ليس ذنبها / نعيم الخطيب

 

 

القدس لا تحادثني كما يجب! ليس ذنبها، أعلم، وليس للأمر سوء علاقة باللغة، أو بهندسة النجمة، أو بطول الضفيرة، أو بلون المعطف، أو بخاتم سليمان، أو بناطح الحجر، أو بقطع الليجو، أو بسائقي الفورد، أو بموقف تاكسيات الأجرة، أو بمعلقة لمنحرف في مؤخرة كبيرة لسيدة على حائط مرحاض عام في موقف الحافلات المركزي، أو بالسائحين في باب العمود، أو بتحية العشب، أو بقارب المهاجرين الأوّل، أو ببقايا آليات صدئة في الجبل، أو بطعم البيرجر بالجبنة في الأمريكان كولوني، أو بخدمات مشتركي بيليفون في تل بيوت، أو بدائرة المساحة الإسرائيلية، أو بعناق طويل لمراهقين في انتظار الحافلة في التلة الفرنسية، أو برعب ركاب يهود اندلقوا من نوافذ وأبواب حافلة بعد انفجار إطارها صدفةً، أو بكلاب حراسة الحدود تشتم الأدرينالين في دمي وتصريح لا أحمله في جيبي.

القدس لا تحادثني كما يجب! ليس ذنبها، أعلم، وليس للأمر حسن علاقة برحيل عيوني شطر القبة الصفراء أينما وليت وجهي في المدينة، أو بطعم الملبن بالقزحة، أو الكعك بغموس الملح والزعتر، أو بساندويتش كباب من بائع متجول، آكله بالرغم من ارتفاع الكوليسترول في دمي.

القدس لا تحادثني كما يجب! ليس ذنبها، أعلم، وليس للأمر أي علاقة بعمر، أو بصلاح الدين، أو بالشيخ رائد صلاح، أو بتغيير القبلة، أو بتعليق الصخرة، أو بحريق الأقصى، أو بأصوات المقرئين، أو بالمتوضأ، أو بتسمية جبل أبو غنيم، أو بمسار الجدار الفاصل، أو بالهويات، أو بتراخيص البناء، أو ببيت الشرق، أو بالأجراس، أو بالبيوت القديمة، أو بالباعة، أو بالطرقات الضيقة، أو بخيول ذوي البزات الزرقاء، أو بالكلاشيه، أو بالوطنية، أو بحوار الأديان، أو بثقافة المتروبول، أو بالأصالة، أو بالتاريخ.

القدس لا تحادثني كما يجب! ليس ذنبها، أعلم، وقد يكون للأمر علاقة بأوّل وظيفة تقدمت لها: (مساعد مدير دائرة نظم المعلومات) في مكتب الأونروا في حي الشيخ جرّاح. تطلب الأمر حصولي على تصريح، ومقابلة الميجر أمل والكابتين رامي ـ ورامي هذا كان يعرف شباب المخيم بألقابهم، فكان عندما يتعرقل أحدهم أثناء هروبه من الجيش مثلاً، يأتيه صوت رامي عبر مكبر الصوت: “روِّح يا محمد، بكفيك وقعتك” ـ كنت مستمعاً جيّداً يومها للميجر أمل وهو يحاول اقناعي أننا كفلسطينيين نملك الكفاءات والمؤسسات الكافية لإدارة شؤوننا بأنفسنا. بعد مدة، تلقت عمتي ـ ناظرة المدرسة المجاورة لبيتي ـ مكالمة هاتفية من مديرة دائرة نظم المعلومات، كانت أكثر من لطيفة عندما أخبرتها أنّني حصلت على أعلى درجة في الامتحان التحريري للوظيفة، وأكثر من موضوعية عندما أبلغتها اعتذارها عن عدم تأهلي للمقابلة الشخصية لاعتبارات تتعلق بمكان سكني.

القدس لا تحادثني كما يجب! ليس ذنبها، أعلم، وقد يكون للأمر علاقة بأوّل مرّة دخلتها بسيارتي. ركب يومها معي شاب مقدسي قبل هبوطي افعوانية وادي النار ـ كانت جزءاً من الطريق (الآمن) المقترح بين غزة والضفة ـ في طريقي إلى رام الله. ولكي يضمن صديقنا وصوله إلى أقرب مكان من بيته، أدخلني طرقاً جانبية التفافية، مخالفاً لخط سيري الآمن، لأجد نفسي تائهاً في شوارع القدس الكبرى، أحاول بلا جدوى إخفاء ارتباكي ولوحة مرور غزة عن أعين الشرطة وحرس الحدود.

القدس لا تحادثني كما يجب! ليس ذنبها، أعلم، وقد يكون للأمر علاقة بأوّل ليلة اعتكاف في الأقصى. ليلة القدر في ساحات الأقصى مهرجان دعاء وبكاء، ترتيل، تراويح وتسابيح، باعة متجولون، أحدهم يصنع الشاي في قدر طعام كبير، شيخ يدعو الشبان عبر مكبرات الصوت إلى تفويت الفرصة على رغبة الجيش في إفساد روح الليلة. شاركت الرجال والنساء والأطفال صلواتهم في كل الساحات، وقادني القدر ليلتها لمصلين أشداء في الساحة الشرقية الجنوبية، شاركتُ جماعتهم في ركعتين قصيرتين، طالتا حتّى بدأ الشبان بالوقوف على أقدامهم اليمنى تارة، واليسرى تارة أخرى، قعد بعضهم من التعب، وغادر البعض الآخر. الصلاة جاءت بالصدفة خلف شيخ مُحَرَّر، أبرز مؤسسي الحركة الإسلامية في السجون. تندّر من كان بجواري شاكراً؛ شيخنا قرأ سورة البقرة يومها ولم يقرأ سورة الفيل.

القدس لا تحادثني كما يجب! ليس ذنبها، أعلم، وقد يكون للأمر علاقة بأوّل خيبة من خطيب المسجد الأقصى. كانت إحدى المرات التي أعرت فيها ظهري لباب المغاربة. وأرسلت صورتي على الهواء مباشرة لأهلي في الشتات أيضاً؛ لم يكن وقتها بريدٌ إكتروني ولا رسائل وسائطٍ متعددة. ساحات الأقصى كانت تعج بطلاب بزيهم المدرسي، وطلاب جامعات ومعاهد، ومقدسيين. الجيش لم ينجح في تأمين (أمناء الهيكل)، ولم ينفخ أحدهم بوقه. الخطيب ألهب مشاعرنا يومها، عندما خاطبنا مستهلاًّ بـ (أيها الحفل الكريم).

القدس لا تحادثني كما يجب! ليس ذنبها، أعلم، وقد يكون للأمر علاقة بموت أوّل رجل بالذبحة الصدرية أثناء سيره أمامي في طرقات المسجد الأقصى. لا أدري لماذا اختارني لكي يتكوم تحت أقدامي يومها. لم تجدِ محاولتي لإسعافه، ولم تسعفني كذلك مطالبة الشيخ الجليل بالدعاء له بالرحمة، ولا نظرة الاستياء في عيون المصلين الخاشعين المنصتين للخطيب الملهم فيما كنت أبحث عن إبرة طبيب في كومة قش. في الجمعة التالية شعرت بالنشوة، عندما أثمر غضبي في وجه مسؤول الأوقاف سيارة إسعاف مجهّزة، بجوار غرفة صغيرة أعرفها جيّداً في ساحات الأقصى. عند اقترابي، زالت النشوة؛ خرمت عيني حُمرة نجمة داوود.

القدس لا تحادثني كما يجب! ليس ذنبها، أعلم، وليس ذنبي… ربّما.

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail