إيمـي سيزير – شاعر المارتينيك

محمد بودويك*

في مثل هذا الشهر، يوم 17 أبريل العام 2008، رحل أحد الشعراء الأفارقة والعالميين الكبار. وهذا المقال توثيب واستحضار لذكرى قامة شعرية، ملأت أجواء باريس، ومنتدياتها وفضاءاتها، نضالا وسجالا وشعرا حول افريقيا والتحرر والزنوجة، شعرا ضخ دما افريقيا فوّارًا أحدث انقلابا في لغة الشعر الفرنسية.
ولد إيمي سيزير بتاريخ 26 يونيو 1913 ضمن عائلة كثيرة الأولاد ومتوسطة الحال، في شمال جزيرة المارتينيك.
وفي قصيدته الأساسية : ‘دفتر عودة إلى بلدتي’ رسم إطار مركزا ودالا عن طفولته : (المنزل الصغير ذو الرائحة الزنخة في زقاق ضيق).
ورغم القضاء على نظام العبودية والاسترقاق في المارتينيك سنة 1848، فإن شروط الحياة الكريمة بالنسبة إلى السود لم تتحسن، بل ظلت مطمحا. من ذلك منع الأهالي من إمتلاك الأراضي التي استمرت رهن الاستزراع الاحتكاري لقصب السكر، ومن ذلك أيضا: سيادة الأمية والجهل. وفي العام 1924، عندما ولج سيزير ثانوية شولشر بفور دو فرانس، أصبحت العبودية في خبر كان، ومع ذلك لم تتغير العقليات بما يكفي، لأن اسوداد البشرة كان يتماهى مع الدونية والانحطاط.
فكيف انبثق مفهوم ‘الزنوجة’ أو ‘الزنجية’، وماذا يعني أولا؟. يقول الناقد بنعيسى بوحمالة: ‘إنها تلك الحركة الفكرية والإبداعية التي قادها رعيل من المثقفين والمبدعين السود خلال الثلاثينات ثم نَضَجت وتدرجت إلى أن تحولت إلى ما يشبه عقيدة مشركة بين السود في افريقيا وأمريكا والأنتيل تختزل قضاياهم ومشاغلهم، وتجسد تصوراتهم وتطلعاتهم.
إن الزنجية بهذا المعنى هي الواجهة الفكرية والإبداعية للوضع الإشكالي الذي عرفه العالم الأسود من جراء الاحتكاك بالبيض مما أدى إلى انطراح جملة من الأسئلة ولدتها التجربة التاريخية المريرة التي عاشها السود في كنف علائق مغبونة مع البيض لأنها قامت على العنف والتدمير’ (1).
وهناك مجموعة من الشهادات، ومن بينها شهادة ليون داماس، التي تقول بأن وراء إطلاق مصطلح زنجية أو زنوجة (N’gritude) يوجد كل من إيمي سيزير، وليوبولد سنغور.
في كتابه : ‘زنوجة وعلماء زنجية’، يتحدث ستانيسلس أدوتير، عن ولادة مصطلح الزنوجة، هكذا :
(ذات يوم، قال سيزير لسنغور: ‘علينا أن نؤكد زنوجتنا’ ومن ثم، ولدت كلمة زنوجة ذات يوم فيما يبدو- بساحة السوربون).
ولاشك أن الأشياء في الواقع- عبرت عن نفسها بطريقة أخرى لعلها أن تكون أكثر إيلاما وعمقا مما ذكرنا.
من جهة أخرى، لعبت السوريالية والماركسية دورا في حياة الشاعر سيزير، إذ تأثر بهما في كتاباته الشعرية والنثرة.
وفي كثير من صور وأجواء نصه الأساسي الطويل (دفتر عودة إلى بلدتي)، تستوقفنا غرائبية خاصة، وسيولة اللاوعي، والهذيانات القادمة من تقاطعات الكوابيس والأحلام وحلكة الواقع؛ علما أنها : قصيدة واحدة طويلة تفيض بالشوق والحنين إلى كل ما هو إفريقي. فالكلمة، في الشعر الذي يكتبه الأفارقة الزنوج بشكل عام، فيما يقول سنغور، تعلو على الصورة، فهي الصورة المناظرة دون أدنى مساعدة من الاستعمارة والتشبيه، إذ يكفي أن تسمي الشيء فيبدو المعني أسفل الإشارة (2).
هذه السوريالية المومأ إليها لم يسلم من رذاذها بَلْهَ شعاعها حتى شاعر افريقي كبير كسنغور- مع اعتبار سوريالية المقموعين، ومعذبي الأرض بلغة فرانز فانون مواطن سيزير، التي تظل نائسة بين الواقع المجروح، والهوية الموشومة، والأرض المغتصبة، والتراث المقتلع؛ أي تظل منقوعة في ماء الدلالة الأعم بما يفيد الالتزام بقضايا الشعب، ويؤشر على الرسالة الحضارية التي يحملها شعراء إفريقيا، وجزر الأنتيل، والمهمة الجليلة التي طوقوا أنفسهم بها ليغنوا للسود أينما كانوا- نشيد الآدامية والإنسانية والمساواة.
إننا نقصد عملا آخر مبصوما بالعجائبية السوريالية، ويتعلق الأمر بكتابه الشعري: (الأسلحة الخارقة Les armes miraculeuses) الذي ظهر أول ما ظهر في مجلة : (مدارات) (Tropiques).

في مقال بعنوان : (نحن والسوريالية)، تحدد سوزان سيزير (زوجة الشاعر)، ما تمثله الحركة إياها بالنسبة إلى الشاعر : ‘إنها ماكينة حرب حيث يعود الفضل إليها في الإبقاء على نصاعة الحرية التي تغذي وترعى جيشا كثيفا من اللاءات. وهي الماكينة التي تشتغل في آن واحد- كأداة عصيان ضد الغرب، وأداة محو واقتلاع للمجتمع المارتينيكي، ذلك أن السوريالية، وهي تفتح طرق اللاوعي، تتيح للأنتيلي إمكانية التحرر من استلابه الثقافي، والوصول إلى الحقيقة والصدقية : (سورياليتنا ستقدم له خبز أعماقه الخبيئة المطهرة بلهب النار الزرقاء، نار اللحامات المزجية، والحماقات الكولونيالية).
ماكينة الحرب هذه ستفضي إلى معركة سياسية. وبالنسبة إلى إيمي سيزير، فإن المعركة الثقافية هي في كل الأحوال أساسية كالمعركة السياسية.
وفضلا عن قصيدته الطويلة (دفتر عودة إلى بلدتي)، فقد أصدر الشاعر كما ذكرنا- للتو-: ‘الأسلحة الخارقة’ العام 1946 بعد عديد من القصائد التي ظهرت منذ العام 1944 في مجلة (مدارات)، كما أصدر ‘شمس عنق مقطوع’ العام 1948 و’أغلال’ ‘Ferrements’ سنة 1960، ومساحة ‘Cadastre’.
فبالإضافة إلى البصمة السوريالية في هذه الأعمال المذكورة، تحضر نصوص غائبة، بهذا القدر أو ذاك، في شعره لشعراء مختلفين ومتنوعين كبودلير ومالارميه الذي فتنه بموسيقية شعره، ونبراته الغامضة المبهة التي تعتمد تشقيق اللغة أو البحث عن المفردات النادرة. وكذا تأثير رامبو الذي كان يكره أوروبا، ويحلم بإفريقيا، برامبو الذي قال:
(أنا حيوان أنا زنجي)
صارخا بملء عقيرته :
القداس !
(ينبغي الخضوع للتعميد…
(دم فاسد)
وكذا تأثير لوتريامون الذي اعتبره سيزير، شاعر الأزمنة القادمة… من دون أن ننسى ‘غيوم أبولنير’.
كل هذه التأثيرات، هذه النصوص الغائبة، وأخرى غيرها، لا تنقص البتة، من أصالة عمل سيزير الشعري، لأن شعر سيزير يضلل عادة من خلال: غنائية جامحة وجنون بلا ضفاف، وشكل غامض وملتبس.
هذا الفيض الشعري المجنون هو جنون أرض الأنتيل حيث الجمال وقاحة بجانب بؤس الرجال. وشكل غامض وملتبس لأنه يتغذى من مرجعيات تحيل إلى رموز بعيدة الغور، ضاربة في ليل افريقيا وتراث الأنتيل.
وبإجمال، إنه شعر يستند إلى إيقاع خاص: (جاز- تام- تام- زنجى)، حيث تتمرأى مؤثرات أخرى ليست غير مؤثرات الشعراء الأمريكان السود.
وإذا ما عدنا إلى نصه المركزي : ‘دفتر عودة إلى بلدتي’، ألفيناه قمة أعماله جميعا. وهو النص الموصوف من قبل كاتبه ب : القصيدة المضادة. إنه النص الذي ينطوي على الصرخة الشهيرة المستعادة بلهفة وحرقة من لدن جيل كامل، والتي تعتبر بيانا بامتياز عن الزنوجة السيزيرية :
زنوجتي ليست صخرة، صَمَمُهَا
يَثِبُ على صخب النهار
زنوجتي ليست وَدَقَة
لمياه ميتة
فوق عين الأرض الميتة
زنوجتي ليست برجا ولا كاتدرائية
إنها تغوص في لحم الأرض الأحمر
تغوص في لحم السماء المتقدة
وتخترق طبلة الإرهاق المعتم.
فالمسار الذي يرسمه النص الشعري محدد بدقة ووضوح، إذ أن الأمر يتعلق بشاب مثقف يعود إلى جزر الأنتيل، وفي آخر رحلته، يكتشف ثانية ليس الجزر الفردوسية التي وصفها جيلان من النَّظَّامِين قلدوا قِرَدِيًا أوصاف أسيادهم الفرنسيين، ولا جزر الشاعر سان جان بيرس، فردوس طفولته المفقود :
خادمتي
كانت خلاسية
تضوع رائحة خَرْوَعٍ
دوما
كنت أرى على محياها
للآليء من حبات العرق.
بل يكتشف جزر البشاعة والبؤس واليأس، مشهرا بها… ورافضا لأغرابيتها، غير أنه يمجدها ويمدحها، ويمدح مواطنيه البسطاء :
أولئك الذين لم يخترعوا لا بارودا
ولا بوصلة…
أولئك الذين لم يعرفوا قط تدجين
البخار والكهرباء
أولئك الذين لم يكتشفوا
لا بحارا ولا سماء.
وفي تضاعيف النص الشعري، ينطرح مشكل هوية ضائعة تم إنكارها ونكرانها، وها هي ذي تستعاد متوهجة بالوسائل كلها، وبالثمن جميعه :
أقبل … أقبل كاملة
سلالتي التي لن يستطيع تطهيرها
ماء النبات والزنبق مجتمعين
سلالتي المنخورة بِسُقَع الشمس
سلالتي الغبية الناضجة
لأقدام سكرى
سلالتي ملكتي.. ملكة البصاق والجذام.
هذا هو إيمي سيزير… شاعر المارتنيك الأكبر.. العابر الهائل وسط العباب والضباب وتفارق الأصوات والموافق.. باصم جزر وشعرية مؤتلقة ومصطخبة، يقودها وهج الزنوجة.. وأصوات ضاجة بالحكمة والدم والطواطم قادمة من ليل إفريقيا البعيد.. وجزر الأنتيل الغامضة و الغاوية.
سيزير الذي عاد إلى وطنه، ليخدمه بشعره وفكره وسياسته على مدى عقود وأعوام في أتون جدل محتدم حول رصيده النضالي، ومتنه الشعري وإسْهامه في إعلاء مرايا جزره. لكنه سيظل بكل تأكيد، شاعر الحرية والكرامة الإنسانية، شاعر الأنتيليين الذين أصروا على أن يثوى جثمانه في أرضه التي أعطاها الكثير، على أن يدفن في مقبرة الخالدين بباريس كما اقترح الرئيس الفرنسي ساركوزي، والزعيمة الاشتراكية رويال.. وأصوات أخرى أحبت سيزير: الأسطورة السوداء المتلألئة أبدا.

*اعتمدت في إعداد هذه المقالة على بعض مفاصل كتيب نقدي كرس للشاعر العام 1978- منشورات Profil dune uvre 63 ‘ cahier dun retour au pays natal ‘ – Hatier.
1-بنعيسى بوحمالة ‘النزعة الزنجية في الشعر المعاصر’ محمد الفيتوري نموذجا منشورات اتحاد كتاب المغرب- ص 204.
2-علي شلش الشعـر الأفريقي المعاصر- المـوسوعة الصغيـرة رقم 251 العراق- 1978.

* عن القدس العربي
Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail