هذيان وتاريخ وعضتان / زياد خدّاش

من الجنوب كان وادي “حنوم” يلمع بمائه المتدفق، من الشرق بدا وادي “قدرون” ناحلاً وحزيناً. أمسكت يدها وركضنا باتجاه باب الخليل، كنا نلهث، فقد هجم داود على “يبوس” قاصداً احتلالها، أمامنا الآلاف من الناس يركضون، ثلاثون ألف مقاتل بقيادة ابن أخت داود واسمه “يوأب”، يفتكون بالناس، ذبحاً وتشريداً، فرسان “يبوس” يقاومون بقوة، لكن المعتدين تمكنوا من احتلال “تل أوفل” المطل على قرية “سلوام”، أخذتنا أقدامنا المنهكة إلى “عين روجل”، النبع الوحيد الذي يستقي منه شعب “يبوس”، وفجأةً رأينا مجموعةً من المعتدين يهجمون على النبع، ويغلقونها، حتى يعطش الناس ويموتوا.
في كنيسة القيامة، سألتها: أتشعرين برهبة في الكنيسة مثلي؟؟ أجابت: نعم، لم لا نشعر بذلك في أماكن العبادة الأخرى ؟؟ أطرقت، ولم تجب، بعد أيام ستتصل بي من مدينتها البعيدة، لتقول: فكرت في سؤالك، إن رسوم الجدران في الكنائس تحكي قصصاً كثيرة، الصورة والحكاية، هنا الرهبة. أحنت رأسها على كتفي، قبلت شفتيها بهدوء لص واثق من خلو الشقة من أهلها، ضغطت على نهدها فارتعشت، وفجأة دخلت “هيلانة” أم الملك قسطنطين، كان يحيط بها العشرات من الحراس الأشداء، ارتبكنا، من المفاجأة، لكن ابتسامة أم الملك طمأنتنا، سمعناها تسأل من معها: أين موضع الصليب: فأخبرها شخص اسمه الأسقف “مقاريوس”، أن اليهود أهالوا عليه التراب والزبل، فأمرت أمامنا بإحضار رجال الكهنوت، وطلبت منهم أن يرفعوا الزبل، ثم استخرجت بيدها ثلاثاً من الخشبات، خشبة المسيح، الخشبتين اللتين صلب عليهما المسيح، وسألت الأسقف: أين خشبة المسيح ؟؟ فأشار إليها بيده، وأمرت ببناء كنيسة القيامة على الموضع، رن هاتفي الخلوي، إنها هي، تقول لي: أنا قادمة إليك، انتظرني، فقد هربت من أهلي، وهم الآن يبحثون عني. كنا نسير مع آلاف المسبيين مصفدين بالأغلال، كانت خائفةً وكنت مرعوباً، إننا منفيون الآن إلى بابل مع أهلي وأهلها، ثمة رجل مجنون اسمه “نبوخذ نصر” يأخذنا إلى هناك، عقاباً لنا على انتفاضتنا ضده، وداعا يا “أور سالم”، يا مدينة الحب والمجازر والتلال.
نهبط الآن درج باب الخليل، دفؤها في بردي، تحمل في يديها سترتها السوداء، منديلاً أزرق، حقيبة جلدية صغيرة، كاميرا، وتفاحة حمراء. ضعنا في الدروب، قادنا تلاميذ المدارس إلى طريق تقود إلى البرج، لا أحمل أنا سوى ارتباكي، جلسنا في مقهى شعبي، ذهل صاحب المقهى لوجود امرأة عربية جميلة في مكان مخصص فقط للرجال، أهدتني خاتماً، أهديتها قلماً، التقطنا صوراً لنا، على باب المقهى كان يقف رجل أشوري قاسي الملامح وغريب، إنه أحد محاربي جيش “شلمنصر” ملك أشور، القدس تحت احتلال جديد! صاحب المقهى يعتذر منا، يريد أن يغلق مقهاه، ويذهب إلى البيت، فستنشب معارك لمقاومة الأشوريين بعد قليل، يا الله ! ألا يمل الغزاة من غزو هذه المدينة؟ هاتف غزالتي يرن، إنهم أهلها: أين أنت يا مجنونة ؟؟ نضحك ونركض في أزقة القدس.
ما زلت أنتظرها، وحدي في القدس، نصعد درجات البرج القديم، قال لنا الحارس: معكما فقط نصف ساعة، الدرجات لولبية وضيقة جداً، نسمع أثناء الصعود صوتاً يشبه محركات طائرة، تقلع للتو، إنها الريح، أقول لها بينما هي صامتة تواصل الصعود اللولبي، حين نصل إلى سطح البرج، أتراجع إلى الخلف، أرتعب من هول الارتفاع، تضحك هي وتتهمني بجبن، فأسرع إلى شفتيها، أحتمي بمنخفضاتها، في الغرفة الأولى، أنحني على نهدها، أخرجه ببطء مذعور، تشهق هي، فتعضني من عنقي، مرتين، نمشي باتجاه باب العمود، نفاجأ بأهلها، يتسوقون، نراهم ولا يروننا، تصعق هي وأهرب أنا، وبعد لحظات تمطر السماء بقوة، أنظر خلفي لأراها، فلا أراها فقد غطت المشهد رؤوس وأكتاف كثيرة يزدحم بها الزقاق، سألني حارس البرج: أثناء خروجي: ما هذه الصخرة التي تحملها بين يديك.؟؟
إنها إحدى صخور كثيرة سقطت أمامي من السور، أجبته. استغرب الحارس، واصل أسئلته: لا تؤاخذني يا أستاذنا، بعض السياح قالوا إنك كنت تقبل جدران الغرف، وكنت تتحدث مع نفسك، لم أجبه، واصلت طريقي إلى رام الله، هارباً من الجنود الأشوريين الذين يطاردوني منذ الصباح؛ لأني لا أحمل تصريحاً للدخول إلى “يبوس”، بيدي خاتم فضي، على عنقي عضتان.

 

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail