يوسف وإخوته .. كما روى توماس مان / جوزيف ابشتاين

أي شخص يحب القراءة ولديه طموحات أدبية ما إن يقرأ للكاتب الألماني توماس مان حتى يدرك أنه أمام كاتب رائع ليس من السهولة فهمه لعمق كتاباته ولمسحتها الفلسفية التي تغلب معظمها كما في ” الجبل السحري ” أو ” الموت في البندقية ” التي من المرجح أنه كتبهما في المصحة السويسرية التي كان يعالج فيها من السل الذي أصابه ، وأظنني وجدت في قراءة رائعته ” إخوة يوسف ” التي كتبها ب 1207 صفحة لغة لاتخلو من تعقيد لكنها غنية بأحداثها ، قراءتي لها كانت منذ خمسة عشر عاما أو نحو ذلك مع أنني لم اطالع منها سوى 60 صفحة وبعد كل تلك السنوات عثرت على نسخة منها نظيفة في متجر للكتب المستعملة فكان لي أن أغتنم هذه الفرصة مرة أخرى لمعاودة قرائتها وقد اكتشفت أنها تحفة حقيقية لأن توماس مان اختارها والكثير من القراء يعرفون أن قصتها غير عادية على الإطلاق ، وقد كتبها على مدار 16 عاما يعيد فيها قصة مألوفة من سفر التكوين حدثت في العهد القديم أو كما كان يعرف بفترة العمارنة التي عاش فيها يعقوب إبن إسحاق وأبنائه الاثني عشر كان يوسف أكثر إثارة للإعجاب بينهم والذي لفت انتباه فرعون مصر ليصبح بعدها مسؤولا عن خزائنها بعد تفسيره للسنوات العجاف التي حلم بها الفرعون ، ومتناولا فيها الخيانة والغدر في أبشع صورها ، وزوجة العزيز بوتيفار التي روادته عن نفسه ، وغرور السلطة ، والصبر ، والإيمان ، والتخطيط السليم الذي ينم عن عقلية جبارة تتخطى المألوف ، والتسامح الذي لاحدود له كلها في سرد لايخلو من سحر .

أنفق مان 80 صفحة من ملحمته في تصوير خيانة زوجة بوتيفار ومحاولتها إغواء يوسف ثم اتهامه زورا بمحاولة اغتصابها بعد ان رأت منه تمنعا وصدود ما جعل من عزيز مصر سجنه كما ورد في النص الأصلي من السفر وأحداث أخرى كثيرة منها حديث الزوجة مع النسوة اللاتي قطعن أيديهن وأساليب الإغواء التي اتبعتها مع يوسف بوصف مقنع استغرق منه 16 عاما لإكمال الرواية بدءا من عام 1926 حتى عام 1942 ، ولغرض الوقوف على الأماكن الحقيقية التي جرت عليها تلك الوقائع فقد سافر عام 1930 الى الشرق الأوسط حيث زار دلتا النيل حتى أسفل النوبة وهي الأماكن التي يرجح ان تكون قد استقبلت أحداث الرواية الحقيقية في سنواتها الصعبة التي مر بها يوسف ، الزيارة هذه يقول عنها مان أنها منحته القوة للإستمرار في كتابة الرواية ، غير أن ألمانيا سرعان ما أصيبت بكساد اقتصادي كبير اضافة الى بقع كثيرة من العالم خلال تلك السنوات نتيجة لتداعيات الحرب الكونية الأولى ونجاح هتلر في انتخابات الرايخ الألمانية عام 1930 ما جعل مان يؤجل كتابتها مؤقتا ، وكان من السهل عليه التعرف على الأخطار التي تهدد الديمقراطية الوليدة في بلاده بمشاركته تشكيل جبهة لمواجهة اليمين المتطرف ، مشيرا في نفس العام الى التحذير على الانقلاب على الحياة البرلمانية ، وبعد وصول الحزب النازي الى الحكم عام 1933 لم يبق أمامه غير الهجرة ، بعد ذلك قام النازيون بسحب الجنسية عنه عام 1936 وبعد أن قضى بضع سنوات في السويد اضطر مجددا للهجرة الى الولايات المتحدة والإقامة فيها مع عائلته .

” يوسف وإخوته ” عمل كبير تظافرت فيه الدراسة المعمقة والخيال الخصب تسلل خلالها المؤلف الى ثقافة اليهود وكتابها المقدس ، وثقافة أخرى أكثر غرابة هي لقدماء المصريين ، وقد قال مان في وقت مبكر من شروعه بكتابة الرواية أنه لايخفي كم لاقى من صعوبة وهو يكتب عن أناس لايعرف بالضبط من هم ؟ مضيفا لمسات رائعة اخرى بحديثه عن حب يعقوب النبي لراحيل التي تزوجها فيما بعد ، مقارنا بينها وبين زوجة بوتيفار التي عشقت يوسف دون أن يبادلها ذلك العشق المحرم ، مع ملاحظة أن يوسف كان على علم بالدور الذي رسمه الله له ما أعطاه الشجاعة لتحمل كل تبعات الحياة وهو القادر على نصره ، توماس مان قال في ” يوسف وإخوته ” أنه صنع تحفة ستتذكرها البشرية مع تقادم الزمن مع أنها بنيت على ماض لن ننساه أبدا .

 

ترجمة / أحمد فاضل

جوزيف ابشتاين : كاتب أمريكي ولد عام 1937 في شيكاغو وقد عرف بكتابة المقالات والقصة القصيرة ، عمل محررا في مجلة الباحث الأمريكي كما حاضر في جامعة نورث وسترن من عام 1974 حتى 2002 وشارك أيضا كمحرر في ويكلي ستنادارد ، تقلد وسام العلوم الإنسانية من قبل المؤسسة الوطنية الأمريكية للعلوم الإنسانية وله عدة كتب منها كتابه الأخير الذي سيتم نشره هذا الخريف بعنوان ” مقالات في السيرة الذاتية ” ، ” إخوة يوسف ” هو أحد هذه المقالات .

عن صحيفة / وول ستريت جورنال / 24 أوغسطس / آب 2012

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail