آلام بازوليني / يوسف شيخو

إن الحديث عن شخص كما الايطالي بيير باولو بازوليني (1922-1975)، الذي دفع حياته ثمناً لطرح الممنوع في ظل واقع سياسي واجتماعي تسيطر عليه ثلة من القتلة وتجار الدماء خلف بزات سياسية وعمامات دينية، لا يمكن إلا أن يصفه بالنموذج السينمائي المتمرد على مصدر القلق الذي يهدد جمال الوجود الإنساني. إنه ظاهرة مثيرة؛ حاولت تمجيد الخيال للحصول على الحرية المفقودة في عالم الواقع، الذي كان يعيش معه علاقة رفض متبادلة. كلاهما يرفض الآخر. اختصر مأساة العالم في شاشته، وهاجم الفساد السياسي والأخلاقي في عقر داره.
احتفى بالجسد واكتشف من خلاله المعرفة، التي ترسم سبل التحرر من السلطتين الدينية و الدنيوية، كما في إحدى قصص ‘ألف ليلة وليلة’. فالجسد إلى جانب الروح في سينما بازوليني وسيلة تعبير شعرية لخلق قصائد عنيفة، تصور العالم الميتافيزيقي بطريقة حسية ملموسة، يكتنفها غموض. يصور أحلام الطبقة الكادحة وارتباطها بالدين والجنس. ويتعمد إظهار روعة جمال الجسد الإنساني ثم يظهر بؤسه بعد الموت، كما في بعض مشاهد ‘ألف ليلة وليلة ‘ وكذلك في فيلم ‘Salo’ حيث الأجساد البريئة تتحول إلى كتلة من المأساة.
لقد وقف بازوليني على مقربة من السلطات اليمينية في إيطاليا، ليراقبها ومن ثم يقوم بتعريتها. فهو عدو الفاشيين وثائر على الكاثوليكيين. اقتحمت أعماله جوانب اجتماعية ودينية وسياسية؛ لم يجرؤ أي مخرج سواه على تخطيها. ويعتقد البعض أن فيلم ‘Salo’ المأخوذ عن رواية المركيز دوساد، قد أنهى حياته بشكل مأساوي على احد شواطئ روما عام 1975. ففي هذه اللوحة السوداوية، تخطى الممنوع بجرأة لا تعرف المواربة. فها هي ثلة ارستقراطية تصطاد مراهقين، من كلا الجنسين تحت ستار سياسي ديني- يصبحون خدماً وعسكراً وأدوات تسلية، ليتعدى الارستقراط بذلك، شكل السلطة الأبوية إلى سلطة إلهية مطلقة.
ففي وقت تجنب فيه الجميع تناول مفاسد السلطة السياسية والدينية، حطم بازوليني ما تبقى من أصنام الفاشية والكنيسة في بث قيم باتت شبه مقعدة، فصنع فيلم ‘ماما روما’ كنموذج للمرأة المتدفقة حيوية ونشاط لتبيع نفسها للمترفين. وكذلك الأمر بالنسبة لفيلمه ‘الفؤاد’ بحيث يحاول القواد إلى تطهير نفسه عبر دخول مقبرة وهو يتوسل حفّار القبور أن يدفنه في احد القبور مع جثة مجهولة. وفي ‘النظرية’، يدخل محيطاً برجوازياً تحت عباءة الآلهة-؛ ليثير حواراً حول علاقة الروح بالجسد، وهنا، تتعدد مصائر شخصيات المنزل البرجوازي، فمنهم من يفقد القدرة على الحركة والكلام، وآخر يصاب بحالة هوس فيخلط الألوان ويرسم لوحات تجريدية، وثالث يهيم في الشوارع بحثاً عن اللذة.
في’ماما روما’، هناك أكثر من شكل للصليب. فخلال مسير المرأة وابنها تحت الجسر يمكن ملاحظة تغيّر شكل الجسر الذي كان يشبه الصليب. في نهاية الفيلم ترى الابن مصلوبا ومقيدا على سريره بالمستشفى. هنا عرض لرمز مقدس هو الصليب وقصة السيد المسيح بما تحويها من ألم. ولم توظف هذه الاستعارات الدينية لقداستها بقدر اعتبارها شاهداً على الألم الإنساني.
يقول الناقد الأمريكي ستيفن سنايدر، إن بازوليني رجل ذو نفاذ بصيرة وإدراك روحيين من دون كنيسة؛ ماركسي من دون حزب. يشاطر الماركسية في أن درجة الحريَة في مجتمعٍ ما هي علي نحوٍ كبير مقياس لحرية نسائه. فالاقتصاد الرأسمالي، وفق بازوليني، يبدأ باستغلال الرجال للنساء. في ‘ماما روما’ نجد العاهرة تحاول بلوغ الحرية، لكنها تفشل. فمن الصعب علي بازوليني أن يتصور قصة تحرير ذاتي ناجحة لا تكون كذلك قصة لتحرير المرأة. وقد حاول بازوليني الإشارة إلى العلاقة الشديدة بين السلطة والدماء، والعلاقة المعقدة بين الدماء والمَني، والتي من خلالها تعاد صياغة العالم، وتشكيل السلطة وانتقالها من الميتريركية إلى البطريركية. ومن هنا كثرت المشاكل التي تعرض لها في حياته الفنية.
في المحصلة لا يمكن وصف أعمال بيير باولو بازوليني، إلا تحف نقدية صُنعت للنخبة، في اعتبار أن المشاهد العادي، لن يستطيع متابعة هذه الأعمال، دون أن يبدي دهشته حيال البعض منها، أو قد يصيبه الملل لعدم استيعابه المضمون الغامض، بل ربما وصف صانعها بالمريض في حال اعتمد على قراءته البريئة، المعتادة على الفيلم التجاري، وفي حال تابع..فانه سيخرج بما هو سطحي دون أن تبلغه الرسالة التي أراد المبدع الايطالي أن يوصلها.

عن القدس العربي
Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail