توليستوي بعد مئة عام من الرحيل / سامي أمين عطا

في مقالته ” ليو توليستوي, مرآة الثورة الروسية قال لينين: ” إذا كنا أمام فنان عظيم حقاً, فلابد له أن يكون قد عكس في مؤلفاته وإن بعض النواحي الأساسية للثورة”لينين مقالات حول توليستوي”. الاحتفاء بمرور مائة عام على رحيل الأديب الروسي ليو توليستوي (1828ـ1910م) في العام 2010م كان إحتفاءاً له دلالاته, حيث يعد أحد أعمدة الأدب الكلاسيكي العالمي, وباني أحد صروح الأدب الروسي المتمثل بالسرد الروائي الى جانب فيدور دوستويفسكي وإيفان تورغينيف وغيرهم, إن شهرة توليستوي لا تنبع” من كونه فناناً عظيماً فحسب, بل وبصفته مفكراً كبيراً تطرق في فكره الى العديد من القضايا الإنسانية العامة و الخاصة (1), شكلت ملحمته التاريخية ” الحرب والسلام” قمة الإبداع الأدبي, نقل فيها أحداث سياسية وعسكرية في أوروبا خلال الفترة بين1805ـ1820 صور فيها غزو روسيا من قبل نابليون عام1812م.
شهد العام 2010م احتفالات ضخمة في العديد من الدول ( روسيا والولايات المتحدة وألمانيا) تكريماً لهذا الأديب العالمي, صدر ترجمات جديدة لروائعه الأدبية بمختلف اللغات, وشهدت كوبا والمكسيك معارض لكتبه, فضلاً عن عرض أفلام وثائقية تخص الكاتب في لقطات نادرة لم يتم بثها من قبل. كما عرض فيلم سينمائي جديد ” المحطة الأخيرة” بطولة هيلين ميرين وكريستوفر بلام وجيمس ماكافوي إخراج وكتابة مايكل هوفمان مستنداً الى كتاب جاي باريني الذي تناول فيه المؤلف العامين الأخيرين من حياة توليستوي. يستوحي فيه حادثة وفاته في إحدى محطات القطار.
ولد الكونت ليو أو ليف توليستوي في 9 سبتمبر 1828 في قرية روسية صغيرة هي ياسنايا بوليانا وتمتلكها عائلته الأرستقراطية قرب موسكو. توفي والده وهو لما يَزَل صبياً صغيراً، فتولّت خالته تربيته، وبدأ يتلقى علومه على يدّ مدرسين خصوصيين. في العام 1844 وكان في السادسة عشرة، التحق بجامعة كازان, لكنه لم يحب طريقة التدريس فيها، وفي تلك المرحلة، ظهرت لديه الميول الثورية والانتقادية البنّاءة, ترك الدراسة عام 1847 قبل أن يتخرّج وعاد إلى مسقط رأسه, وبدأ بتثقيف نفسه ثم شرع في الكتابة, ومن مؤلفاته في البدايات: “الطفولة” نشرها عام 1852، ثم “الصبا”، 1854 و”الشباب” 1857، وفي تلك المرحلة من الكتابة كان مسافراً إلى القوقاز حيث شارك في الحرب القوقازية. كما شارك في حرب القرم متطوعاً في الجيش، وأظهر فيها شجاعة فائقة، لكنه كره الحروب وما ينتج عنها من بشاعات، فكتب من وحي تجربته هذه “القوقاز” عام 1863 وتحتوي على قصص قصيرة، وبعدها كتب “قصص من سيفاستوبول” عالج فيها موضوع الحرب, لكن روايته “الحرب والسلام” الذي تُعتبر حتى اليوم من أعظم الروايات في التاريخ فقد كتبها بعد تلك التجربة القاسية في الجيش والحروب وتحديداً بين 1863 و1868 وصدرت في العام1869. تحولت قرية الكاتب مع اقتراب الذكرى( 7نوفمبر) مركزاً سياحياً, وكثفت وسائل الأعلام العالمية تغطيتها للحدث منذُ مطلع العام الجاري, واستقبلت قريته الآلاف السياح.
لم تقتصر كتابات توليستوي على أدب السرد الروائي وحسب, بل حملت في طياتها رؤية فلسفية, تنم عن فيلسوف أيضاً، عوضاً عن كتابته العديد من المؤلفات في الشؤون التربوية التي لها علاقة بالمدارس والتعليم.وعرفت قريته ” مدرسة توليستوي” الذي بناها في1860م على نفقته بجوار منزله, وصارت تستقبل أبناء الفلاحين الفقراء من كل حدب وصوب.
في الآونة الأخيرة وخصوصاً بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في نهاية العقد التاسع من القرن الماضي, بات توليستوي معروفاً في الغرب أكثر مما يعرف في موطنه روسيا، وما زالت المؤسسات الرسمية الروسية لا تبدي اهتماماً كبيراً بالروائي الأكثر شهرة في العالم، وتعزو دراسات كثيرة هذا الأمر إلى الأضطرابات السياسية في روسيا منذ تفكك الاتحاد السوفييتي.
منذُ بداية هذا العام, توقفت عقارب ساعة الحائط الكبيرة في محطة ” آستابوفو ” على التوقيت التالي: السادسة وخمس دقائق, مشيرة الى التوقيت الذي مات فيه توليستوي على بعد أمتار من ساعة الحائط تلك, وعلى الرغم من مرور مائة عام على وفاته إلاّ أن تلك المحطة لم تتغير تفاصيلها, بمقاعدها الخشبية المخصصة للانتظار, وغرفة مدير المحطة التي نقل إليها توليستوي حينها في حالة صحية طارئة وحرجة, ما لبث أن فارق فيها الحياة.
في منزله القروي معرض دائم طوال العام, يتم عرض مقتنياته فيه أغراضه الباقية, مخطوطاته, صوره, وفي حديقة المنزل يربض قبر الكاتب العظيم يحمل لوحة كتب عليها” ليو توليستوي(1828).

الثراء الخانق
لم يكد يبلغ توليستوي الثمانين من عمره, إلاّ وكانت شهرته قد بلغت أوجها, وترجمت أعماله إلى لغات عديدة, ورغم انتسابه إلى طبقة الأرستقراطية؛ فكان يحمل لقب كونت ” الكونت ليو نيكولايفيتش توليستوي” ويعيش في حياة الرغد والنعيم مع عائلته بثروة كبيرة جمعها من نجاحه العالمي كأديب, حتى صار يمتلك القرية التي يعيش فيها بأكملها, إلاّ أنه بدأ في سن السبعين من عمره يميل إلى تغيير نمط حياته بمجمله, تنازل فيها عن ضيعته لأهلها وعن أرباح مبيعات كتبه لزوجته, ولبس ثياب الفقراء, وأخذ يهيم في الحقول المجاورة لبلدته يكسب رزقه بعرق جبينه( كان ملهماً لغاندي في ذلك) وذاعت شهرته في روسيا وخارجها بوصفه فيلسوفاً تهافت الناس يبحثون عنه لمعرفة تفاصيل حياته.
هذا الأمر أثار حفيظة زوجته؛ فسعت إلى اتهامه بالجنون من أجل استعادة ممتلكات العائلة التي بددها, معتبرةً أن حياته بين الفلاحين ونومه في أكواخهم وارتداءه ملابس تشبه ملابسهم أمر يدعو إلى الاشمئزاز. رد عليها توليستوي برسالة طويلة تركها لها قبيل رحيله النهائي عن المنزل جاء فيها: ” أصبح وضعي غير محتمل في هذا المنزل يا صوفيا, لم أعد قادراً على ممارسة حياتي اليومية في هذه الرفاهية التي تحيط بي وبات الثراء يخنقني., وما أنشده هو عالم من السكون والوحدة، لا يفسده ضجيج المال، وأنانية الثراء، ووحشية الرغبة في التملّك…”.
ذات يوم وصف الأديب الروسي العظيم نفسه قائلاً” إن جسمي يشدّني الى شكل فلاح روسي حقيقي…”. لقد كان توليستوي شغوفاً بالعلم والمعرفة, ومعروف عنه قوله: “أشعر بحاجة ملحّة الى أن أعرف وأعرف وأعرف وأعرف…”, ويقال, بأن لينين طوّر شعاره الثوري منه فقال:” أيها الرفاق, تعلموا, تعلموا, تعلموا”.

“الحرب والسلم” و”آنا كارينينا”
على الرغم من عشرات القصص والمجموعات القصصية, إلاّ أن رائعتيه ” الحرب والسلام” و” آنا كارينينا” تعد تحفة فنية بالغة القيمة التاريخية, ففي روايته ” الحرب والسلام” رسم صورة عن البلاد بأسرها ودخل في تفاصيل حياة أفراد في المجتمع الروسي، حيث القارئ مدعو إلى موسكو في بداية القرن التاسع عشر: في غرب البلاد الحروب التي يقودها نابليون في أوجها، أما في موسكو فاللقاءات الاجتماعية تتواصل، خاصة تلك التي تضم شخصيات سياسية تدلي بآراء حول الحرب “بالفرنسية” التي صارت منتشرة آنذاك في المنطقة، واللقاءات تعني الحفلات ودعوات على العشاء والعيش اليومي الهانئ إلى حين يأتي يوم ويدخل بونابرت إلى روسيا: الكل ينهض لمواجهة الاحتلال.
تم تصنيف توليستوي في الغرب أخيراً, على انه الروائي الأعظم في التاريخ، فرواية” الحرب والسلام” كما يقول سومرست موم ” أعظم رواية, فلم يسبق أن كتبت ـ وأغلب الظن أن هذا لن يتكررـ رواية تضارعها في الضخامة, وتعالج مثل هذه الفترة الحاسمة من فترات التاريخ, وتتناول هذه المجموعة الكبيرة من الشخصيات. ولقد قيل عنها بحق إنها ملحمة, ولا أستطيع أن أجد عملاً روائياً آخر يمكن أن نصفه هكذا ونكون محقين في وصفه”(2) ووضعت مجلة “نيوزويك” رواية “الحرب والسلام” على رأس قائمة بأسماء مائة رواية من روائع الروايات في العالم. في رواية الحرب والسلام تتدفق الأحداث في حياة الأبطال وهم خمس عائلات روسية تمر بتجارب إنسانية, خصوصاً بطل الرواية بيار بيزوخوف الكاتب المحب للسلم, الذي يرفض خوض الحروب والمشاركة فيها خلافاً لأبناء جيله, حيث يتلقى إهانات شديدة القسوة من مجتمعه, لكنه لا يلبث أن يجد نفسه يخوضها رغماً عنه عندما تتعرض بلاده إلى غزو نابليون, تكون أهوال الحرب وما يحدثه الغزو من مآسي وويلات لبلده ومواطنه حافزاً للانضمام إلى صفوف المقاتلين المدافعين عن العرض والشرف والكرامة, عاش بموجبها تجربة الحرب القاسية بالنسبة إلى إنسان له رأي رافض للحرب وما يتخللها من شناعات وآلام, وواجب يتحتم عليه أن يؤديه يتمثل بالدفاع عن عائلته ومحيطه. يصل في نهاية المطاف إلى حالة اكتئاب وصراع نفسي حاد ومرير من واقع الطبيعة الإنسانية التي تميل بالإنسان إلى مجيد القتل والحروب. أن رواية الحرب والسلم رواية ثرية بشخوصها وأبطالها, حيث يعرض فيها توليستوي حوالي 600 شخصية عكست جميعها أطياف الشخصيات المختلفة في مجتمع روسيا في بداية القرن التاسع عشر, كانت كل شخصية قائمة بذاتها وتتفرد بتاريخها.
أما روايته “آنا كارينينا” تعد هذه الرواية من أكثر الروايات إثارة للجدل حتى اليوم، ولأن توليستوي يناقش فيها إحدى أهم القضايا الاجتماعية التي واجهت كافة المجتمعات الإنسانية، خاصة الأوروبية بُعَيْدَ الثورة الصناعية، وما نتج عنها من اهتمام بالمادة، وما ظهر من أمراض تتعلق بالمال لدى الطبقات الأرستقراطية آنذاك.
تطفو على سطح الحدث في الرواية نماذج بشرية متنوعة، معظمها مريض مرض الطبقية، مرض النبل، مرض الإرث الثقيل، والنماذج البشرية، هذه هي غالباً نماذج مهتزة غير سوية، تتفاعل في داخلها صراعات كثيرة، أبرزها ما بين القلب والعقل أو بين الحب والواجب، وما بين الجوهر والمظهر، وما بين تخلف الإكليروس وحركة التنوير في أوساط المثقفين الروس.
آنا كارينينا رواية غاص توليستوي عبر بطلته إلى قلب المشاعر الإنسانية الدفينة, تحسس فيها العواطف والأحاسيس النابضة, وسبر غور النفس الإنسانية, تمكن أن يراها ويفهمها عارية ومجردة, وقد أعتبرها كبار النقاد تحفة فنية خالدة, كما عدها الروائي الروسي الكبير دوستويفسكي رواية” الكمال”, وتشكل مغزاها امتداد إلى رؤية توليستوي للجريمة والخطيئة الإنسانية.

توليستوي والمؤثرات العربية والإسلامية
لم يحض أدب توليستوي بالدراسة والبحث من جهة المؤثرات الشرقية بالاهتمام الكافي, عوضاً عن قلة الاهتمام بدراسة مؤثرات الثقافة العربيةـ الإسلامية على أدبه, وحسب ما نعلم هناك دراسة تكاد أن تكون يتيمة تطرقت إلى هذه القضية(3), يشير الباحث إلى ضآلة ما كتب حول تأثير الشرق العربي في فكر توليستوي وإنتاجه, حتى الأبحاث التي تناولها الباحث السوفيتي شيفمان Shifman, تناول علاقة توليستوي بشكل أخباري ببلدان الشرق المختلفة( الصين, الهند, اليابان, إيران, تركيا, والبلدان العربية, أفريقيا). وعندما تطرق الى علاقة توليستوي بالبلاد العربية, فإنه ركز على تأثير أدب توليستوي على الكتاب العرب, ولم يتناول إلاّ بعضاً من تأثير الثقافة العربية الإسلامية على أدبه, وذلك من خلال تأثير ألف ليلة وليلة, وأشار الى تأثير الحكمة العربية على توليستوي دون شرح وتحليل كافي. وتجنب الإشارة الى تأثير الفكر الإسلامي على فكر وأدب توليستوي.(4)
يرجع اهتمام توليستوي بالشرق الى سنوات شبابه المبكر, اختار خلالها توليستوي اللغتين العربية والتركية تخصصاً للمستقبل, درسهما مدة عامين قبل أن يتقدم عام 1844إلى امتحان القبول في جامعة كازان, تفوق فيهما؛ وسجل نفسه طالباً للغة العربية والتركية.
مثّل تراث الشرق الروحي مركز اهتمام توليستوي, فأخذ يدرس هذا التراث باحثاً عن معنى الحياة, ولم ينقطع اهتمام توليستوي بتراث الشرق طوال مسيرته, فكلما تقدم به العمر ازداد ارتباطاً وفهماً أعمق به, ومثلت فترة نهاية العقد الثامن وبداية العقد التاسع من القرن التاسع عشر فترة الذروة في اهتمام توليستوي بالشرق وتراثه صاغت فكره, وحددت مسلكه.
أحتل الإسلام مركز الصدارة من بين الأديان, فأقبل توليستوي على دراسته, حيث احتوت مكتبته على عدد من المراجع الإسلامية, منها ما يتعلق بالشروح ومنها ما يتعلق بالتفاسير, قال توليستوي ” كنت أدرس البوذية, ورسالة محمد من خلال الكتب, أما المسيحية فمن خلال الكتب والناس الأحياء المحيطين بي”(5).
أصدر توليستوي عدد من المؤلفات للتعريف بالإسلام منها” أحاديث مأثورة لمحمد”, وألف قصص للأطفال مستلهماً التراث الشرقي مثل ” قمبز بسماتيك” و” دونياشكا والأربعين حرامي” و” الأسد والفأر”, كان توليستوي مأخوذاً بالتراث الشرقي عموماً, والعربي الإسلامي خصوصاً. فلم يتوانى في توظيفه تربوياً وتعليمياً.

رؤية توليستوي الفلسفية في الرواية
إذا ما أردنا أن نسلط الضوء على روى توليستوي الفلسفية, فإننا ينبغي أن ندرسها من خلال مجمل أعماله, فلا يخلو عمل من أعمال توليستوي من روى فلسفية, فإذا أخضعنا رائعته ” الحرب والسلام” للنقد, فإننا نجد فيها هذه الرؤى الفلسفية بادية من اختياره للموضوع, وكل شخوص الرواية يحملها توليستوي رؤى فلسفية, أن اختيار توليستوي لموضوعة الحرب والسلام باعتبارهما مفهومين نقيضين مثلاً, ينم عن رؤية فلسفية إنسانية بامتياز, وفي أحداث الرواية ومواقف شخوصها تتجلى رؤية توليستوي الفلسفية وموقفه منهما, أي من الحرب والسلام” كما لو كان توليستوي قد أجرى استقصاء حول” الحرب والسلام”ومن خلال الاستفسار الذي برز حول الحرب والسلام بين أبطاله, ومن خلال الأبحاث الشاقة لأفضل أبطاله جاءت النتيجة بنعم للسلام ولا للحرب”(6), حتى اختيار توليستوي عنوان الرواية حمل ” معنىً جدلياً محدداً”(7)؛ فالحرب والسلام في حالة جدل مستمر من بداية الرواية حتى نهايتها, فكل مضمون الرواية له ارتباط بالحرب, حتى في المشاهد التي يصور فيها توليستوي الحياة في المدينة موسكو قبل بدء الحرب, فإن الحرب حاضرة بثقلها, أما السلام يتجلى في رفض ـ جل شخصيات توليستوي في الروايةـ فكرة الحرب, ووجدوا فيها ظاهرة لا إنسانية, ابتداءً بالأميرة ماريا بلكونسكي التي تعجبت من الناس الذين تناسوا” قوانين الله الذي علمنا الحب والعفو عن الإهانة واعتبروا أن في قتل البعض للبعض فضيلة كبرى” وانتهاءً بالشخصيتان الرئيسيتان في الرواية(8), شخَّص توليستوي حرب عام 1812م قائلاً” ملايين البشر والخداع والخيانات والنهب والتزييف وإصدار الأوراق المالية المزيفة والسلب والحرائق والقتل”, وتسأل الروائي بدهشة:” لماذا يقتل الإنسان أخاه الإنسان؟ ولماذا يتحتم على ملايين الناس الذين يتخلون عن مشاعر الإنسانية وعقلها أن يسيروا من الغرب الى الشرق ليقتلوا بشر مثلهم؟”.
إذا كان وصف الحرب وإدانتها, استولت على اهتمام توليستوي, لكنه لم يغفل عن طرح رؤيته للسلام الذي برز بشكل واضح في الرواية, الذي تجسد في مواقف أبرز أبطال الرواية, القائد الكبير كوتوزوف, والأميرة ناتاشا رستوف, والأمير أندريه بلكونسكي والأمير بيير بيزخوف(9).
أن تدخل الى عوالم توليستوي الروائية والحياتية, يعني دخولك الى عوالم النفس الإنسانية بكل تناقضاتها ومفارقاتها المختلفة, لقد جسدت شخوص توليستوي الروائية الأبعاد المختلفة للحياة الإنسانية من زواياها لمختلفة, كما صورت حياة توليستوي الشخصية بكل مراحلها المختلفة. أن عظمت الروائي توليستوي تمثلت بقدرته الفائقة وإحساسه البالغ الرهافة بمعاناة الناس الذين لا ينتمون الى طبقته الأرستقراطية, أن يتجرد المرء من مصالحه الضيقة ويصور الواقع بصدق وأمانة, كما يدنو من الآخرين بصدق وأمانة أيضاً, تمثل قمة المشاعر الإنسانية, وهذا ما أعطى أدبه هذه المكانة الرفيعة.

القصة والمسرح والسيرة
إذا كانت الرواية قد طغت على سواها من الأعمال الفكرية التي أنتجها توليستوي, إلاّ أنها لم تستطع أن تحجبها بالمرة, فهناك مجموعات القصص القصيرة الى جانب المسرح وكتب السيرة، وأيضاً الأبحاث في الفلسفة والتربية والدين والتي تعد بالعشرات، تعطي مجتمعة فكرة واضحة وشاملة عن فلسفة توليستوي وفكره، كما تروي السيرة في محطات حياته المتنوعة: “قصص من سيباستوبول”، 1855 و”عاصفة الثلج”، 1856، “بوليكوشكا”، 1863، “موت ايفان ايليش”، 1886، “السيد والخادم”، 1895، “هكذا يموت الحب” و”مذكرات مجنون” و”الأب سيرج” 1898، “ما رأيت في الحلم” 1906، وغيرها من القصص القصيرة. أما في المسرح فكتب “قوة الظلمات” عام 1887 و”ثمار العلم” 1890. وفي الفلسفة والدين وعلم الاجتماع والتربية كتب: “ديني” عام 1885 و”فيزيولوجية الحرب” عام 1887، “مدرسة إياسنايا بوليانا” عام 1888، “المال والعمل” 1890، “ما هو الفن؟” عام 1898، “أفكار الرجال الحكماء لكل الأيام” عام 1903 وغيرها. أما كتاباته في السيرة الذاتية فهي من أكثر المؤلفات المؤثرة لديه لما يتميز به في كيفية ربط حياته اليومية ببحثه الفلسفي العام: “طفولة”، و”عمر الشباب”، أما أجمل مؤلفاته في هذا المجال فهو كتاب “اعتراف” (1879 1882)، وقد وضع فيه عصارة تجربته في الحياة والموت، وحاول في كتابته أن يجيب عن السؤال التالي: “ما هو المعنى الذي لا يحطمه الموت، أو الذي لا يدركه الموت؟”, الذي كان ثمرة تجربته, أن كل ما تعلمه ترجمه في النصف الأخير من حياته, في سلوك يعبر فعلاً عن معنى الحياة. أشهر أعماله التي كتبها في أواخر حياته، فهي “البعث” و”الشيطان” ورواية “الميت الحي”، وفي كل ما كتبه توليستوي خاصة في “مملكة الرب بداخلك” اعتنق أفكار المقاومة السلمية النابذة للعنف والقتل على الرغم من أن عظمة أدب توليستوي وتأثيره حدت بالكثيرين أن يجيروه الى حسابهم, فالثوريين أرادوا أن ينطقوه ما لم يقله أو يؤمن به, حيث حاول زعيم الثورة الروسية ( لينين) في مقاله عن توليستوي, أن يجعل منه ثورياً أو يقربه الى مربعات الثورة، لكن أراء توليستوي واضحة ولا يخامرها أدنى شك, فهو كان عدواً لدوداً لكل عنف, ولأي شكل من أشكاله, التسامح والمقاومة السلمية مبادئ أمن بها, وكتابه الأخير المذكور” مملكة الرب بداخلك” أثر في حياة وقرارات العديد من الشخصيات عبر التاريخ، وأبرز من تأثر به “المهاتما غاندي” في الهند والأمريكي “مارتن لوثر كينغ” اللذان اعتمدا في نضالهما على سياسة السلام و اللاعنف.

 

* سامي أمين عطا :  أستاذ فلسفة العلم ومناهج البحث والمنطق المساعد قسم الفلسفة كلية الآداب جامعة عدن

المراجع

[1] ـ د. مكارم الغمري مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي, سلسلة عالم المعرفة, الكويت, عدد رقم155, نوفمبر1991, ص163

[2] ـ سومرست موم ” عشر روايات خالدة” ترجمة سيد جاد سنة1971 ص9

[3] ـ  أنظر الدراسة القيمة, التي قام بها د. مكارم الغمري المتخصص في الأدب الروسي ونشرها ضمن سلسلة عالم المعرفة التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت, تحت عنوان “مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي, عدد155, نوفمبر1991, ص163ـ195

[4] ـ د. مكارم الغمري, المرجع السابق ص164

[5] ـ نقلاً عن د. مكارم الغمري مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي, مرجع سابق, ص166

[6] ـ د.مكارم الغمري, الرواية الروسية في القرن التاسع عشر, سلسلة عالم المعرفة, الكويت, عدد40, أبريل1981م ص220

[7] ـ أدنس الطريق الفني لتوليستوي نقلاً عن د. مكارم الغمري ص221

[8] ـ المرجع السابق نفس الصفحة

[9] ـ نفس المرجع ص221ـ222

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail