم كبار الأدب البرتغالي ! الى الايطالية، مفتتحا نشاطه هذا بأعمال فرناندو بيسوا الشعرية الكاملة. ولم يساهم صاحب هذين الحساسية والحدس الاستثنائيين في ترسيخ شهرة بيسوا في ايطاليا فقط، بل في العالم اجمع كذلك. بدأ الكتابة متأخرا نسبيا، إذ كان في الثانية والثلاثين من العمر عندما اصدر روايته الأولى “ساحة ايطاليا”. لكن العمل الذي أطلق شهرته على نطاق واسع كان “ليلية هندية” الذي صدر عام 1984 وحوّله الان كورنو فيلما في وقت لاحق.

دخل أنطونيو تابوكي في مواجهة مع امبرتو ايكو حول مسألة دور الكاتب في الحياة العامة، إذ يعتبر ايكو أن مسؤولية هذا تنحصر في مسألة تنظيم المعرفة، فيما يرى تابوكي أن على الكاتب ان يمثل جرس إنذار وأن يتخذ مواقف مما يجري حوله في العالم. لطالما كان تابوكي ضد السلطة، ولطالما عبّر عن مواقفه الصارمة بانتظام في كل من صحيفتي “الكورييري ديللا سيرا” الايطالية و”الباييس” الاسبانية. أما كروائي، فهو ينجذب خصوصا الى الشخصيات المعذبة، الطافحة بالتناقضات والشكوك والظلال. وقد نال جوائز أدبية لا تحصى، ليس في ايطاليا فحسب، بل أيضا في فرنسا والبرتغال واليونان وألمانيا واسبانيا والنمسا، وتُرجم الى ما يزيد على ث! لاثين لغة.

أقرع جرس الباب، فيفتح لي تابوكي. البيت فخم ولكن من دون فحش، أما الرجل فودود ودافئ منذ اللحظة الأولى، ربما لأن غرابة لقائنا في تلك المدينة وفي ذلك الوقت بلا تنسيق، كسرت جليد التحفّظ مسبقا. ما ان نجلس ونبدأ التعارف حتى يريني صورة حفيدته الصغيرة الفاتنة. “إن المصادفة التي جمعتنا اليوم هي إشارة أخرى من الحياة”، يبادرني، “وإني لمتفائل جدا بها”. أتفاءل بدوري، ويتدفّق الكلام بيننا.

– لنبدأ من كتابك الأخير الذي لم ينفك يحقق نجاحا شاهقا منذ صدوره في مختلف أنحاء أوروبا، والذي لم يتردد بعض النقاد في وصفه بأنه تحفتك حتى الساعة: فما قصّة تكوين “تريستانو يموت”؟ وكيف ولد فيك هذا الذي يحتضر؟

– إنه كتاب حملته طويلا في روحي قبل أن يولد. قبع ردحا من الزمن على مكتبي وداخل دفاتري وفي لاوعيي قبل ان أقرر إخراجه الى النور. تريستانو شخصية سكنتني طوال اثني عشر عاما. كنتُ أسمع صوته في رأسي باستمرار، فأتحاور معه تارة وأتجاهله طورا، ثم عندما نضج الصوت شرعتُ في كتابته. كانت المادة الأساسية موجودة في شكل ملاحظات، منها المكتوب ومنها المحفوظ غيبا، وقد ألقيت بجزء كبير من المدوّنات والمذكرات التي كانت في حوزتي عندما شرعت في العمل على الرواية، كما أمليت مقاطع كثيرة منها كانت تنتظر بصبر في ذاكرتي: لذلك يؤدي الصوت دورا مهما في هذا العمل في شكل خاص، لأنه قائم على شخصية “محكية” إذا صحّ التعبير، وعلى كتابة “شفهية”. تريستانو محارب مقاوم هو، على غرار كل المناضلين ضد الفاشية والنازية، بطل في بلدته، وقد أوحى لأحد الكتّاب، لثلاثين عاما خلت، برواية تدور حول حياته وتحفل بكل الكليشيهات الملتصقة بالبطولة. وإذ يحتضر هذا البطل المسن اليوم، يستدعي الكاتب إياه لكي يروي له حياته من وجهة نظره هو، راغبا في ان يثبت له ان هذه الحياة لم تكن فقط سلسلة مواقف بطولية، وأن ثمة ا! لكثير من مناطق الظل في سيرة كل إنسان. تريستانو “يروي” نفسه إذا بصوت عال، ولذلك جاءت الرواية مستندة في تكوينها في الدرجة الأولى الى منطق المونولوغات.

– شعرتُ وأنا اقرأها بأنها رواية ـ مسرحية.

– انها فعلا رواية متجذرة بعمق في روح المسرح، لأن الصوت ينتمي الى المسرح أكثر مما ينتمي الى الكتابة، البكماء والصماء بطبيعتها. كنتُ متنازعا بين ضدين: إذ كان عندي في الوقت نفسه الرغبة في كتابة سيرة، والحاجة الى أن اثبت، لنفسي وللآخرين، انه لا يمكن كتابة الحياة، وأنه من المستحيل ان نرويها. يمكننا، في أفضل الأحوال، أن نقبض على معناها. وتبدو هذه الكتابة الممسرحة كهلوسات في معظم الأحيان لأنه كتاب عن الذاكرة وظلالها وشكوكها وانحرافاتها وتهويماتها…

– غالبا ما يحضر عمل الذاكرة في رواياتك...

– صحيح، فأنا مسكون بالحنين، وأحب الخيارات التي تمنحنا إياها الذاكرة، أحب تلك الحرية التي تتيحها لنا في أن نعيد اختراع الحياة وأن نغيّرها، وهو تغيير يدرك أحيانا حدّ التزوير. ذاكرة الانسان نسبية وانتقائية، وربما المرحلة الوحيدة التي يكف فيها الانسان عن التوهّم هي عندما يحاذي الموت. لحظة الموت هي اللحظة الأكثر صدقا، تلك التي تقع فيها كل الأقنعة. لا حاجة الى الغش عندما نعرف أننا راحلون. الشخصية تولد كصوت

– ألهذا السبب ولد تريستانو محتضرا؟

– لنقل ان نقطة الانطلاق، او الإلهام، جاءت من لحظة الموت هذه. ومنها نسجتُ الباقي. هي النهاية- البداية. في الأساس لم يكن لتريستانو اسم فأعطيته اسمي. لكني اكتشفت ان منحي إياه اسمي راح يدفعني رغما عني الى إلصاق وقائع من حياتي بحياته، فصار يتحول تدريجا نسخة عني، وأنا لم أكن أريد ذلك. كنت أشاء ان أكون جزءا منه فقط. لذلك قررتُ تغيير اسمه، فاستعرت تريستانو من ليوباردي، وتحديدا من “حوار بين تريستانو وصديق” الموجود في “الأعمال الأخلاقية”. كنت أريده ان يكون شخصية ايجابية، أي أن يكون قد عايش التاريخ من جهة الصالحين، لكنه مسكون أيضا بتساؤلات حول معنى البطولة والشجاعة والخيانة والجبن، لأنه صار بطلا رغما عنه ولم تخل حياته من الدناءات…

– أي أن تريستانو هو البطل والبطل المضاد في الوقت نفسه.

– نعم، لم تكن حقيقته مقتصرة على وجهها الايجابي فحسب. ولكن، ألسنا كلنا كذلك، خليطا ملتبسا من البياض والسواد؟ تريستانو لا يحتضر فحسب، بل انه يموت في كل صفحة بسبب المرارة التي يشعر بها. وإذ يروي، يبلور حقيقته. يكتشفها إذ يقولها بصوت عال. هو ليس فريسة لوجع الضمير بقدر ما هو متعطّش الى “الفهم”. وهو لا يتوق الى أن يروي سيرته بقدر ما يتوق الى استيعاب معناها. لذلك فإن حضور الكاتب أمامه ثانوي. إنه حوار من طرف واحد، بين الشخصية والشخصية، أي بيني وبيني.

– وهل أردت من خلال هذا المونولوغ الغريب المزدوج الصوت، أن تجسّد ثنائية صوتك الداخلي؟

– بالضبط، فالشخصية عندي تولد كصوت باطني. ما الإلهام حقا؟ إنه ذلك الصوت، الذي هو أنا بطبيعة الحال، لأني معتاد على التخاطب مع نفسي بصمت، وبجمل حقيقية كاملة. تكون المسألة في البداية أشبه حلقة كهربائية مقفلة. ثم يبدأ التحوّل والانقسام، او حتى الفصام، بيني وبيني. فيروح هذا الصوت الداخلي، صوت الشخصية، يرتدي نبرة ليست تماما نبرتي، كأنه صوتي وليس صوتي في الوقت نفسه. انه نوع من السكيزوفرينيا غير المؤذية. ويجب أن أتفاوض مع هذا الصوت وأن أخلق مسافة بيني وبينه لكي أفسح له أن يتكوّن بمعزل عني. آنذاك، عندما أتيح لهذا التميز او لهذه المفاضلة ان يتجسدا، تنفتح الحلقة وتتحول مسرحا. ثم أشرع أستضيف تدريجا على خشبة هذا المسرح أصواتا اخرى، من كل نوع ولون، فتنطلق القصة. أجعل هذا بحارا، أُلبس ذاك معطفا جلديا، أدبّر للثالث زوجة، وهكذا دواليك: تقع الأصوات على الورقة وتبدأ الرواية.

– لكنك في هذا الدويتو بالذات كنت أنت الصوت الذي يقع وأنت الورقة التي يقع عليها الصوت. كأنك أردت في “تريستانو يموت” ان تكتب رواية عن الكاتب.

– اجل، أحببت ان العب مع هذا الصوت، وربما ان أتحداه. لم انفصل عنه. قلت: لنر لمن ستكون الغلبة في آخر المطاف. كتبت هذا الكتاب كمبارزة، ولكن ضد نفسي. فأنا تريستانو وأنا الكاتب الذي يروي له تريستانو حياته. ولذلك لم يكن مسار الرواية خطيا، بل أشبه بزوبعة. وقد ربح الصوت في النهاية. كان هو الأقوى.
شخصياتنا تحاسبنا

– في كتابك الشهير “بيريرا يزعم”، ثمة أيضا صوت قوي يعلن نفسه منذ العنوان، رغم الشكوك التي يلقيها فعل “يزعم”…

– غالبا ما اسأل نفسي: أيهما أهم في الحياة والكتابة: الأحداث او معناها؟ في “بيريرا يزعم” كما في “تريستانو يموت”، كتبت لأطرح هذا السؤال، لكن الفرق هو النهج الإعصاري في الكتاب الثاني، وكمية الثغرات والحفرات السوداء التي يحاول ان يقبض عليها، لأنه تحديدا قائم على حوار من طرف واحد.

رأينا هذا النوع من الحوار الأحادي الجانب أيضا في كتابك “الوقت يتأخر أكثر فأكثر”، المرتكزة حبكته على رسائل حب كتبها رجال لنساء: لكننا لا نقرأ سوى الرسائل. ليس ثمة أجوبة.

صحيح، ذلك بدوره كتاب قائم على الثغرات، على الغيابات، على لحظات الصمت وتوتّرها. الرسالة التي تذهب لا تعود. الكلمات الموجهة الى أشخاص لا تقنص أجوبة. أي هناك تساؤل حول معنى الكتابة وعلاقتها بالواقع. غياب الأجوبة هو محور الكتاب، هو الاستعارة الأقوى والأكثر تعبيرا فيه. بسبب هذا الغياب تبدو الشخصيات ضائعة، مرتبكة، وحيدة كأنها تصرخ في واد ولا تسمع سوى صداها.

– غالبا ما تتحدث عن شخصياتك كأنها تسكنك وتحاسبك. هل تشعر بالمسؤولية إزاءها؟

– الشخصيات غريبة: إنهم رجال ونساء لم يكونوا موجودين قبلا، وفجأة يظهرون. يطالبون بحقهم في الوجود، ينالونه، ولا يمكن إلغاءهم بعد ذاك، لا يمكن العودة الى الوراء. هم إضافة الى الحياة، مساهمة من الكاتب في الطبيعة، كما لو انه يعمر العالم بالناس. ويظلون معه كمثل حشد صغير من المعارف، أكانوا أصدقاء له او أعداء، ويصبحون أفراد عائلة واحدة، ويجرجرهم وراءه لا محالة أينما ذهب. شخصياتنا تحاسبنا؟ كيف لا ونحن نشعر في مرحلة ما بالمسؤولية إزاءها، أو بشعور قوي بالذنب، لأننا سجننا هذه أو تلك في قصة محددة لا يمكنها الهرب منها، وستظل دائما تدور فيها طالما هناك قراء يقرأون الكتاب؟ تلك مسؤولية كبيرة، مسؤولية الخالق، لأننا قررنا قدر شخص ما، وذلك يثير فينا نوعا من الندم ربما، فضلا عن الرغبة في إخراج هذه الشخصية من سجنها ودفعها الى عيش قصة ثانية، مختلفة عن تلك التي عاشتها.

– بعض الكتاب يفعلون ذلك بشخصياتهم، ينزهونهم من قصة الى قصة. أنت أيضا استسلمت بضع مرات لهذا الإغراء.

– فعلت لأن الشخصية نفسها طالبت بذلك. أحيانا الشخصية هي التي تحددنا وتفرض علينا الأمور، على العكس مما يُظَن. “أعطني احتمالا آخر”، تقول الشخصية، “لقد مللتُ هذه الدوامة. امنحني فرصة اخرى ودعني أعيش قصة جديدة”. أنا سمحت أحيانا لبعضها بالهرب من كتاب والتسلل الى ثان، من فرط إصرارها. وهذا جميل لأنه في شكل ما طريقة في تصحيح الطبيعة: الانسان لا يملك سوى حياة واحدة، هو لا يتحرك سوى داخل قضبان “كتاب” واحد، أي قصة واحدة، ولا يعطى له الفرار الى اخرى! كان الممثل والمثقف الكبير فيتوريو غاسمان يقول: “ليت الحياة كالمسرح، تعطينا فرصتين: مرة أولى للتمرين، ومرة ثانية لتقديم العرض الحقيقي”. لكن هذا التعدد مستحيل في الواقع، لأن الحياة الانسانية فقيرة للغاية، ولحسن الحظ يمكننا التعويض منها في الأدب.
بيسوا غيّر حياتي

– في الحديث عن استحالة تعدد الحيوات، تمكّن صديقك الحميم فرناندو بيسوا من تحقيق هذه المعجزة عبر اختراعه أكثر من وجه وحياة لشخصه.

– بيسوا استثناء عظيم من الصعب أن يتكرر. بيسوا هو من الكتّاب الذين أحملهم معي في حقيبتي، وأعيش معه أيضا علاقة من نوع خاص لأكثر من سبب، منها أني ترجمت كل أعماله الشعرية تقريبا الى الايطالية. لقد كان أكبر مصادفة في حياتي، وكما تعلمين أنا أؤمن كثيرا بالمصادفات التي تغيّر مسار الناس.

– كيف بدأ هذا الشغف به؟

– عام 1964 كنتُ طالبا في باريس، في السنة الجامعية الأولى، ضائعا بين اختياري دراسة الفلسفة وشعوري بأنها خيار سيىء لي. بعد سنة من الإقامة هناك، فكّرتُ بالعودة الى ايطاليا. وإذ كنت ذاهبا الى محطة “ليون” لاستقل قطار العودة، اشتريت من إحدى المكتبات كتابا صغيرا وبخس الثمن لكي اشغل بقراءته وقت الرحلة. كان الكتاب عبارة عن قصيدة واحدة عنوانها غريب، “مكتب التبغ”، واستغربتُ إني لم أكن قد سمعت بكاتبها، ألفارو دي كامبوس. وكانت تلك الترجمة الفرنسية الأولى لأحد أعمال بيسوا على يد بيار اوركاد، وهي ترجمة بديعة. قرأتُ القصيدة وأثرت فيّ الى حد بعيد، وتحمست لذلك الكاتب الرائع فتخليت عن دراسة الفلسفة، التي لم أكن مقتنعا بها أصلا، وتسجلت في كلية الآداب في بيزا لكي ادرس لغته البرتغالية وآدابها، إذ قلت يومذاك في نفسي: إذا استطاع شاعر أن يكتب قصيدة بهذه الروعة، ينبغي لي ان أتعلم لغته.

– انها قصيدة عن الاغتراب المؤلم بين الظاهر والداخل، بين الفعل والحلم: هل هذا ما سحرك فيها؟

– كانت تلك المرة الأولى اقرأ فيها قصيدة بهذا العمق، بهذا الصدق الصاعق، بهذه المرارة الموجعة. كنت معتادا على شعرنا الايطالي المفرط في الغنائية، وها إني أجد أمامي قصيدة تدور حول النظر، إذ يروي فيها بيسوا ما رآه أثناء ساعتين أمضاهما عند نافذة غرفته، وما شعر به وفكر فيه، وذلك بقوة لا مثيل لها. كانت قصيدة درامية جدا، فضلا عن كونها شعرا حكائيا، ينطوي على قصة متشابكة مع تأملات فلسفية عميقة مصوغة ببساطة كي لا تثقل على الشحنة الشعرية. بسبب تلك القصيدة كذلك رغبت في ان أكون كاتبا. في اختصار، لقد غيّرت حياتي.

– يقال عنك أنك أكثر الكتاب الايطاليين “برتغالية”. هل تشعر فعلا بأن البرتغال هو وطنك الثاني؟

– من دون شك. انه وطن منحني إياه بيسوا، وقد أعطيته بدوري الكثير. لقد تأخرت أعمال بيسوا في الانتشار بعد موته، فهو لم يُعرف عالميا سوى في السبعينات، واعتقد أني ساهمت كثيرا في شهرته، في ايطاليا طبعا ولكن أيضا في الخارج. والآن بات أحد كبار شعراء القرن العشرين.

– ألا تراه روائيا كذلك؟ أليس في اختراعه كل تلك الشخصيات والحيوات برهانا على مخيلة وموهبة روائيتين هائلتين؟

– بل إنني اعشقه في شكل خاص لأنه كان روائيا. لم يكتب بيسوا الشعر فحسب. لقد عمر العالم بشخصيات جديدة، شخصيات اخترعها ودفعها الى التواصل والتفاعل في ما بينها: هو كتب في رأيي رواية كبيرة خيالية شخصياتها هي الشعراء الذين أوجدهم، او لنقل إنه اخترع مسرحا من دون خشبة، كوميديا إنسانية عظيمة في الشعر. تساءل عن معنى الهوية، وعن الروح المتعددة الانتماء، وذلك بالنسبة لكاتب مثلي لإنجاز استثنائي وجاذب كبير.

– في كتابك الرائع، “أيام بيسوا الثلاثة الأخيرة”، تتخيل أن كل تلك الأرواح والهويات التي اخترعها بيسوا تزوره عند سرير موته، فنسمع أصوات الفارو دي كامبوس وريكاردو رييس وبرناردو سواريس الخ…

– هم جاؤوا إليه مرة أخيرة لأن المخلوقات يجب أن تزور خالقها، أن تودّعه، أن تكرّمه، ان تعترف له بأسرارها وخباياها. أردتُ في ذلك العمل أن أجسد أمام القارئ المسرح الذي اخترعه بيسوا، حيث تدخل ظلال وتخرج أخرى. وقد اعتمدت الإيجاز الشديد لكي أوحي بأن الوقت كان ملحا، ولم يكن ثمة مجال للاستفاضة في الكلام. كانت القصّة أشبه بأسطورة تلتقي فيها للمرة الأولى كل هويات بيسوا.

– ثمة أسطورة أخرى منسوجة حول علاقة بيسوا وتابوكي. ما مدى تأثيره حقا في أعمالك؟

– بيسوا مهم جدا بالنسبة لي. هو الذي أعطاني الرغبة في الكتابة، وفي اكتشاف البرتغال، وجعلني كل ما أنا عليه اليوم، وطبعا أدين له بالكثير. أما في ما يتعلق بتأثيره في أعمالي ككاتب، فأنا لا أستطيع ان اجزم. لكني أعرف انه جزء من عائلتي واني شغوف بأرضه ولغته.

– شغفت بلغته حد انك كتبت أحد كتبك، “صلاة الموتى”، مباشرة بها. ماذا تقول عن هذه التجربة؟

– ان هذا المجهود في رأيي مغن جدا. عندما نكتب بلغة ثانية تصبح هذه اللغة ملكنا. أعجب من الذين يشكون في قدرة الكاتب على التعبير بلغة غير لغته الأم. إذا كنتُ قادرا على الشعور بلغة أخرى في لاوعيي، إذا كنت أستطيع ان أحب بها وأكره وأحلم وأغضب، وإذا كنت أتقنها جيدا، يجب ألا يحول أي عائق دون انقضاضي عليها. فضلا عن أنها شكل من أشكال “المعمودية” الثانية، إذ ان الكاتب يصير آخر في معنى ما بلغة أخرى.
شخصياتي هي أسمائي المستعارة

– في الحديث عن انك تصير آخر، هل شعرت يوما على غرار بيسوا بإغراء الكتابة بإسم مستعار؟

– ثمة صحيفة نافذة جدا في ايطاليا، اسمها “المراقب الروماني”، وهي جريدة الفاتيكان. غالبا، عندما اكتب في الصحف أمورا تنقض الكليشيهات السائدة في البلاد، أوقع بإسم “المراقب التوسكاني”، لكني لم اخترع لنفسي اسما مستعارا. ربما من الدقيق القول ان الأسماء المستعارة التي أوجدتها هي شخصياتي. لأني أنا بيريرا وأنا تريستانو وأنا كل البقية… غالبا ما يسألني القراء: كم وضعت منك في شخصياتك؟ لكن ما لا يفكر فيه احد هو أننا ما ان نخترع شخصية حتى تكبر هذه وتنمو من تلقاء نفسها وتصبح كائنا مستقلا وتعطينا هي من حياتها الخاصة. من غير المبالغ القول إن الشخصيات تؤثر في الكاتب أكثر مما يؤثر الكاتب في الشخصيات. هذا ما حصل مع بيسوا. كان مستسلما في شكل مطلق لشخصياته. حتى أنه لم يقم بأي مجهود في سبيل نشر كتاباته. كان يكتب فحسب، ولم يكن يريد ان يجني من الكتابة سوى لذة الكتابة نفسها.

– وماذا عنك؟ ماذا تريد أنت ان تجني من الكتابة؟

– تعرفين، يثير إعجابي كم كان فعل الكتابة لدى بيسوا مجانيا. ما أريد أن اربحه أنا من الأدب هو فضاء حريته اللانهائي. الأدب هو ما يحول دون تحوّل الناس نباتات، تولد وتعيش وتموت بلا معنى. وأهم ما في فعل الكتابة صدقه، أي ألا يكون خاضعا لضغوط اجتماعية او تاريخية مثلا…

– لكنك أنت نفسك خضعت لهذه الضغوط التاريخية، في كتابك “بيريرا يزعم” على سبيل المثال، الذي يدور حول ديكتاتورية سالاذار في البرتغال وحول فكرة مسؤولية الفرد إزاء التاريخ…

– أجل، لكن هذه الضغوط التي تذكرين هي جزء لا يتجزأ من حقيقتي، أي أنني إذ كتبتها كنتُ ألبّي صدق روحي وحاجة شخصية عندي، أكثر مما كنت ألبي استفزازات خارجية، “تاريخية”. في أي حال أنا أؤمن بضرورة مراجعة المراحل المعتمة في تاريخ الانسانية، لكي نكافح الآفات المتزايدة في عصرنا، على غرار اليمينية المتطرفة والتعصب والتمييز العنصري والأصولية، الخ… إذا شعر الكاتب بانصهار حقيقي مع موضوع تاريخي ما، آنذاك سوف يجيء تعبيره عنه صادقا وغير مفتعل. والأدب رائع لأنه يستوعب كل النظريات: هو ما يقوله البعض، وهو أيضا ما يقوله البعض الآخر. ليس بطاقة اعتماد تتحدد صلاحيتها بميادين محددة: يمكن أن يكون ملتزما، كجوع غافروش في بؤساء فكتور هوغو مثلا، مثلما يمكن ان يكون مجانيا، مثل الدوري الصغير في شعر كاتولو…
الأدب غريزي

– عصفور الشاعر غايو فاليريو كاتولو هو رمز من رموز حب الشاعر لمعشوقته ليسبيا: هل تقول إن الحب تفصيل تزييني في لعبة الحياة؟

– حسنا، ربما لم يكن عصفور كاتولو النموذج الأفضل لما أريد قوله: سأعطيك مثالا آخر، هو قصائد عمر الخيام عن الورود. هذه القصائد رائعة، من دون ان تكون تهدف الى غاية ما بالتحديد. الوردة كائن من كائنات هذا العالم، ولها الحق في أن يُحتفى بها في الشعر. أنا أمس كتبت عن ديكتاتورية سالاذار، لكني ربما سأقرر غدا الكتابة عن نباتات الجيرانيوم في بستاني: لا مانع. إذا كنتُ راغبا في الحديث عن متسول مسن التقيته في الطريق لأنه أثار تعاطفي، يجب ان أكون حرا في القيام بذلك. ولكن إذا كان كاتب آخر يشعر بالرغبة في كتابة قصائد عن الورود، فيحق له ان يفعل ذلك بدوره. الأدب بطن كبيرة تسع فيها الانسانية كلها. المهم أن نصنعه بأكبر قدر ممكن من الصدق والحرية. فآنذاك، وآنذاك فقط يكون أصيلا. ان الكتب المكتوبة بنيّة ما، أي بناء على مفاتيح معينة، غالبا ما تكون رديئة، ولا تؤدي الى نتيجة. يجب الا يكون للأدب غاية أو هدف في ذاته. أو لتكن هناك غاية شرط ان تكون صادقة، أي مستقلة عن إرادتنا ورغبتنا الخاصة، لكي يمشي الأدب في طريقه الخاص.

– كيف تصف هذه الطريق؟

– هي قبل كل شيء طريق معرفة. الأدب هو شكل من أشكال المعرفة ما قبل المنطقية، لكنها معرفة مهمة للغاية. فمن دون هذه المعرفة ما قبل المنطقية، ما كنا لنستطيع استيعاب المعرفة العلمية، وتلك ثابتة مطلقة. على سبيل المثال ثمة في مجال الفيزياء الفلكية مجموعة من العلماء “الغريزيين” في الأساس، إذ يستطيعون منذ صغر سنهم التوصل بالغريزة الى أجوبة على مسائل فيزيائية معقّدة، من دون أن يكونوا قادرين في تلك المرحلة على صوغ المعادلات الحسابية الدقيقة التي تبرر تلك الإجابات والنظريات. ثم يكتسبون هذه لاحقا وينتقلون الى مرحلة علمية أكثر تقدما، يصبحون فيها يعرفون التقنية والرياضيات، أي يصيرون قادرين على وضع غريزتهم ضمن إطار معادلة رياضية منطقية. ما أريد قوله هو ان المعرفة ما قبل المنطقية هي الأساس، والأدب يمنحنا شكلا من أشكال هذه المعرفة الرائعة والاستثنائية. الأدب غريزي الى مدى بعيد، وهو يدركنا ويلامسنا قبل المنطق.

– لكنّ الأدب، بحسب بيسوا، هو البرهان على ان الحياة لا تكفي. فما رأيك بهذا القول؟

– الحياة فعلا لا تكفي. ماذا نعرف نحن عن الحياة؟ ماذا نعيش منها فعليا؟ إذا عشنا مثلا حبا واحدا كبيرا، فهذا عطاء إلهي عظيم. وإذا عشنا قصتي حب كبيرتين، نكون محظوظين الى أقصى الحدود. أما ان نختبر ثلاث قصص حقيقية، فذلك أمر استثنائي ربما يستحيل حصوله. أي أننا لو كنا مضطرين الى الاكتفاء بتجاربنا الخاصة، لكنا فقراء جدا ولما عرفنا شيئا عن الحياة. حدود الحياة الملموسة هي أقصى ما تطاوله أيدينا، بينما الأدب يذهب أبعد، وأعمق. بفضل الأدب نكتشف كل الاحتمالات الهائلة الموجودة في العالم، فهو يهدي إلينا تجارب الآخرين وحيواتهم.
ما الحياة بلا الرغبة؟

– كأنك تقول إن الأدب يمكن ان يكون بديلا من الحياة، وأن قراءة التجربة قد تحلّ مكان التجربة نفسها. لكنّ قراءتي لقصة روميو وجولييت لن تغنيني عن اختبار حبّهما، بل ستزرع فيّ الرغبة في عيش مثله.

– لم اعن أن الأدب بديل من الحياة، لكنه مكمل لها من دون شك. لقد ذكرتِ قصة روميو وجولييت، وأنا أضيف إليها تريستان وإيزو، ومدام بوفاري، وأنا كارينينا، الخ…: هؤلاء جميعا عرفنا قصص حبهم بفضل الأدب، أي اكتشفنا بواسطته بدائل ووجوه وعناصر كثيرة لهذا الشعور الواحد الذي لا يحدّ والذي لا يمكن لطبيعتنا المحدودة أن تختبره كله في حياة واحدة. أن تقرأي قصة روميو وجولييت لن يغنيك عن اختبار حبهما، بل سيزرع فيك الرغبة في عيش مثل هذا الحب، كما قلتِ: فهل أجمل من ذلك؟ الرغبة حياة في ذاتها. الأدب دعوة الى الحلم، الى الرغبة، وبفضله نستفز هذه الرغبة ونُستفزّ عليها.

– والرغبة هي جوهر الانسان، مثلما قال سبينوزا...

– هل تتخيلين حياتك بلا رغبة؟ ما الحياة وما تاريخ الانسانية وما الرجال وما النساء بلا الرغبة؟ لقد أوجدنا حضارات بأكملها بسبب رغباتنا: الرغبة في المعرفة، في الاكتشاف، في الفعل. الانسان كائن رغبويّ في المقام الأول، والأدب يلامس تحديدا نطاق الرغبة. تلك فائدته، إذ لا يسمح للوعي بأن يغرق في التفاهة. ما الذي يحفزني على السفر؟ الرغبة. ما الذي يحرضني على القراءة؟ الرغبة. ما الذي يدفعني الى الجلوس والكتابة؟ الرغبة.

– بما انك أتيت على ذكر الجلوس، هل لديك طقوس محددة؟

– أنا “بوهيمي” في كتابتي لأني أتنقل كثيرا، رغم ان الطقوس مفيدة وضرورية. أكتب على دفاتر، وآخذها معي أينما ذهبت. أمزق أوراقا كثيرة وأعيد الكتابة مرات عديدة. قد تمر شهور وحتى سنوات لا اكتب فيها كلمة واحدة، لكني لا أكف عن سماع “الأصوات” في رأسي. وعندما اكتب المراحل الأولى، لا أحب ان أكون وحيدا داخل غرفة. أفضل ان اكتب في الخارج، في المقاهي مثلا، فرغم الضجيج يعزل الكاتب نفسه، ويمنحه الصخب إحساسا بالحياة التي تجري حوله، وهذا ينعكس إيجابا على لغة الكتابة. ولكن عندما يصل الأمر الى مرحلة “صناعة” الكتاب، فيجب الانعزال. آنئذ أجلس في غرفة وأشقى. القراء يظنون ان الكتب تهبط علينا من السماء. الأفكار طبعا مهمة، وكذلك الإلهام والموهبة، لكن الأهم هو الجلوس والعمل. عندما يطلب مني كاتب شاب نصائح حول الكتابة، أوّل ما أفعله هو أني اطلب منه ان يزور مشغل نجّار، وان ينظر الى ما يوجد على ارض ذلك المشغل. أي قطع الخشب الصغيرة والنشارات وكل الزوائد التي نحتها الحرفيّ عن قطعة الخشب حتى يصير لهذه شكلا. الكتابة عمل حرفي يتطلب الكثير من الانحناء والصبر. وهو يتطلب أيضا مخيلة سينمائية! : يجب أن يكون لدى الكاتب القدرة على “رؤية” شخصياته وأحداث كتابه قبل ان يضعها على الورق.
قصصي هي “لاقصص”

– فعلا، ثمة علاقة قوية بينك وبين السينما: فمن جهة أنت متأثر بها، ومن ثانية غالبا ما يلجأ إليك السينمائيون لاقتباس إحدى رواياتك سينمائيا، على غرار ألان كورنو مثلا. ماذا أعطتك السينما وماذا أعطيتها؟

– تعلمتُ الكثير من السينما، خصوصا القدرة على التوهم. السينما مصنع أوهام ضخم، والأدب أيضا هو كذلك. السينما روائية، لكنها روائية “بصرية”. وقد علّمتني الاقتضاب والمونتاج. لا اعتقد ان هذا التأثير متعلق بي حصرا، بل هو يطال كل كتّاب القرن العشرين، إذ ربحنا فوائد جمة من السينما. أما ماذا أعطيت أنا للسينما، فالسؤال مربك. اعتقد ان الإغراء الذي جسّدته قصصي للسينمائيين نابع في الحقيقة من سوء تفاهم: أعني ان السينما غالبا ما تتغذى من الأدب لأنها في حاجة الى قصص، ويظن السينمائيون ان ثمة قصص في كتبي، في حين ان هذه لا تنطوي في الحقيقة الا على قصص ظاهرية، او على الأصح على “لاقصص”. قصصي فيها ثغرات كثيرة، يجب ان تكملها المخيلة. لقد ذكرتِ الان كورنو: كورنو عرف كيف يتعاطى مع روايتي “ليلية هندية”، فهو لم يسع الى ملء الفراغات لكي يفبرك حكاية ذات مسار تقليدي، ولذلك جاء الفيلم مميزا. ذلك هو خطر تعامل السينما مع كتبي، خطر محاولتها ملء الفراغات التي أتعمّدها. ولكن بسبب هذه الثغرات بالذات، تُتهم بعض كتبك بأنها صعبة ونخبوية. قد يكون ذلك صحيحا، لكني لا أتقصده. بل غالبا م! ا الجأ الى الثقافة الشعبية واستخدمها. ان الكتّاب الذين يكتبون حصرا الثقافة النخبوية ولا يستخدمون سوى المعلومات او المصادر النخبوية يؤول بهم الأمر الى التخاطب مع أنفسهم حصرا. أنا أحب الحياة، وأحب استخدام موادها، وفي الحياة نجد كل شيء، من الأغنية الشعبية جدا الى موسيقى فرانز شوبرت النخبوية. أعشق الاثنتين بالقدر نفسه، لا بل ربما انحاز الى الأغنية الشعبية أكثر لأنها تاريخيا أكثر فاعلية من موسيقى شوبرت. موسيقى شوبرت معلقة في الهواء ولا تنتمي الى فترة زمنية محددة والى ما يرافق هذه الفترة من خلفية تاريخية، أي أنها لا تذكّر بقصة من قصص الانسان. أما الأغنية الشعبية فهي فلذة من تاريخنا. عندما تسمعين “la vie en rose” تقبضين على زمن ما، على بلد ما، على تاريخ ما.

– للأسف بعض الناس يخلطون بين هذه الثقافة الشعبية الأصيلة وبين ألبست سيللر مثلا…

– الثقافة الشعبية مهمة جدا، ومن الإجرام الخلط بينها وبين عملية اللاتثقيف المرعبة التي تقوم بها السوق الاستهلاكية المرتكزة على صناعة ألبست سيللر، أي العمل المبني بحسب معايير اصطناعية ومزيفة مسبقة، وكليشيات ومفاتيح مبتذلة. هذا اختراع أميركي الى حد بعيد، وقد وقعت في فخه البلدان والحضارات الأخرى. ذلك هو الأدب السيئ الذي أميزه عن الأدب الجيد، وذلك هو الفرق الذي أؤمن به، لا الفرق بين الثقافة الشعبية والثقافة النخبوية. في الأدب الشعبي ثمة أدب ممتاز، على العكس من أدب ألبست سيللر الهادف الى تحويل الكاتب الى ستار. مجتمع الاستهلاك والاستعراض خطير جدا وهو فخ مرعب يمكن ان يلتهم الكاتب. أنا لست منجذبا الى تلك الآلة التي تطحن صورة الانسان بعدما تستهلكها، ولذلك احمي نفسي من هذا الغول.
الأضواء جائعة الى “الطقاطيق”

– الا تعتقد ان هذا الحذر تخطاه الزمن، خصوصا في عصر الصورة الذي نعيشه؟ فدار النشر في آخر المطاف ليست مؤسسة خيرية، ويجب ان تربح لتستمر. ولكي تربح ينبغي لها ان تسوّق كتّابها وأن تعمل على وضعهم في الضوء، لا ان تنتظر معجزة…

– طبعا، وحتى الدار التي أتعامل معها تطلب مني عددا من الظهورات العلنية، وهذا أمر افهمه تماما لأنها كما أوضحتِ يجب ان تجني المال وإلا وقعنا جميعا في ورطة. أنا لست أقول ان شهرة الكاتب عيب: كلنا نريد أن نكون مشهورين، ولكن ثمة حدود لا يمكن تجاوزها. إذ لا يمكن أن نضع على نفس المستوى الكاتب والمغني “الصرعة” والممثل الفضائحي وعارضة الأزياء… الخ.

– لكن هؤلاء وسواهم يستأثرون باهتمام الجماهير على حساب الكاتب بسبب التركيز الإعلامي عليهم. أليس من واجب الكاتب ان يزاحمهم، أقله في سبيل مصلحة هذا الجمهور الذي يغترب أكثر فأكثر عن الكتاب؟

– ثمة منطق في ما تقولين، ولكن يجب الا يتم ذلك على حساب مستوى الكاتب وكرامته. ثمة حل وسط يمكن التوصل اليه، ولكن للأسف الأضواء اليوم جائعة الى “الطقاطيق”، وتزدهر وسط أكوام الهراء. في فرنسا مثلا، ما زلنا نرى في شكل شبه يومي حضورا للكتّاب على التلفزيون، وهذا أمر احترمه في الثقافة الفرنسية التي لم تزل تفسح لغير الطقش والفقش والعري. لكنّ فرنسا استثناء، وحتى هي تتراجع على هذا الصعيد. في أي حال اعتقد ان جيل الكتاب الشباب هم الذين يتعرضون لهذا الخطر أكثر من سواهم. أنا الآن بات عندي مناعة قوية إزاء تلك الإغراءات، فالوقت يساعدنا في تطوير لقاح ضدها. أما الشباب فمن السهل ان يعلكهم هذا المجتمع الشرس بعد ان يغويهم ويستدرجهم. وأتمنى عليهم ألا ينسوا أن هدف الكاتب هو الكتابة، لا الظهور والتحوّل شخصية عامة.

– سبق أن حلّلت دور الكاتب في “التهاب معدة أفلاطون”…

– نعم، في رأيي ان الكاتب ليس مضطرا بالضرورة الى ان يكون مثقفا يتدخل في كل شاردة وواردة مما يدور حوله، لأنه إذا فعل ذلك يكف عن الكتابة ويبطل كاتبا. هو طبعا يجب ان يعبّر عن آرائه عند الحاجة، ولكن من دون أن ينسى دوره الأهم، الا وهو الكتابة. الكاتب موجود ليكتب، لا ليؤدي دور الحكم.

– ما رأيك إذا في كاتب على غرار جان بول سارتر، صار شخصية عامة، وأكاد أقول نجما، بسبب مواقفه مما كان يجري حوله؟

– حسنا، جان بول سارتر عاش لحظات مهمة شعر بأنه معني بها ومضطر الى اتخاذ موقف منها. يمكن الكاتب أن يعرّض نفسه للخارج إذا كان لديه ما يقوله، ويمكنه ان يسخّر صورته لغاية سامية إذا كان يستطيع ان يشكّل فرقا. المهم ألا يكون مدفوعا الى ذلك بسبب متطلبات سوق ما. إذا كان مقتنعا، ليظهر على التلفزيونات ويتكلم في الإذاعات ويصرخ عبر صفحات الجرائد، شرط الا يلهث وراء الظهور وإلا يقع في الفخ “الاستعرائي”، آفة زمننا…

– ولكن أليست الكتابة نفسها، او على الأصح قرار النشر، من زاوية ما، شكلا من أشكال الاستعرائية؟ ألا يقول الكاتب: انظروا، ما أقوله مهم، أفكاري مهمة، يجب ان تعرفوها…

– ربما، لكنها استعرائية تهدف الى التعبير عن رأي هذا الشخص بالعالم، عن رؤية ما عن الحياة. نحن نتخذ موقفا إذ نكتب وننشر: نقرر ان نضيف كلمتنا الى كلمات اخرى موجودة قبلنا. لنسمّها استعرائية، لا مانع عندي: ولكن لماذا يستطيع السياسي او رجل الدين او عالم الاقتصاد ان يفعل ذلك، وأنا لا؟ لحسن الحظ ان ثمة كتّاب، وإلا لكان اقتصر الكلام على هؤلاء، ومن يعلم ما كان ليكون مصير العالم آنذاك؟

– تقول “لحسن الحظ ان ثمة كتّاب”، وأنت الذي كتبتَ على لسان تريستانو: “لا أؤمن في الكتابة. الكتابة تزوّر كل شيء، وجميع الكتاب مزوِّرون”؟

– كنت اعني تحديدا بهذا الكلام كاتبي السيرة، الغارقين في عجرفتهم حد أنهم يظنون أنهم يعرفون كيف كان يشعر الكاتب وما الذي دفعه الى فعل هذا او ذاك في مرحلة ما من حياته. وتزعجني أيضا عجرفة الكتّاب الذين يعتقدون أنهم يكتبون “للأجيال المقبلة”. يا له ادعاء مثيرا للسخرية! رينيه شار لم يكن يفكر انه يكتب للأجيال المقبلة، ولا كافكا، ولا كونراد. وماذا عن بيسوا، الذي لم ينشر أي شيء تقريبا في حياته؟ هذا النمط من التفكير يسيء الى مستوى الكتابة.

– افتراضا أنك لا تكتب للأجيال المقبلة، لماذا تكتب؟

– لا أعرف. لقد حصل الأمر بالصدفة. ولا أثق بالكتّاب الذين يعرفون لماذا يكتبون. الكتابة سر كامل. أحب أن أفكر ان الكتابة شغفي، لا مهنتي. مذكورٌ على جواز سفري إنني أستاذ جامعي، لا إنني كاتب. لطالما كتبت لأنه نشاط استمتع به، لا لأنه واجب عليّ. لماذا نكتب؟ لدينا ألف سبب وسبب وكلها صالحة. نكتب لأننا نخاف من الموت. ولأننا نحب الحياة. نكتب لأننا نرغب في العودة الى رحم أمنا. ولأننا نحلم في الرجوع أطفالا. نكتب لأننا نريد ان نصير مشهورين. ولأننا نريد ان نشعل ضوءا في العتمة. نكتب لأننا نحب أناسا ونكتب لأننا نريد ان يحبنا الناس. كل الأسباب ممكنة، وكلها وجوه للعملة نفسها. لا اعرف لماذا اكتب، لكني أعرف ان الكتابة تغيّرني، كمعجزة. في “تريستانو يموت” مثلا، شعرتُ بتجربة الموت بقوة، عشتُ فكريا ومعنويا احتضار شخصيتي، وقد غيّرني ذلك. وقد أذهب حد القول ان ليس للحياة أي معنى الا عندما نرويها. أنا لا أؤمن بازدواجية الحياة والكتابة، فهما متلازمتان حتما. يجب ان نكتب لنحيا، ولا نعيش حقا الا عندما نكتب ما نعيشه. ربما الأحداث لا تحدث حقا الا عندما نكتبها، ربما الله نفسه لا يعود ! موجودا إذا كف الانسان عن الوجود. نحن نعيش جميعا في علبة زجاجية، ويجب أن نسرق باستمرار ما هو معروض داخل هذه العلب ونكتبه.
الكاتب سارق لطيف

– تسرق نفسك؟

– نفسي والآخرين. قصصي وقصصهم. حياتي وحياتهم. أجزاء منها وليس كلها. حركات، تفاصيل، تلميحات… أنا رجل يحب الإصغاء. واعتقد ان على كل روائي ان يكون مستمعا جيدا. ما اسمعه ويعجبني، أجعله ملكي، وارويه على طريقتي.

– أنت متلصص سمعيّ!

– (يضحك) صحيح، أنا رجل فضولي وغير متكتم، ولا اخجل من ذلك. أراقب الآخر من ثقب مفتاح الباب. افتح أذنيّ جيدا في الباص، في الطائرة، في التاكسي، في المقهى. اجمع. انهب. الكاتب سارق، لكنه سارق لطيف وحسّاس: فهو لا يفرغ البيت تماما من محتوياته. انها سرقة الواقع، وهي ضرورية. في أي حال ليس الكاتب السارق الوحيد. جميعنا نسرق. عندما نمشي في الطريق نسرق. عندما ننظر الى الواقع ونتأمل نسرق. وحدهم أولئك الذين يمشون وعيونهم مغمضة لا يسرقون من حولهم. عندما أدير عينيّ حولي التقط معلومات رغما عني. اقبض على أشياء. أنت أيضا سارقة: الست تسرقينني الآن؟

– حسنا، قبضت عليّ بالجرم المشهود! لكني لن أخاف، رغم انك تقول ان الخوف شعور صحي. مم تخاف أنت؟

– من كل شيء! من كل شيء وبازدياد. أخاف كل يوم أكثر. الخوف يجعلنا حذرين حتى من أنفسنا، لأننا عدونا الأساسي. عملية المراقبة الأولى التي يجب ان نقوم بها هي مراقبة أنفسنا. يجب ان نخاف من ذواتنا، من أفكارنا. الخوف شعور ضروري لكي يظل الانسان كائنا عقلانيا ومتحضرا. من السهل جدا ان نخسر هذا الكنز، وهو كنز تطلب حصولنا عليه آلاف السنين. في بعض لحظات التاريخ فقدناه عندما كففنا عن مراقبة أنفسنا، وكانت النتيجة فظيعة، وتاريخ القرن العشرين يمنحنا أمثلة كثيرة عن هذا الموضوع. من كان ليقول ان المانيا مثلا، التي أعطت موسيقيا مثل باخ، وفيلسوفا مثل كانت، يمكن ان تعطي أيضا رجلا شريرا وأحمقا ودنيئا مثل هتلر، الذي في مرحلة استمرت سنوات استدرج شعبه الى المآسي والجرائم؟ لذلك يجب ان نخاف وان نلزم الحذر وان ندق جرس الإنذار عند الضرورة. اليوم أيضا يتكرر الموضوع: لقد رأينا جميعا كيف أبرزت رؤية أسامة بن لادن الأصولية رؤية أصولية كارثية اخرى هي رؤية جورج بوش، أي فكرة محاربة الإرهاب بالحرب، وهي الفكرة الأكثر جنونا وعبثية التي عرفتها في حياتي! فكرة لا يمكن ان ينتج منها سوى مجازر. بال! ي فعلا مشغول، جورج بوش رجل يقلقني.

– منتجكم المحلي برلوسكوني “لا يشكو من شيء” بدوره. ألا يقلقك هو أيضا؟

– كيف لا! لا تذكّريني بهذه المهزلة. أتعرفيـن؟ لقد امتنعت منذ نحو ثلاثة أعوام عن المشاركة في معرض الكتاب في باريس الذي كانت ضيفته ايطاليا، لأني عرفت ان حكومة برلوسكوني هي التي موّلت رحلات الكتاب الايطاليين المدعوين.

– أليس هذا المعرض نفسه الذي استلمت فيه جائزة “فرانس كولتور” عن مجمل أعمالك؟

– بالضبط، وقد زرت المعرض لاستلام الجائزة لكني لم أشارك في نشاطات البلد الضيف. أنا لا أريد ان تمثلني شخصيات سياسية ذات نزاهة مشبوهة، كما لا أريد ان آكل الكرواسان بمال برلوسكوني. صار حشد الكتّاب وفدا رسميا لا يسعى الى تمثيل بلد وثقافة وشعب بقدر ما يمثل سفيرا لحكومة برلوسكوني.

– اعتقد ان الكاتب الصقلي فينشنزو كونسولو اعتذر أيضا يومذاك عن المشاركة…

– نعم، وأيضا أندريا كامييري. اذكر ان كونسولو قال في التصريح: لا يمكن أن يكون هناك ثقافة في بلد بلا ديموقراطية ولا ديموقراطية بلا ثقافة”. لكن النظام الديموقراطي هو الذي أتاح انتخاب شخص مثل برلوسكوني. ثمة نماذج كثيرة عن قادة انتُخبوا ديمقراطيا، ومن ثم شوّهوا الديمقراطية، ومنهم موسوليني وسالاذار. أعتقد أن على الكاتب ان يتخذ موقفا في ظروف مماثلة. هل أبشع من ان يصبح الكاتب كاتبا “رسميا”، كاتب نظام؟ كتّاب النظام الذين شهدهم العالم عار على الكتابة. وأؤكد لك ان ايطاليا هذه لا تمثلني.

– هل تتوقع تغييرا؟

– آمل ذلك، وفي أسرع وقت ممكن. آمل ان يلقي احدهم ببرلوسكوني خارجا مثلما يفعل الحكم في مباريات الفوتبول عندما يقرر ان يطرد احد اللاعبين بسبب ارتكابه فاولاً. لكني لا اعرف ما إذا كان خروج برلوسكوني من المسرح سيترافق مع خروج الذهنية التي رسّخها في ايطاليا، لأن هذه الذهنية بالذات ليست ملكا لبرلوسكوني وحده بل تمثل في رأيي نموذجا اوروبيا اليوم، نموذجا استهلاكيا، ماديا، سطحيا للغاية، قائما على المال والمظاهر والتفاهة والتنافس والخداع والسبل الملتوية والنجاح السريع والسهل. لم تعد هذه مشكلة ذات طابع محض سياسي، بل باتت أيضا آفة انتروبولوجية، لأنها استطاعت تغيير مجتمعات بأكملها: جزء كبير من المجتمع الايطالي مثلا تغيّر اليوم نحو الأسوأ. من السهل نسبيا التخلص من برلوسكوني، ولكن من الصعب جدا التخلص من “البرلوسكونية”، لأنها مجموعة أفكار ومواقف باتت منتشرة في جميع أنحاء الغرب.
حان الوقت لكي يخاف الأميركيون

– ليس في الغرب فقط: عندنا نحن أيضا نماذج برلوسكونية كثيرة، صدقني.

– أرأيتِ؟ إنه نموذج قابل للتصدير. إنه وباء “كوني”. وهو ناتج أيضا من النظام الاقتصادي: المال والمنتج والبضاعة هي المهمة، لا الأشخاص. إذا لم يغيّر العالم وجهته نحن ذاهبون الى الدمار الشامل. العالم هستيري في هذه اللحظة، ويجب على الأجيال الشابة البحث عن الأصالة بغية محاربة هذه الفظاعة وهذا الجنون. انظري الى ما يحصل في العراق.

– أين سيذهب بنا الأميركيون؟

– فعلا، أسأل نفسي ذلك دائما. أين سيذهبوا بنا؟ وأخاف من الاحتمالات التي تخطر لي عندما أتساءل. لكني وجدت طريقة اخرى للنظر الى المسألة: أثناء الانتخابات الأميركية، كتبت جرائد كثيرة: “مصير العالم مرتبط بأميركا”. لكني فكرت من جهتي: بمن يرتبط يا ترى مصير الأميركيين أنفسهم؟ من السخيف من جانب الأميركيين ان يفكروا ان مصير العالم مرتبط بهم، من دون أن يأخذوا في الاعتبار عكس ذلك أيضا. ربما حان الوقت لكي يسأل الأميركيون أنفسهم هذا السؤال، ربما حان الوقت لكي يخافوا…

– لقد سبق ان خافوا، وخوفهم تحديدا هو ما أودى بنا الى مزيد من الكوارث.

– لأنه لم يكن خوفا صحيا. إنا لا اعني نوع الخوف الذين شرعوا به عندما حصل اعتداء 11 أيلول، بل أتكلم على الخوف الوجودي الحقيقي العميق. هم شعروا بالخوف الذي يدفع الانسان الى الخروج من بيته والدخول الى اول متجر وشراء مسدس. هذا الخوف لا يؤدي الى مكان ايجابي، انه سطحي وسلبي وهو الذي دفعهم الى تلك العدائية السياسية والدينية والعسكرية السخيفة. الأميركيون يحتاجون الى مخاوف الانسان الكبيرة، الحقيقية، تلك التي نتعايش معها كلنا، وإلا سيظلون يدورون في حلقة مفرغة. لقد أوقعوا المنطقة في ورطة كبيرة. لكم ارغب اليوم مثلا في زيارة سوريا، لكن الوضع للأسف ليس آمنا.

– أعرف انك تعشق السفر. أي بلدان عربية زرت؟

– زرتُ بلدان المغرب العربي، والأردن. بترا رائعة ولا تنسى. السفر كالكتابة، مجازفة، ذهاب نحو المجهول. أنا لا أكف عن التنقّل، والسفر شغفي الأكبر الى جانب الأدب.

– لنختم إذا بصوغك هذا الشغف في كلمات يا أيها النجّار .

– حياتنا في ذاتها رحلة. الانسان ولد ليكون رحالة. أنا هكذا، أتسلل من حضارة الى اخرى. لا أحب فكرة الجذور، ولا افهم أولئك الذين يقولون: “جذوري هنا”، او عبارة “العودة الى الجذور”. أنا لست شجرة. أنا إنسان ولي قدمان وقدماي تمشيان وتحملانني الى كل ما استطيع ان أبلغه من أراض. اعتقد أننا نحمل جذورنا في دواخلنا، لا في أمكنة محددة. ثم أنا لا أسافر لكي أكتب عن أسفاري، بل لكي أعيشها، وهذا تمييز مهم. أي ان دافع السفر عندي ليس مهنيا، بل شخصيا: ابحث فيه عن متعتي الخاصة. لا اشغل نفسي بكتابة ملاحظات عن الرحلة، لا بل افقد غالبا كل شيء، حتى بطاقات السفر، لأني استسلم كليا للذة الاكتشاف والمفاجآت! المكان في ذاته لا يعني لي شيئا، بل الأشخاص الذين التقيتهم والتجارب التي أعيشها. لا تهمني المناظر الطبيعية بل الناس، واحمل معي هؤلاء أينما ذهبت. اسرقهم من حيواتهم وأجرجرهم ورائي كموكب. أرأيت؟ أنا سارق مزمن، غير قابل للشفاء!

 

عن الملحق الأدبي للنهار
Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail