مثقفـو المـؤسَّسَـة / صلاح بوسريف

في مقاله ‘ كيف يفكر المثقف اليوم؟ ‘، كشف الدكتور حسن حنفي، عما سمَّاه بـ ‘ السِّمات العشر ‘ التي تُمَيِّز هذا ‘ المثقف ‘ اليوم. وهو ‘ مثقف ‘ يعيش حالةَ هُيامٍ بالذات، وادِّعاء العلم والمعرفة، والاستيلاء على الكلام، واحتكاره، بما يجعل منه الصوتَ الوحيدَ الذي يتكلم، ولا يستمع إلاَّ لـ ‘ ذاته ‘؛ ما يأتي من غيره لا قيمة له، أمام ما يقوله هو، أو ما يَدَّعيه من أفكار. فهو الصوت، وهو الصَّدَى.
في ختام المقال يشير د. حسن حنفي إلى أن هذه السمات، التي عدّدها في مقاله، ‘ لا تنطبق ‘ لحسن الحظ على ‘ مجموع المثقفين، بل على أعلاهُم صوتاً، وأكثرهم حضوراً، وأبرزهم اسماً [ ممن] لا يخلو مؤتمر أو ندوة أو لقاء منه. وسيستمر ذلك إلى حين، حتى تنتقل الثقافة من مرحلة الإعلام إلى مرحلة العلم، ومن مرحلة القول إلى مرحلة الفكر، وقد يحتاج ذلك إلى عدة أجيال ‘.
في هذا ما يُشير إلى طبيعة الوضع الذي نعيشه اليوم في سلوكنا الثقافي، وفي مفهوم ‘ المثقف ‘ نفسه، وما يصدر عنه من أفعال، هي نوع من المرض الذي أفضى بالثقافة أن تصير قتلاً وإبادةً، وتفتقد بالتالي، إلى ما ينطوي عليه العمل الثقافي، نفسه، من التزام، ومسؤولية.
لا أحد يُنْكِر هذه ‘ السِّمات ‘، ولا هذا السلوك الذي أصبح سائداً ومعروفاً، بين المثقفين، وبين غيرهم ممن يتابعون الشأن الثقافي العام. فئة من ‘ الشُّعراء ‘ و ‘ النقاد ‘ و الروائيين ‘، و’ الجامعيين ‘، ممن يعملون في مجال الفكر، وفي غيره من حقول التخييل و الإبداع، هم من يتكلمون، بدل غيرهم، وهم من ينطقون باسم الثقافة والفكر والإبداع، بالانتقال من ندوة إلى أخرى، ومن مهرجان إلى آخر، لا ينزلون من طائرة، حتى يستقلون أخرى، ولا يتركون ندوة، إلاَّ ليذهبوا لغيرها. لا وقتَ إلا للسفر والكلام.
هؤلاء في أغلبهم، إما يكونون أصحاب مؤسسات ثقافية، من قبيل اتحادات الكتاب ! وبيوتات الشِّعر ! أو من محرِّري الصفحات الثقافية ببعض الجرائد والمجلات، وإما ممن يعملون في مؤسسات الثقافة التابعة للدولة ! أو ممن يحظون بتزكية بعض المُتَنَفِّدِين من المثقفين الذين يقومون بدور الوساطة، في اقتراح أسماء بعض المشاركين من هؤلاء.
مَنْ ينظر في اللقاءات والندوات والمهرجانات والمعارض الدولية للكتاب، التي تُنَظَّم هنا أو هناك، في أي مكان من العالم، سيجد أن أسماء ‘ المثقفين العرب ‘، هي نفسها تتكرَّر. الاختراقات التي تَحْدُث، في بعض هذه اللوائح، تكاد تكون نادرةً، أو شبه منعدمة.
لا أفهم مثلاً، معنى أن يأتي الناس إلى نفس المكان، ليستمعوا لنفس الشخص، في كل مرة، وكأن الشِّعرَ، أو النقد أو الفكرَ، لا يوجد من يتكلَّم فيه إلا هذا الشخص، وربما باستعادة نفس الكلام، وبنفس العبارات. أليس هذا التكرار في الوجوه، وفي الأسماء، وفي الكلام، هو نفسه التكرار الذي نعيشه في الأفكار، وفي بنية التَّحَكُّم والهيمنة التي هي نفس بنية أنظمة الحُكم عندنا، مما خرجت الشعوب ترفضه، وتعمل على قلبه وإزاحته، رغبة في التجديد والابتكار، وفي التغيير؟
حين يكون ‘ المثقف ‘، صورة لنفس هذه البنية، أو مُنْتِجاً لها، فهذا يعني أنَّ المثقف هو صورة للحاكم، أو هو أحد ظلاله التي تعمل على تكريس الفساد، وعلى تبرير الظلم و المساعدة في استفحاله، ورفض كل اختلاف وتَنَوُّع، وعدم قبول الآخر، ورفض التَّنَوُّع والتَّجَدُّد، في الأفكار المواقف، ووجهات النظر.
المثقف، بما تعنيه الكلمة من اسْتِهاماتٍ، هو صوتٌ ضمن أصواتٍ، وهو حَجَرٌ ضمن بناءٍ، وليس هو الصوت الوحيد، أو البناء كاملاً. كما أنَّ المثقف، هو من يستمع للآخرين، يقرأُهُم، ويختبر معرفته من خلال ما يقولونه وما يكتبونه، وليس من يتغاضى عن هؤلاء الأغيار، أو ينفيهم ويعمل على إقصائهم أو تجاهُلِهم، سواء في ما يحيل عليه من مراجع، في كتاباته، أو في ما يقوله لِطُلاَّبِه، في الجامعة، أو في ما يصدر عنه من رأي.
لم يأتِ المثقف من عَدَمٍ، ولم يَكُن، مجرَّدَ أمْرٍ إلهيٍّ: ـ ‘ كُنْ ‘، فكانَ. فالمثقف لا يكون إلاَّ بهؤلاء الأغيار، وبهذه المعرفة التي نتبادلُها، بالقراءة، وبالنقد والمساءلة والحوار. كما أن النقد لا يعني ‘ الحقد ‘، أو العَداء فهو أفق للحوار ولتجديد الأسئلة، والارتفاع بالمعرفة والإبداع، من مستوى الاستعادة والاجترار، بما يعنيه من سلفيةٍ ونُكوصٍ، أو بقاء في نفس مربعات المعرفة القديمة، إلى معرفة متحرِّكَة، تَتَّسِم بالتَّجَدُّد، وقابلية الإنصات لِما يطرأ من مُتَغَيِّراتٍ، في كل حقول المعرفة والعلم والإبداع.
المثقف المنغلق على ‘ ذاته ‘، أو المُقيم في ‘ صوته ‘ فقط، لا يمكنه أن يُنْتِجَ نَصّاً جديراً بالقراءة، ولا بالحوار. فهذا شخص يعيش حالة سيكولوجية بئيسةً، لأنه لا يملك الجرأة في اختراق الصوت الآخر، ولا في مواجهة ‘ الأنداد ‘، أو ‘ الأغيار ‘، فهو يشبه في حالته هذه من يعيش في غرفة مغلقة، مُغَلَّفَةٍ بالمرايا، يتوَهَّمُ التعدُّد، في ما هو لا يرى إلاَّ صورته، وهي تتكرَّر في أشكالٍ مُحَرَّفَةٍ ومُشَوَّهَة.
فالأعلى صوتاً، والأكثر حضوراً، بتعبير د. حسن حنفي، ليس بالضرورة الأكثر معرفةً، أو هو الصوت الذي لا يقابله غير الصَّدَى. فالإعلام اليوم، أصبح تعتيماً. فكما يتم، في مَجالَيْ الغناء
والسينما، ‘ صناعة النجوم ‘، كذلك في الثقافة أصبح الإعلام، يصنع مثـل هـؤلاء المثقفيـن ‘ النجوم ‘، من ‘ الخبـراء ‘ في الشأن الثقافـي، الذين يتكلمون في كل شيء، ويشاركون في كل شيء، ويعملون على سَدِّ الطريق في وجه غيرهم، ممن ليسوا معهم في نفس الرأي، ولا في نفس الفكرة.
فهذا التَّعْتِيم الذي يعرفه الواقع الثقافي، هو انعكاس لصورة الواقع السياسي. لم يعد المثقف مُسْتَقِلاً برأيه، وبقراراته ومواقفه، ولم يعد قادراً أن يعيش بذاته، أعني بأفكاره، بقدر ما أصبحت ‘ المؤسسة ‘، بكل صُوَرِها، هي الإطار الذي يصدر عنه هذا المثقف، سواء أكانت مؤسسة سياسية، مثل الحزب أو الدولة، أو مؤسسة مدنية، مثل الجمعيات الثقافية أو الفنية، أو مؤسسة إعلامية أو جامعيةً. ثمة بين هؤلاء من لا يخرج من مؤسسة إلاَّ ليدخل أخرى، وهؤلاء أشخاص لا يوجدون بذاتهم، أو بما يؤسِّسُون له من أفكار، فهم يُدْرِكُون أن وجودهم لا يَحْدُثُ إلاَّ بـ ‘ آلَةٍ ‘، وهم بهذا المعنى، مثقفو آلاتٍ.
المثقف الإعلامي، أو مثقف المؤسسة، أو مثقف الآلة، بالأحرى، أصبح هو الناطق باسم الآخرين، والناطق باسم الثقافة والمثقفين، وهو المستشار الذي يقترح أسماء المشاركين في الندوات واللقاءات، وفي السفريات، وهو المُتَحَكِّم في زمام الشأن الثقافي،
ما يجعل منه سلطةً أمر ونهْيٍ، وسلطةَ قرار، أو حاكماً بأمره، وفق العبارة الدَّالة على التَّسَلُّط والاستحواذ والهيمنة.
ما ذهب إليه د. حسن حنفي، هو واقعٌ أصبح معروفاً وملموساً، كما يساهم فيه المثقف بقبوله بهذا التزييف والتزوير والهيمنة، وبإقصاء الآخرين واستبدالهم بغيرهم من التابعين والموالين، تقبل به مؤسسات الإعلام، التي تعمل بدورها على ترويج هذا التضليل، من خلال حَجْب المثقف ‘ العالم ‘، وإقصائه، في مقابل مثقف الإعلام، وفي حجب المثقف ‘ المفكر ‘ في مقابل المثقف الخطيب، الذي يخوض في استهامات اللغة، والتعبيرات البلاغية الإنشائية، دون بناء رؤية واضحة، أو موقف مُحدَّد، مما هو بصدده من أفكار، أو مواقف.
هذا الوضع ليس طارئاً، أو جديداً. فتاريخ الثقافة العربية، يكشف عن كثير من مثل هذه الظواهر، وعن كثير من مثل هؤلاء المثقفين الذين كانوا إما صوتاً للسلطة، أو صوتاً للحزب، أو كانوا بالأحرى، ممن لا يستطيعون العيش خارج المؤسسات، كما يكشف هذا التاريخ نفسه، أن هؤلاء هم، أيضاً، من تلاشَوْا، أمام الفكر والإبداع المُؤَسَّسَيْن، لأنّهم كانوا يذهبون في ما يقومون به، إلى المستقبل، وكانوا أصحاب أفكار، وابتداعاتٍ، أي أصحاب مشاريع، ولم يكونوا أصحاب مصالح.
لنأخذ المتنبي مثالاً على هذا الوضع، لِما اتَّسَمَت به شخصيتُه من تناقُضاتٍ والْتِباسَاتٍ؛ فهو بقدر ما أرتبط بالملوك والأمراء، بقدر ما كان مُهْتَمّاً بذاته، أعني بشعره. لم يَبْتَذِل أفكارَه وخيالاته، بل إنه فرض الشِّعر على الملوك والأمراء، ولم يفرض الملوك والأمراء على الشِّعر. فحين كان يبدأ بذاتِه فهو كان يرفع من قيمة الشِّعر، في مقابل قيمة الإمارة، أو من قيمة الذات في مقابل قيمة الآخر.
تلك الذات العالية، المُفْرِطَة في ذاتيتها، في شعر المتنبي، هي مُقابِلٌ شعري، لذات الأمير، باعتبارها سلطة مادية، أو هي بالأحرى، سلطة الذات في مقابل سلطة الدولة.
صيغة الحضور هذه لم تعد موجودة اليوم، كون المثقف اختار؛ إما ابْتِذَال ذاته، بالذوبان في سلطة الدولة، أو في سلطة الحزب، أو بالتَّفَرُّد، والاستقلال بفكره عن الدولة والحزب، ما جعله وجوده يكون بما يكتبه ويُذِيعُه من أفكار، وفق ما كان ذهب إليه غرامشي، مما لا نقرأه في فكره بوضوح معرفي، وليس بهذا النوع من الوساطات التي أصبحت أهم ما يصنع المثقف النَّجْم، أعني مثقف المؤسسة، لا المُثَقف المُؤَسِّس، ويفرضه كسلطة، خارج سياق الرمز، أو تستعمل الرمز وتَدَّعِيهِ.
أن لا يتنازل المثقف عن ذاته، بمعنى الفرادة والاستقلال في الأفكار، وحرية الرأي، معناه أن لا يتنازل عن قَنَاعَاتِه، وأن يكون سلطةً في ذاته، وليس بالمعنى السيكولوجي الذي يجعل من هذه الذات مريضةً، مُشَوَّشَةً، مُضْطَرِبَةً، لا ترى إلاّ حُضُورَها، وتعمل على إلغاء الآخرين، واستبعادهم، لأن في حضورهم، كما تتوهَّم، فضح لسطحيتها وغيابها، و لِما تتَّسِمُ به من تضليل، وهشاشةٍ، في الرؤية و في الموقف.

 

عن القدس العربي
Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail