توابيت من ورق / خيري منصور

أليس أمرا بالغ الدلالة ويستحق التأمل ان نجد في لغتنا المتداولة كلمات مثل التداخل والمفاضلة وذوي القربى بلا مقابل الا في حالات نادرة، فالتخارج رغم انه سمة في ظواهر حياتنا القائمة على التجزيء والاحادية مصطلح مهجور وكذلك المراذلة كمقابل للمفاضلة، وما من مرة استخدمت بها عبارة ذوي البعدى كمقابل لذوي القربى، وذلك لاقتران هذا التعبير ببيت شهير للبيد يقول فيه ان ذوي القربى اشدّ مضاضة.
واول ما لفت انتباهي في هذه الاحادية المضادة للجدلية هو ترجمة كلمة سكرودرايفر ‘ SCREWDRIVER ‘بالانجليزية المفك، وكأن هذه الاداة لا تصلح للتركيب على الاطلاق، وقد تبدو هذه الملاحظات عابرة لكن دلالاتها السايكولوجية والذهنية بالغة العمق، فاللغة تفتضح انماط التفكير، وأذكر ان الراحل هشام شرابي نشر مقالة عن التقمص العربي نقديا لمنهج التفكيك، وسخر من هؤلاء الذين لم تنضج البُنى في حياتهم كأفراد وجماعات ولم تتماسك بحيث تصلح للتفكيك، والمهجور والمسكوت عنه واللامفكر به في حياتنا هو المساحة الأكبر، لكن عدم الانتباه والانقياد وراء عادات لسانية يوهمنا باننا نتحدث عن واقع ونحن في الحقيقة نهربه ونستبدله بواقع مترجم او متخيل في بعض الاحيان، وهنا تستوقفنا ثنائية الفاعل والمفعول به او المنفعل، والفارق بين الاثنين ليس فقط ما يقال في المجال الاقتصادي او حتى السياسي، لأن من ينتج يعاني الحاجة الى ما أنتجه اولا، لكن المستهلك تأتي الحاجة بالنسبة اليه بعد حصوله على الأداة او السّلعة، ولو شئت ان اختار مفردة المراذلة كنقيض للمفاضلة فهي الآشدّ نفوذا على ثقافتنا رغم اننا نسميها باسم آخر مضاد، انها المقارنة بين السيىء والأسوأ او القبيح والأقبح وذلك لكي يبدو السيىء حسنا وفق هذا المعيار النسبي وكذلك القبح، وحين يقال ان فلانا بلغ أرذل العمر، لا يكون التعبير دقيقا بل به من الانزياح المجازي ما يحمّله ما لا يحتمل، واستغرب كيف لا يقال ان شاعرا بلغ ارذل الشعر او روائيا بلغ أرذل النّثر، فالشيخوخة قدر وشرط بشري لا علاقة له بالفضائل والرذائل، لكن ما هو اختياري يقبل مثل هذا التقييم والتصنيف، وما يلاحظ في مجتمعاتنا ان المراذلة هي الطاغية في لحظة الاحتكام، فالمهم ان يكون المرء اقل سوءا او رداءة، وذلك على طريقة ما سماه د. شرابي في دراسته للبنية البطرياركية في المجتمع العربي ‘فشل اخي هو نجاحي’، وتتجلى المراذلة كمقياس في الثقافة وانشطتها، فالمثقف العربي على الأغلب هو أعور في بلد العميان، لكن ليس بالمعنى الوجودي الذي تحدّث عنه هـ . ج . ويلز في خياله العلمي، ذلك لأن الأعور سرعان ما يصدق بأنه امبراطور وليس ملكا فقط، ويتفاقم لديه الوهم بحيث يصبح زرقاء اليمامة، رغم انه قد لا يرى ما هو أبعد من أنفه.
انتقلت عدوى المراذلة او فشل الآخر هو نجاح الذات من سياق اجتماعي تربوي سائد الى الثقافة، لهذا يتهرب المثقف ممن يعتقد انهم اوسع منه ثقافة او ادرى بقضية ما يتنطع لها، فهو يفضل لأسباب سايكولوجية ان يكون جلّفر في بلاد الاقزام، يسعى الى من هم اقل ثقافة منه، بقدر ما يعزف وينفر من آخرين، رغم ان الثقافة تنمو بمفاعيل مضادة لهذه، والشرارة كي تقدح تشترط الاحتكاك بين حجرين صلبين وليس بين حجر وحفنة طين رخو .
* * * * * *
من افرازات ثقافة التخارج والمراذلة مقايضات صامتة بين عميان ومقعدين فالاعمى يحمل المقعد على ظهره كي يرى له ويصبح عصاه والمقعد يحوّل الاعمى الى مجرد ساقين يسعى بهما، لكن ايهما الاعمى وايهما المقعد في المقايضة الثقافية، المقعد هو المثقف العاجز والمنزوع الارادة الذي يرى فقط، والاعمى هو المجتمع الذي لم يبلغ رشده الوجودي والسياسي بحيث تأقلم مع البطرياركية وخضع لختان الوعي، اننا نشبه حالة عجيبة في مجال الطب بحيث نتعاطى عقاقير لمرضى المناطق الباردة، بينما امراضنا من طراز استوائي، وهذا بحد ذاته تخارج مسكوت عنه ايضا، فمن يعيشون حقبة ما قبل الحداثة يستغرقهم السجال التجريدي حول ما بعدها، ومن يعيشون ما قبل الدولة يتحدثون عن شيخوختها وما بعدها في سياق ثقافة معولمة، وقد يتنطّع من يعيش نمط انتاج ريعي لمشكلات الرأسمالية المتوحشة لكن سرعان ما يفتضح الواقع هذه الاطروحات المتخيلة ، او المتقمّصة خصوصا في حالات الاشتباك وعطب البوصلة، اذ لا يبقى سوى المسجد والقبيلة، سواء في بلد عمره عدة ألفيات او في بلد نشأ البارحة بمقياس التاريخ وليس التقاويم العادية.
* * * * * *
ما كان لهذا الطلاق البائن بينونة كبرى بين الكاتب والمتلقي ان يتحول الى قطيعة لولا ان هناك خللا جذريا في المفاهيم، فإذا كان المتلقي يبحث عما يعرف كي يكرسه فلا جدوى من هذا الطراز من المعرفة، وان كان مُنتج الثقافة يكرس بدوره الوعي السائد ولا يفارقه فَصَمْتُه أجدى . وقد لاحظت في مهرجانات الشعر ان المتلقي ينفعل ويصفّق لما يعرف، لكنه يصمت ويصاب بعسر الهضم الدماغي اذا سمع ما لا يعرف، وهناك متلقون من العرب تشكلت ذائقتهم من فائض الماضي يفضلون ان يسمعوا قصائد يستبقون الشاعر الى تقفيتها، لأنهم يحزرونها بالقياس على النموذج الخامل في الذاكرة.
لقد بقيت المحظورات او التابوات الثلاثة لعدة عقود وهي الدين والجنس والسياسة اشبه بأقانيم جهل مبرمج او ما يسميه ‘اوليفيه روا’ الجهل المقدس، فالجهل احيانا مطلب لاقصاء الشك عن الوثوقية وجنة اليقين، وما كان محظورا لزمن طويل تحوّل الى مكبوت مزمن ومن ثم الى مديونية تتطلّب السّداد، لكن من ظنّوا انهم احرقوا المراحل لم يسددوا من هذه المديونية المعرفية غير نسبة الرّبا فقط، ولأن مهنة المثقف تعاني من التباس شديد في مجتمعات تراوح بين الزراعي والريعي والرعوي وفيها من نسبة الامية ما يتيح للأعور ان يصبح زرقاء يمامة، فإن الأساسي تحول الى ثانوي، مثلما تحول الثانوي الى اساسي، وهذا شكل آخر للتخارج الذي شمل كل الاطراف ومنها علاقة من يسمى المثقف بالثقافة.
* * * * * * *
احيانا تصبح الكتب توابيت من ورق يكتظ داخلها مؤلفون وشخوص وأبطال روايات، ومنذ صدورها الذي يحتفى به بحفلات توقيع ذات ايقاع طقوسي تبدأ بانتظار قيامة تعيد الورق الى نضارته على الشجرة .
أعرف كم هو عسير التخلي عن الأوهام فهي عزاء المحروم الذي يتذرع بالقداسة والمناقبية، لكن لدينا من هذه الاوهام ما يكفي ويفيض لإغراق الواقع كله من حولنا، فلا بأس ان نقشر بعضها كالبصلة ونواجه واقعا ضاغطا على انوفنا لكننا نتجاهله، تارة بالتخيّل واخرى بالتماهي والتقمّص، فمهنة الكاتب في مجتمعات نيئة وذات ميراث شفوي وحداثة عهد بالتّدوين لم تفرز بعد بالقدر الذي يتيح لها أن تحتل حيّزا معترفا به، وهذا ما يهمس به ويشكو منه أغلب من يكدحون في هذا المجال من الكتّاب العرب، لكن ما ان تأزف لحظة الكشف والمواجهة حتى يتم استدعاء احتياطي الوَهْم لترميم ذات جريحة .
اخيرا، قد نترجم كل ما يصدر من معرفة في عالمنا لكنه ما ان يصل حتى يضلّ الطريق، فمن ليس به حاجة روحية ونفسية لهيجل او فوكو او اية حفريات سيقرأ ما يصل اليه بفضول سياحي وسرعان ما يلاقي احد مصيرين، إما ان يعاد انتاجه كما أعيد اتباع مصطلحي التراجيديا والكوميديا او يتحول الى قبّعة ترتدى وتخلع تبعا للمناسبات وضرورات الاستعراض التعويضي ..

 

. عن القدس العربي

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail