غيبوبة بكين

beijing-comaتعد غيبوبة بكين أهم روايات الكاتب الصّيني البارز ما جيان وأشهرها. عمل ملحمي هائل يقع في قرابة السّتمائة صفحة,وقد تطلبت كتابته عشر سنوات،رواية غيبوبة بكين[Beijing coma]الصّادرة بتاريخ 4 جوان 1989 هي رواية المحاكمة الرّمزيّة لدلالات يوتوبيّة سقطت سقوطا حرّا بعدما تنكّر لها الجّميع,أو بالأصح خانها,محاكمة السّلطة والأفراد. تبدأ الحكاية عندما يعتصم الطلاب في ساحة تيان مان وبينهم بطل الرّواية [داي وي],يطلق عليه جنديّ رصاصة في الرّأس,يدخل في حالة غيبوبة حادة وطويلة,جسده سجن لكن روحه حياة أخرى تعيش في عالم موازي للواقع,روح تتذكّر,ترحل,تسافر,تتكلّم مع نفسها,تحاورها,تسألها,تعي ما يحدث حولها لكنّها غير قادرة. عندما يستيقظ من الغيبوبة وهذا بعد سنوات,يكتشف أنه لم يعد كما كان سابقا,كلّ شيء تغيّر,تطرف في تغيّره,لكنّه استيقاظ مؤقت ليموت من جديد,هل سيعي ما حدث له؟,هل سيتعرّف على صين اليوم التّي حتما ليست صين البارحة,هل بإمكانه فهم صين التّناقضات الكبرى؟, صين التاريخ,السّياسة,القناعات المتأرجحة,غيبوبة بكين هي إعادة فتح علبة الباندورا الصّينيّة الغامضة,المخيفة,السّحر والفخّ, لكن,ما هي نتيجة هذه المغامرة المحفوفة بالموت والجّنون؟,ما الثّمن الذّي سيدفعه داي وي ليعيش حياة ما بعد الغيبوبة بما تمثله هذه الحياة من تحوّلات دراماتيكيّة تتجاوزه؟

لذا ليس غريبا عندما تصنّف الرّواية على أنّها أحد أهم وأشهر رواية صينيّة منشقّة إلى جانب ثلاثيّة الرّوائي المنشق يوو هوا[إخوة],كتب المحرّر الأدبي للتلغراف البريطانيّة قائلا..”مع كلّ جيل ما,تأتي رواية لتعيد التفكير والتّأمل بعمق في المسلّمات القديمة,طرح الأسئلة الواعيّة والتفكيكيّة لمجموعة من الثوابت المعرّضة للخلخة والتّمزيق,كيف تكون نظرتنا لأنفسنا والعالم الذّي حولنا, لذا جاءت الرّواية بمثابة امتحان شعري ليس عن لحظة تاريخيّة لبلاد وشعب ما,بل أيضا حقّ الآخرين في التّذكّر و الحلم ..”

يصف الكاتب الصيني الحائز على جائزة نوبل جاو جينيجيانج ماجيان أنه احد أهم الرّوائيين الصينيين في العالم. يعبّر ما جيان عن مخاوفه وهي مخاوف مؤسّسة على أن الجّهات الرّسميّة في بلاده بدأت في كتابة تاريخ آخر. تاريخ يناسبها,يحرّف الحقائق لجيل ما بعد انتفاضة ساحة تيان مان يجهل كلّ شيئ عنها,لذا يأتي دور الكتّاب والمثقفين والرّوائيين لحماية الذّاكرة, ..”أمام كتّاب الدّاخل ثلاثة احتمالات,الصّمت,أن يكتبوا بما يسمح لهم هامش الحرية أو اختيار المنفى..”..

 

مقتطفات من الرّواية

 

“من الفجوة الصّغيرة حيث توجد الشّرفة المغلفة,ترى شجرة الاكاسيا اغير الحقيقيّة التّي تمّ إسقاطها البارحة تقف,تقف ببطء,إنّها إشارة رمزيّة بأنّه عليك الإمساك بحياتك بقوّة منذ هذه اللّحظة,تمسك بوسادة وتضعها خلف ظهرك,ترفع راسك قليلا بحيث تسمح لدمّ عقلك بالعودة إلى قلبك,تسمح بذلك لأفكارك…..,تساعدك أمّك من حين إلى حين على أخذ هذه الوضعيّة التّي تجدها مناسبة,الصّباحات المذهّبة تكون دائما حاملة للحلول الجّديدة,لكن اليوم هو اليوم الأوّل من الألفيّة الجّديدة بحيث أن الفجر بدا ممتلئا كغير عادته,ورغم أن حبّات البرد الشّتويّة لم تسقط كما هي العادة فان الرّيح الخفيفة التّي تداعب وجهك تبدو باردة جدّا,ينفث السيروم رائحته في أرجاء غرفتك,ينساب في الجّلد حيث إبرة السائل السيرومي منغرزة بينما أشعة الشّمس تسقط منسدلة على جلدك,تنظر للخارج,الجوّ الصّباحي لا ينتصب من الأرض كما كان البارحة,انّه يسقط من السّماء على الأشجار ثمّ ينزل بطيئا عبر الأوراق,محتكّا بالحرف الملطخ بالدمّ القابع بين الأغصان,ممتصّ الرّطوبة كلما سقطت….ّقبل مجيء العصفورة,نسيت تقريبا فكرة الطّيران,طلقتها,ثمّ,في الشّتاء الماضي,تتذكّر أنّها ارتفعت في السّماء ثمّ حطت أمامك وفي مرّات أخرى تحطّ على حافة النّافذة,تعرف جيّدا أن النوافذ المتسّخة امتلأت حواشيها بالنّمل الميّت والغبار,لذا رائحتها كريهة أكثر من رائحة السّتائر القديمة المتّسخة,لكن العصفورة لا تأبه لهذا,لا تنفرها الرّوائح, تقفز في الشّرفة المغطاة وتنفش ريشها,ينبعث منه رائحة جذور نباتات منعشة لتتلاشى في الهواء,تتسلّل داخل غرفتك,تحطّ على صدرك وتأخذ وضعية الجّلوس كبيضة باردة,دمّك يندفء,عضلاتك ترتعش,عيناك من الشّعور والإحساس الغريب الذّي تعيشه في لحظتك مقبلة على ذرف الدّموع”

“.. لست مضطرّا للاعتماد على الذّكريات لتجاوز الأيام التّي تقضيها ممدّدا على السّرير بدون حركة,أشبه بميت على قيد الحياة,هذه ليست لحظة خاطفة لحياة قبل الموت,هذه بداية جديدة,[واه..واااااااه..],بكاء رضيع يذيب جليد الصّمت الذّي تنبعث روائحه المثقلة والمنفرة,جسم صغير عار يرتعد على أرضيّة الاسمنت,أنا هو,دفعت نفسي بقوّة من بين فخذي أمي,مع الم راس حاد,اضرب بكفي يدي تلقائيا بركة الدمّ المتكوّنة حولي,أتذكّر أن أمي كثيرا ما حكت لي بأنّها كانت مضطّرة لارتداء قميص كتب عليه[زوج قانونيّ],وعندما وضعته لم يرغب الطبيب في مساعدتها في عمليّة ولادة ابن الرّأسمالي الكلب,لكن,من حسن صدفها أنها فقدت وعيها ولم تحس بشيء وأنا اخرج وحدي في ردهة المستشفى,وبعد كلّ هذه السّنوات أجد نفسي ممدّدا غيبوبيا في نفس المستشفى,فقط,كيف أحسّ بأنني على قيد الحياة,لم أمت,أسمع صوت قنينات الحقن الصّغيرة تكسر ليوغل فيها راس الإبرة,هذه الأصوات بسيطة لكنّها مهمّة لتحسسك بأنك مازلت على قيد الحياة..اللّعاب يقطر من اللّهاث في الفمّ تلقائيا,يهتزّ اللّهاث مغلقا المجاري الأنفيّة فيسمح بسيلان اللّعاب في البلعوم,عضلات البلعوم المتوقّفة عن الحركة لسنوات تتقلّص وترتخي,ثمّ ترميه في المعدة,تظهر إشارة بيوالكتريّة كومضة ضوء في العصب الدّماغي مشكّلة ما يشبه إطار حركيّ وتنزل طول النّخاع الشّوكي حتى عضلة آخر الأصابع..”

“.. نعم,أنا هو,ابن أمّي الكبير,عيون ضفدعة مقبورة بداخلي تعبرني في لحظة سريعة,خاطفة,مازالت حيّة,على قيد الحياة,أنا الذّي وضعتها داخل الإناء الزّجاجي ودفنتها,الرّدهة المظلمة طويلة,في آخرها توجد غرفة العمليات حيث يتمّ التّعامل مع الأجساد وكأنّها قطع لحم عاديّة.. والفتاة التي أراها الآن,في لحظتي هذه,ترى ما اسمها؟, ربّما..آه,مي,تدنو مني, طيف ابيض,غريب,ليس لها رائحة,شفتاها ترتعشان ..”

 

عبد الغني بومعزة

روائي ومترجم وكاتب مقالات في السينما والفوتوغرافيا 

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail